نهى الزيني والقضاء المصري

نهى الزيني والقضاء المصري

ت + ت - الحجم الطبيعي

أثار خطاب المستشارة المصرية نهى الزيني إلى جريدة »المصري اليوم« حول وقوع تزوير واضح في نتيجة الجولة الأولى من المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية المصرية التي أجريت يوم 20/11/2005، جدلا واسعا بين مؤيد ومعارض حول لجوء ممثلي القضاء لوسائل الإعلام والتعبير عن آرائهم.

والذي حدث أن السيدة نهى، والتي تشغل منصب نائب رئيس النيابة الإدارية، كانت واحدة من المنتدبين الممثلين لقضاة مصر لمراقبة إحدى اللجان الفرعية في الدائرة الأولى (قسم شرطة دمنهور)، حيث شهدت واقعة تزوير لصالح أحد مرشحي الحزب الوطني الحاكم ضد مرشح الإخوان المسلمين، فما كان منها إلا أن لجأت للإعلام لتعيد الأمور إلى نصابها على الأقل أمام نفسها، وأمام المواطنين.

وما فعلته السيدة نهى قد أثار الكثير من الجدل حول أحقية القضاة في الاتصال بالإعلام والتعبير عن آرائهم وتوجهاتهم، وهو ما يتعارض مع حيدة القضاء واستقلاليته. والواقع أن خطاب السيدة نهى إلى الصحيفة المصرية قد عبر عن العديد من الهواجس التي أثارها القضاة المصريون منذ انتخابات الرئاسة المصرية الأخيرة، وعن طبيعة دورهم في الحياة السياسية.

كشف خطاب السيدة نهي عن تلك العلاقة الناعمة التي تربط بين النظام السياسي في مصر وبين سلك القضاء، حيث بين خطابها طبيعة الامتيازات التي يحصل عليها رجال القضاء، والتي تغمرهم بذهب المعز، وتلحقهم بالسلطة.

تصف السيدة نهى رحلتها من القاهرة إلى دمنهور لمراقبة الانتخابات قائلة »كانت الرحلة ميسرة فقد وفرت اللجنة العليا كل شيء من تذاكر سفر مجانية إلى إقامة على أفضل مستوى، إلى بدل إعاشة جيد إلى سيارات بسائقين متخصصة لتنقلاتنا، هذا فضلا عن مكافأة الإشراف التي سوف تصرف لاحقا بمعدل عدة آلاف من الجنيهات لكل عضو«.

والواقع أن السيدة نهى أرادت منذ بداية خطابها أن تبين حجم اهتمام النظام السياسي في مصر بالقضاء، أو ربما أرادت أن تكشف عن الطريقة التي يتم بها تأطير القضاء لصالح تنفيذ سياسيات بعينها. هذا الوضع المريح ماديا على الأقل، وهذا التمجيد المتواصل من قبل النظام السياسي في مصر قد أحال القضاء إلى تنظيم اجتماعي غير محتك بأحداث الواقع المعاش من جانب، وغير قابل للنقد من جانب آخر.

لذلك، فإن القضاء المصري لم يتدخل منذ زمن بعيد في أية أحداث سياسية إلا في انتخابات الرئاسة الأخيرة، والانتخابات التشريعية الحالية، وذلك تحت وطأة وعمق التحولات التي يشهدها المجتمع المصري الآن، والتي على ما يبدو أنها قد طالت الجميع بمن فيهم رجال القضاء أنفسهم.

لم يقف خطاب السيدة نهى عند هذا الحد، بل إنه قد أراد تواصلا مباشرا مع الهاجس المجتمعي، حينما أكد على أن هذه الرحلة الناعمة إلى مقر لجنة الانتخابات، وهذه الأموال المغدقة على مراقبي الانتخابات من قضاة مصر ليست هبة من أحد، بقدر ما إنها تُدفع من »ميزانية الدولة أي من أموال دافعي الضرائب، وهم الناخبون الذين دفعوا لنا كل هذا طواعية مقابل أن نؤدي واجبنا ونحمي إرادتهم من أي تزييف،

ونحمل أمانة أن يمثلهم المرشحون الذين يختارونهم هم ـ لا الحكومة ـ في مجلس الشعب«. يخلق الخطاب هنا انقطاعا مع محاولة تحنيط القضاء وقطع أواصره المجتمعية. فإذا كان للقضاء هيبته واحترامه، وإذا كان لابد من توفير حياة كريمة للقضاة، تؤمن لهم عملهم وحيدتهم أمام ما ينظرونه من قضايا، وما يفصلون فيه من مصالح العباد،

فإن الأمر لا يعني في النهاية انقطاعا عن قضايا الأمة، وأحداثها المصيرية, فالقضاة في النهاية شريحة مجتمعية ينتفعون بما ينتفع به وطنهم، ويصيبهم ما يصيبه. من هنا، فإن هذه الامتيازات المادية المدفوعة بالأساس من أموال الشعب المصري الكادح، يجب ألا تدغدغ مشاعر القضاة الشرفاء، وتفصلهم عن باقي أفراد المجتمع.

وطالما أن القضاة هم في النهاية جزء لا يتجزأ من بنية المجتمع، على الرغم من كونهم الجزء الأهم والمحوري في أية ثقة وشفافية مجتمعية مأمولة، فإنهم أيضا ينطوون على الصالح والطالح. ولعل هذا هو الجزء الأهم من خطاب السيدة نهى التي أرادت من خلاله أن تبين تواطؤ بعض القضاة مع مرشح السلطة والعمل على إعلان فوزه رغم وضوح خسارته بمعدلات فارقة عن مرشح الإخوان المسلمين.

لقد اعتادت السلطة في مصر أن تدلل القضاة، ربما رغبة منها في تحييدهم أو تحنيطهم، بحيث أضحى القضاة نماذج مثالية لا يجب الاقتراب منها أو محاولة نقدها. وفي هذا السياق، يكتسب خطاب السيدة نهى أهميته من حيث أنه خطاب يمثل أحد الأصوات القضائية الشريفة التي تحترم القضاء وتمارس الحيادية بشكلها المطلوب، لا بشكلها المتعالي المنقطع اجتماعيا،

ومن حيث أنه يكشف من داخل سلك القضاء ذاته عن وجود قدر ما من التواطؤ مع السلطة، رغبة في إنجاح مرشحيها، وتنفيذ سياساتها. الشيء اللافت للنظر هنا أن خطاب السيدة نهى قد حرك مشاعر القضاة الشرفاء مما دفع 137 قاضيا من مشرفي لجان الدائرة نفسها البالغ عددهم 160 قاضيا إلى الوقوف خلفها والتأكيد على ما جاء في خطابها، وهو ما يؤكد على أن نقد القضاء والكشف عن بعض المفسدين فيه، لن يضعف من هيبته، بقدر ما يؤكدها، ويعلي من شأنها.

أهم ما يكشف عنه خطاب السيدة نهى أن مواجهة حالات الفساد والتزوير في المجتمعات العربية بعامة، والمجتمع المصري بخاصة، مازالت تتم بشكل فردي، يعتمد على أخلاقيات الأفراد، وقدراتهم الذاتية على المواجهة، وتحمل العواقب والنتائج أيا كانت تبعاتها. ففي حالة السيدة نهى، فإنها قد بادرت إلى الإعلان عن حالة التزوير، بشكل فردي،

كما يلفت النظر أيضا أن الـ 137 قاضيا الذين ناصروها لم يتحركوا إلا بعد أن نشرت السيدة نهى خطابها على صفحات الجرائد. بادرت السيدة نهى بخطابها الفردي هذا متحملة في سبيل ذلك مواجهة السلطة من جهة، والمؤسسة التي تنتمي إليها من جهة أخرى.

ورغم أن اللجنة العليا للانتخابات في مصر قد أكدت على عدم قيامها بالتحقيق مع أي قاض يكشف عن وقائع التزوير أيا كانت الوسائل التي يتخذها في سبيل ذلك، فإن السيدة نهى لم تسلم من اتهامات السلطة ممثلة في مرشحه الحزب الوطني الذي اتهمها بميولها الإخوانية، وعلاقاتها بمرشح الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي نفته السيدة نهى نفيا قاطعا.

كان من الممكن أن يمر ما فعلته السيدة نهى مرور الكرام، لو أن ممارسات الفساد والتزوير يتم ملاحقتها والكشف عنها أولاً بأول، لكن وفي ضوء التغاضي المستمر عن مثل هذه الممارسات في عالمنا العربي، يمكن تفسير ذلك الاحتفاء الكبير الذي حظيت به السيدة نهى من خلال كشفها الفردي عن واقعة تزوير الانتخابات.

كاتب مصري ـ جامعة الإمارات

Email