الخليج ليس نفطاً

الخليج ليس نفطاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

ها أنذا أجيل النظر على أرفف مكتبتي لأختار بعضاً من كتبها لتكون لي سلوى وأنيساً في ساعات الوحدة الطويلة في المستشفى.

وها أنذا بطريقة لا شعورية اتجه صوب الأدب فتقع عيناي على سلسلة »من المسرح العالمي«، تلك السلسلة الرائعة من أمهات المسرحيات العالمية التي مازالت وزارة الإعلام الكويتية تنشرها تباعاً كل شهر منذ العام 1969.

تمعنت كثيراً في أعداد تلك المسرحيات وتذكرت كتاب أستاذنا الفاضل الدكتور محمد الرميحي »الخليج ليس نفطاً«، حقاً الخليج العربي به ثروات غير النفط، كذاك الشخص الذي فكر بإصدار تلك السلسلة الفخمة تلك الأيام.

ماذا كانت منطقة الخليج العربي آنئذ كي يفكر أحد رجالاتها ومثقفيها واسمه أحمد العدواني لتبني هكذا مشروع حضاري، يعرف فيها أبناء أمته العربية بأرقى نتاجات الحضارة الإنسانية، بترجمات راقية سَلِسة تضاهي الأصل، وبطبعات جيدة تكون في متناول الجميع بأسعار رمزية.

لم يكن المرحوم أحمد العدواني وكيلاً لوزارة الإعلام في المقام الأول، بل كان شاعراً وأديباً ساقته الأقدار لتبوء ذلك المنصب، فأبلى فيه بلاءً حسناً.

وهو من ذلك الصنف من الرجال الذين يُسخرون مناصبهم الإدارية للأعمال النافعة، فيستفيدون من إمكانيات الدولة ليوظفوها في أفضل السبل بما يعود بالخير على الجميع. هكذا عَرفنا العدواني بمسرحيات يوريبيديس وسوفكل وأريستوفانيس وشكسبير وشلر وجيته وآرثر ميلر وهنري إبسن وجيمس جويس وإليوت وبريشت وغيرهم الكثير.

وهكذا جمع جمهرة من المترجمين الحصيفين الذين أعطوا رونقاً عربياً مميزاً لترجماتهم أمثال الدكتور عبد الرحمن بدوي والدكتور عبد الواحد لؤلؤة والدكتور طه محمود طه وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم من الفطاحل.

والثابت أن الأستاذ أحمد العدواني(1922-1990 ) كان حدباً على تلك السلسلة، فلم يعتبرها مشروعاً إعلاميا أو بالأحرى مشروعاً »للبهرجة والدعاية«، بل عملاً تنويرياً أصيلاً، لذلك، كان هو شخصياً يسام فيه، ليس كموظف يقوم بالواجب، بل كشاعر وأديب يؤدي رسالة، حيث كان يراجع الكثير من تلك الترجمات ويعلق عليها.

وأغلب الظن أن حرصه الشخصي جعل الأعداد التي أشرف عليها إلى العام 1990 تأتي بشكل أكثر اتقاناً من تلك التي صدرت بعد وفاته، ذلك أن كل عدد من تلك الأعداد كانت تتصدره دراسة تحليلية عميقة ومطولة عن المؤلف المسرحي ومسرحياته بشكل لا يضاهيه ما نجده في أعداد هذه الأيام للأسف الشديد!!

وقد انتقيت من تلك السلسلة ثلاثة مجلدات تحتوي على سبع مسرحيات لجورج برناردشو.

ولم يخب ظني فيما انتقيت، إذ رفهت أعماله التي تتسم بأسلوب ساخر ولاذع عن نفسي في أوقات الوجع والألم، ونبهتني إلى تلك القضايا الإنسانية والسياسية التي عالجها قبل قرن ونيف والتي لا تزال مهمة في حياتنا هذه الأيام. والحق أن شو الذي عاش قرناً تقريباً (1856-1950) لم يكن مسرحياً منعزلاً عن المجتمع.

بل ناشطاً في المجال العام طوال حياته، موظفاً مسرحياته لرسالة سامية آمن بها. وشو الأيرلندي الذي حمل نظرة ايجابية للعرب وللإسلام، كان يشن هجوماً ساخراً على الانجليز، أما أقذع حملاته فقد شنها على الأميركان، إذ كتب مرة في هذا الشأن قائلاً:

»لقد راعيت جهد طاقتي ألا أكتب قط عن الولايات المتحدة كلمة مؤدبة، وقلت عن أهلها أنهم أمة من الريفيين، وقلت أن تعريفي للأميركي القح مئة في المئة هو أنه أحمق تسعة وتسعون في المئة«.!

وبرنارد شو كان يكره الحرب ويدعو إلى السلام.

وكان في سعيه لذلك يسفه القادة العسكريين الذين بنو مجدهم وعظمتهم على جماجم البشر، في الوقت الذي كانت فيها بريطانيا في قمة عزها وسؤددها. وكان نصيب نابليون ـــ وهو أعظم الفاتحين في العصر الحديث ـــ الكثير من نقده بالذات في مسرحيته »رجل المقادير« التي كتبها في العام 1896، ففيها يصوره .

وقد حمل أخس الصفات الإنسانية وأرذلها فضلاً عن أن انتصاراته إنما كانت بسبب صدف محضة. على أن الطريف في مسرحيته تلك ذلك النقد الذي يصبه على المجتمع الإنجليزي بلسان نابليون الذي يحاور إحدى السيدات إذ يقول ساخراً:

»وهو يفخر ـــ أي الإنجليزي ـــ بأن أي عبد من العبيد يصبح إنساناً حراً في اللحظة التي تطأ فيها قدمه بريطانيا، ويبيع في الوقت ذاته أطفال فقرائه في سن السادسة ليعملوا بالسوط في مصانعه ست عشرة ساعة في اليوم.

هو يقوم بثورتين في تاريخه ثم يعلن على ثورتنا الحرب باسم القانون والنظام ـــ يقصد نابليون وقوف بريطانيا ضد الثورة الفرنسية1789 ـــ أنتِ لن تجدي عملاً فائق الشر أو فائق الخير إلا ويعمله الإنجليز، ولكنكِ لن تجدي قط إنجليزياً على خطأ.

هو يستند في كل أعماله على مبدأ. يحاربك استناداً إلى المبادئ الوطنية، ويسرقك استناداً إلى مبادئ الأعمال والتجارة، ويستعبدك استناداً إلى المبادىء الأمبراطورية، ويستأسد عليك استناداً إلى مبادئ الرجولة.

ويناصر ملكه استناداً إلى مبادئ الولاء، ويقطع رأس ملكه استناداً إلى المبادئ الجمهورية«.!وظني أن جورج بوش الابن سيكون في حيرة من أمره لو قرأ مسرحية شو »تلميذ الشيطان« التي كتبها في نفس فترة المسرحية السابقة والتي تصور المجتمع الأميركي إبان ثورته للاستقلال عن بريطانيا.

فحينما يقبض على ما أعتقد إنه قس المدينة ويساق إلى حتفه، يجري حوار بين قائدين إنجليزيين حول جدوى شنق هذا القس، خاصة بعد وصول أخبار تفيد أن باقي المدن قد وقعت بيد الثوار الأميركان. يقول أحد القادة محاوراً صاحبه:

»إعدام هذا القس مبالغة في إظهار أهميته. ماذا يمكن أن تصنع أكثر من هذا لو أنه كان عضواً في كنيسة إنجلترا؟ أهل هذا البلد مغرمون بشيء اسمه الاستشهاد، هو الطريق الوحيد الذي يسمح لإنسان تافه أن يصبح مشهوراً«.!

إذن، أهل الولايات المتحدة الأميركية كانوا مغرمين بالاستشهاد طلباً للحرية، فهل يمكن أن يكون الاستشهاد طلباً للحرية حقاً مقبولاً للآخرين أيضاً؟

Alyusefi@hotmail.com

كاتب كويتي

Email