بينما تحتفل بلد المليون شهيد..و المجاهد التاريخي الأمير عبد القادر الجزائري، والأبطال الخمسة..بن بيللا، وخيضر، وبو ضياف، وآية أحمد، وبيطاط.. والجميلات الثلاث.. جميلة بو حيرد، وجميلة بوعزة، وجميلة بوعلم، بمرور نصف قرن على انطلاقة ثورة التحرير الشعبية الجزائرية ببيان من إذاعة صوت العرب المصرية بصوت الرمز التاريخي للثورة أحمد بن بيللا، في الفاتح من نوفمبر عام1954،
إذا بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة أحد أبرز رفاق النضال يقدم للشعب الجزائري أجمل هدية، وللشهداء المليون أجمل باقة ورود، ولإخوانه القادة العرب أجمل سابقة، عندما نقلت لنا شاشات التلفزيون الجزائري مشهدا نادرا على المستوى العربي، ورائعا على المستوى الجزائري،
يظهر فيه بوتفليقة لأول مرة مع إخوانه في النضال التاريخي الجزائري، الرؤساء بن بيللا، وبن جديد، وعلى كافي، إرساء لقاعدة أن الخلاف السياسى لايعنى العداء،
وأن العمل الوطني متعدد المراحل ومتعدد الاجتهادات، لكنه في النهاية ذو هدف واحد هو التحرير والوحدة لبناء الوطن من جديد بكل أبنائه وبكل أطيافه السياسية بغير إقصاء أو تهميش، في مبادرة أصيلة لمصالحة تاريخية بين مراحل سنوات الثورة، وما بعد الاستقلال في العام 1962 ومن يمن الطالع أن تكون هذه الصورة.. جميلة لعدة معان وأبعاد..
جميلة أولا، لأنها توافقت مع عيد الفطر المبارك عيد الخيرات والمصالحات، وقد ظهر في أحد المشاهد صوت بوتفليقة الودود مؤكدا المعنى قائلا »الصلح خير«.. وجميلة ثانيا.لأنها جاءت في ذكرى احتفالات العيد الحادي والخمسين لثورة المليون شهيد، التي توازى فيها النضال السياسي مع النضال العسكري لإنجاز التحرير..
وجميلة ثالثا، لأنها أعقبت التأييد الشعبي الجارف لميثاق السلم والمصالحة، وتوجت نتائج الاستفتاء التي تطوى صفحة الماضي، وتفتح الطريق لأفق جزائري جديد.
لقد أعاد هذا المشهد إلى الذاكرة العربية مشاهد أخرى عديدة في مراحل مختلفة لنضال الثورة الجزائرية، بكل ما فيها من رموز، ومعان، ومن ضوء وظل.
المشهد الأول..
في فترة اشتعل فيها النضال الشعبي ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في المغرب وتونس في أوائل عام1954، وبينما كانت القوى الوطنية الجزائرية تسعى لنيل الاستقلال من خلال النضال السياسي، إذا بالمستعمرين يفاجأون بعملية فدائية عسكرية كبيرة في »وهران« كإنذار على بداية الكفاح المسلح بعد أن سئم قطاع من الشباب الجزائري الوطني من عدم جدوى الكفاح السياسي..
في أعقاب ذلك، وصل إلى »القاهرة« شاب جزائري ممشوق القامة كانت تطارده قوات الاحتلال بعد عملية وهران أطلق على نفسه إسم »مزيانى مسعود« وتوجه فورا إلى إذاعة »صوت العرب« والتقى بالإذاعي المعروف »أحمد سعيد« الذي قدمه إلى قائد الثورة المصرية "جمال عبد الناصر"..
كانت القاهرة تعيش أجواء ثورة وليدة كانت لا تزال في قلب معركة استقلال مصر عن الإنجليز، ولم تكن قد استقرت تماما بعد، لكنها مع ذلك كانت ترى أن استقلال الوطن العربي لا يتجزأ، ولأن الاستعمار تحت كل الأسماء واحد، فإن الكفاح ضده بكل الوسائل ينبغي أن يكون واحدا.
وبالتنسيق مع مكتب المغرب العربي في القاهرة، وفي رحاب جامعة الدول العربية، وبجهد مباشر من الثورة المصرية تم الإعداد لدعم انطلاقة ثورة التحرير الجزائرية، لتكتمل ثورة المغرب العربي كله من أجل الحرية..وبلغة عربية بلكنة فرنسية أعلن بن بيللا أول بيان للثورة.
المشهد الثاني..
كنا لا نزال طلابا في العام 1962 عندما خرجنا مع جموع غفيرة من جماهير الشعب المصري على طول الطريق من مطار القاهرة، وحتى قصر الضيافة للتعبير عن فرحة مصر بالإفراج عن الأبطال الجزائريين الخمسة بعد سبعة أعوام من اختطافهم ووضعهم في السجون الفرنسية،
وبعد اتفاقية "إيفيان" التي وقعتها الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة "يوسف بن خدة" التي نصت على تسليم فرنسا باستقلال الجزائر بضغط المقاومة المسلحة التي خاضتها "جبهة التحرير الوطني الجزائري" في الميدان بقيادة المناضل العسكري "هوارى بومدين".
كان مفهوما أن ينشأ نوع من التباين بين من أعلن بيان الثورة المسلحة عام 54 وبين من أعلن اتفاق الاستقلال السياسي عام 62 من جهة، ومن جهة أخرى نشوء نوع من الحساسية بين بن بيللا الذي كان يمثل البريق السياسي للثورة ورفاقه في انطلاقها، وبين بومدين الذي كان يمثل بريقها العسكري ورفاقه في استمرارها!
كان المناضل الشاب عبد العزيز بوتفليقة ذو الأربعة وعشرين ربيعا من أقرب رفاق بو مدين، وكان "على كافي" أيضاً من أقرب رفاق الرجلين، وعندما وصل بن بيللا ورفاقه إلى القاهرة، ودعا رؤساء البعثات الدبلوماسية لاستقبالهم بالمطار، اختار على كافي الذي كان رئيسا لمكتب الجبهة في مصر ألا يذهب لاستقباله!
المشهد الثالث..
اختار شعب الجزائر عبر صناديق الانتخاب أحمد بن بيللا كأول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة، الذي شكل حكومة تضم أطياف الثورة، كان بومدين هو الرجل الثاني ووزيرا للدفاع، وبوتفليقة وزيرا للشباب، ثم تولى وزارة الخارجية بعد اغتيال المناضل "محمد خميستى" وزير الخارجية وأقرب
الرفاق إلى بن بيللا.
على مدى السنوات الثلاث التي تلت الاستقلال اتسعت مساحة الخلاف في التوجهات بين المؤسسة السياسية "بن بيللا" وبين المؤسسة العسكرية "بومدين"، انتهت بشقاق بين رفاق الثورة، بانقلاب التاسع عشر من يونيو عام 1965، ويعتقل بن بيللا من فيللا "جولي" إلى معتقل عسكري ليقضى فيه 16 عاما أي ضعف المدة التي قضاها في السجون الفرنسية!
المشهد الرابع..
في نهاية الجمهورية الجزائرية الثانية وبينما الرئيس بومدين عائد من رحلة علاج فاشلة لمرض أحار الأطباء، وقبل دخوله في غيبوبة الموت الطويلة كانت آخر كلماته لرفيقه الذي يبكيه توصيه بالعمل على الإفراج عن بن بيللا، والحفاظ على الجزائر موحدة وقوية.
المشهد الخامس..
بوتفليقة يغيب عن مقاعد القيادة ويغيب عن المسرح السياسي الجزائري لسنوات مابين أوروبا والإمارات.. حيث كان لي شرف لقائه فيها وفي مجلس مفتوح دار بيني وبينه نقاش طويل عن مقدمات الخلاف بين الرفاق ونتائجه..
وما انتهى إليه حال الجزائر بعد فوز الجبهة الإسلامية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد والاقتتال الدامي فيها، وقد بدا بوتفليقة حينها قلقا على سلامة بلاده، ولم ادر حينها أنه سيكون على موعد قادم مع القدر ليحقق السلام والوئام الوطني بين أطياف الشعب الجزائري الشقيق. ويتوج ذلك بمشهد المصالحة التاريخية.. الجميل بين الزعماء.
كاتب مصري