عندما ينكشف الكذب ـ ممدوح طه

عندما ينكشف الكذب

ت + ت - الحجم الطبيعي

في اعتراف مثير هو الأول من نوعه لكولن باول، عبر وزير الخارجية الأميركية السابق لصحيفة «الديلي تيليغراف» البريطانية عن ندمه على اتهاماته الكاذبة للعراق بامتلاك أسلحة دمار شامل.

وقال «باول» إن خطابه في مجلس الأمن في مطلع عام 2003 والذي تضمن ما وصفه بأدلة دامغة على تلك الاتهامات بالصوت والصورة «سيظل نقطة سوداء في ملفه».

وكان كولن باول قد طلب عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يبيح للولايات المتحدة وبريطانيا شن الحرب على العراق بزعم القيام بنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية.

وبوسائل سمعية وبصرية تولى باول مهمة المدعي العام العالمي ضد العراق المتهم بامتلاك هذه الأسلحة، وعرض صوراً التقطتها الأقمار الصناعية لما وصفه بمستودعات ثابتة ومعامل متحركة لهذه الأسلحة، كما عرض تسجيلات صوتية مفبركة لمن وصفهم بضابطين عراقيين يتحادثان لإخفاء أدلة عن المفتشين الدوليين متهماً العراق بمحاولة خداع العالم، قائلاً: «إن الرئيس العراقي صدام حسين مصمم على امتلاك قنبلة نووية».

وبينما كان هو الذي يحاول خداع العالم بتلك الأكاذيب نفى الرئيس العراقي صدام حسين في حديث للتلفزيون البريطاني وجود أية أسلحة للدمار الشامل في العراق أو أية علاقات مع تنظيم القاعدة متهماً الولايات المتحدة وبريطانيا بالسعي إلى السيطرة على النفط العراقي وفرض الهيمنة على العالم.

وكان خطاب باول الشهير في مجلس الأمن قد جوبه بمعارضة صلبة من وزير الخارجية الفرنسي «دومينيك دو فيلبان» معارضاً شن حرب على العراق وداعياً إلى ترك تقديم الأدلة الحقيقية على تلك المزاعم للمفتشين الدوليين للأمم المتحدة.

وفي تلك الأثناء بدا للوفود العربية والألمانية والروسية والصينية أن الولايات المتحدة وبريطانيا لا تريدان استمرار مهمة المفتشين الدوليين في العراق حتى لا يكشف تقريرها خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل تلك الادعاءات الكاذبة.

والجدير بالذكر أن هذا هو ما انتهت إليه لاحقاً لجنة المفتشين الدوليين برئاسة كبير المفتشين «هانز بليكس» بل هي نفس النتيجة التي انتهت إليها لجنة التفتيش الأميركية برئاسة «ديفيد كاي» بعد مواصلة التفتيش لعدة شهور بعد الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق الذي وقع رغم معارضة مجلس الأمن الدولي.

ويجيئ ندم «باول» بعد ما سبقه «كوفي أنان» الأمين العام للأمم المتحدة بوصف هذه الحرب التي شنت بذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية بأنها «غير قانونية»، وبعد تأكيد محمد البرادعي رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية بخلو العراق من الأسلحة النووية.

وقد آثارت اعترافات باول بعدم صحة الاتهامات التي وجهها للعراق إهتمام الصحف الفرنسية، ونقلت عنه صحيفة «لو نوفيل أوبسيرفاتير» قوله: «إنها فعلاً نقطة سوداء لأني كنت أنا الذي قدمتها للعالم وكان ذلك صعباً علي ويبقى حتى اليوم أمراً صعباً».

وربما حاول باول التخفيف من وقع الصدمة بانكشاف الكذب قائلاً: «إن جورج تينيت رئيس الاستخبارات الأميركية كان يعتقد أنه يقدم لي معلومات صحيحة قبل أن يعترف هو الآخر بأن نظام الاستخبارات لم يكن يعمل بشكل صحيح».

هذا الاعتراف من جانب باول يكشف منظومة الكذب الأميركية التي حاولت في البداية إعفاء الرئيس الأميركي «بوش» من مسؤولية العلم بعدم صحة الاتهامات ضد العراق، وهي في تسلسلها تحاول إعفاء باول الذي يحاول بدوره إعفاء «تينيت» الذي ألقى الكرة أخيراً في مرمى من أسماهم بعملاء عراقيين ضللوا الاستخبارات.

وهذا يعني أن الأميركيين لا بد أن يكونوا هم الأبرياء، بينما العراقيون هم المتهمون إما كنظام بامتلاك الأسلحة أو كعملاء بتقديم معلومات مضللة للأميركيين!

ولم تكن منظومة الكذب في موضوع الأسلحة هي التي انهارت أمام العالم فقط باعترافات باول، وإنما انهار أيضاً مسلسل المزاعم الكاذبة التي حاولت التغطية على زيف الكذبة الأولى، فحاولت الإدارة الأميركية أن تروج لتهمة بديلة هي وجود علاقات بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة بما يعني أمام الرأي العام الأميركي صلة العراق باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر.

ورغم اشتراك معظم عناصر تلك الإدارة في الادعاء بذلك الاتهام لعدة شهور قبل أن يتهاوى هو الآخر بصدور تقرير لجنة تحقيق برلمانية أميركية بأن لا صلة بين النظام العراقي وما حدث في الحادي عشر من سبتمبر.

ولا رابط بين الرئيس العراقي ومنظمات الإرهاب، فإنه من اللافت للنظر أن يحاول باول في اعترافه المثير بالندم أن ينفي عن نفسه أنه تورط في توجيه الاتهام الثاني بالإرهاب للنظام العراقي، فقد نقلت عنه الصحيفة الفرنسية المنقولة على موقع «الجزيرة نت» نفيه عقد أي صلة بين العراق وأحداث سبتمبر قائلا: «ببساطة لم أر أي دليل على وجود مثل تلك الصلة».

وحتى هذه المحاولة بالتنصل من كذب هذا الادعاء لم تكن صحيحة ذلك أن باول نفسه هو الذي قال في الأمم المتحدة: «إن العراق مرتبط بالإرهاب منذ عشرات السنين»، ولما لم تجد الإدارة الأميركية ما تبرر به حربها ضد العراق بعد تهاوي تلك الادعاءات الكاذبة، أطلقت الكذبة الثالثة بأنها احتلت العراق لنشر الديمقراطية وتحرير العراق من النظام الديكتاتوري !

وإذا بدا صحيحاً أن النظام العراقي كان دكتاتورياً، فلم يكن صحيحاً على الإطلاق أن الديمقراطية كانت هدفاً يساوي ألفي قتيل أميركي ومليارات الدولارات الأميركية أسبوعياً ثمنا لهذه الديمقراطية المدعاة.

لكن الأكثر إثارة في اعترافات باول هو قوله إنه كان مقاتلاً رغم أنفه، مبرراً إنسياقه خلف الرئيس بوش في حربه ضد العراق بأن بوش أقنعه بأنه ليس من الممكن ترك العراق يخالف قرارات مجلس الأمن!

إن توقيت إبداء هذا الندم من باول جاء بعد خراب «بغداد» في وقت لم يعد ينفع فيه الندم بعد أن ورط بوش ليس باول فقط وإنما الجيش الأميركي بالغرق في مستنقع العراق الذي ظل هو مصدر العواصف الأميركية الرافضة التي أحاطت بالسياسة الأميركية بعد عاصفة الصحراء في العراق.

والتي تصاعدت إلى حد محاصرة أسر الجنود القتلى لمزرعة بوش في «تكساس» احتجاجاً على سياسته وذلك قبل الحصار الأكبر الذي أحاط «البيت الأبيض» بعد غضب الإعصار.

وعلى أي حال.. فالاعتراف بالحق خير من التمادي في الباطل.

وإذا كان الجنرال باول قائد حرب عاصفة الصحراء قد واتته الشجاعة للاعتراف بالندم على اتهامات ظالمة للعراق.. فهل نتوقع من الرئيس الأميركي بوش قدراً أكبر من الشجاعة، وهو لا يزال يواجه العاصفة السياسية في قلب الإعصار «كاترينا»، الذى أجبره على إعادة الآلاف من جنوده من العراق المنكوب بالاحتلال إلى الجنوب الأميركي المنكوب بالإعصار..

وذلك بالعودة إلى الحق خصوصاً بعدما اتضح للعالم كله أن لا مخرج له من المستنقع الذي وضع أميركا فيه والمأزق الذى وضع نفسه فيه إلا بسحب بقية قواته من العراق.. ؟ أم يصر على المكابرة ثم يندم يوم لاينفع الندم ؟

كاتب مصري

Email