استراحة البيان ـ ذكريات مع «رسول القيصر» ـ يكتبها اليوم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاثنبن 18 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 19 مايو 2003 حين طالعت الكتيب الصادر مؤخرا عن دار «البيان» ورفيقاتها، عدت الى سنوات الصبا الأولى، وهي كما قد تتصور سنوات طويلة تقاس بالعقود. كيف لا والكتيب يحمل الى القارئ الجزء الأول من رواية (80 يوما حول العالم) من تأليف «غول فيرن»، الأديب الفرنسي الذي عاش على مدى ثلاثة أرباع القرن التاسع عشر الى ان رحل عن دنيا الاحياء في 24 مارس من عام 1905. تشاء الاقدار ان يكون «غول فيرن» أول أديب يلهب خيالي في أولى مراحل النشأة، وأنا أعبر الخط الفاصل بين الطفولة الى بواكير الصبا. كان «فيرن» أول كاتب روائي أجنبي أقرأ أعماله وأسبح في عالمه وأندمج في أجواء وتلافيف ذلك العالم المنسوج من خيوط الخيال والعلم. بديهي طبعا أنني لم أقرأ بالفرنسية وانما طالعته مترجما الى عربية جميلة وسائغة ورائقة من اصدارات «دار الهلال العتيدة» التي ما برح فضلها ـ هي وسلسلة أقرأ الصادرة عن مؤسسة «دار المعارف» ـ فضلا عميما ومتواصلا على أجيال من قارئي العربية ومن متذوقيها ومثقفيها الكبار والصغار على السواء. لست أدري ان كنت قد حدثتك عن قريب لي جاء من القرية ذات يوم ليلتحق بعمل بسيط.. عمالة نصف ماهرة وربما ربع ماهرة في مطابع «دار الهلال». هكذا شاءت طوالعنا السعيدة ان يكون لدينا «واسطة جامدة» في مؤسسة العم جورجي زيدان ونجليه شكري وأميل، وقصارى فضل الواسطة الجامدة هي ان يتاح لنا الحصول على مطبوعات دار الهلال التي كانت الدار توزعها بسخاء مهني على جموع من لديها من عمال وموظفين، يستوي في ذلك الصحفيون والكتاب مع الاداريين والعمال الذين كان قريبنا الهمام واحدا من جموعهم. ها أنا أذكر جلسة الصبي على رصيف شارع «الخليج المصري» قبالة مطابع دار الهلال قابعا في قارس الشتاء أو قيظ الصيف ينتظر قريبنا.. واسطتنا الى عالم القراءة ودنيا الثقافة والاطلاع.. موسيقى كانت أصوات الصفارة الثاقبة تشق سكون الشارع معلنة انصراف عمال دار الهلال.. يخرجون زرافات وصفوفا فيكاد مرآهم يحاكي المشهد الذي لا ينسى في فيلم الكوميديان العبقري شارلي شابلن بعنوان «العصر الحديث» تترامى من بين الصفوف جلبة لها ايقاع خاص تختلط برائحة التبغ الرخيص ورائحة أحبار المطابع والاصباغ الكيماوية.. ولم يكن الصبي ليأبه الى شئ من ذلك.. اللهم الا ان تحدق عيناه الصغيرتان في أيادي العمال الخارجين وقد أمسك كل منهم نصيبه في ذلك النهار من «غلة» المطبعة.. ان كان الأحد فهي مجلة «الاثنين والدنيا» وأن كان الخميس فهي مجلة «المصور» وأن كان الخامس من الشهر فهي مجلة «الكواكب» (100 صفحة شهرية بالتمام والكمال)، أما غرة الشهر الميلادي فكانت تحمل بشرى صدور «روايات الهلال».. منها كلاسيكيات جورجي زيدان شخصيا عن التاريخ الاسلامي. ومنها، وكان هذا مهما ومثيرا للفضول المعرفي، روايات عالمية توفر على تعريبها فريق من أكفأ المترجمين. صحيح اننا كنا قد بدأنا بسلسلة كان لها أثرها في تشكيل الوجدان لدى جيل كامل عند منتصف القرن العشرين.. كان اسمها «روايات الجيب» وكانت ميزاتها تتمثل أولا في دقة حجمها، وتتمثل ثانيا في رخص سعرها ولكن لا الحجم الصغير ولا الثمن الزهيد حالا دون ان تصدر روايات الجيب وهي كاملة الاوصاف كما قد نقول كان معظمها من ترجمة عمر عبد العزيز أمين أو محمد بدر الدين خليل أو محمود مسعود (عجيب ان تحفظ الذاكرة هذه الاسماء لمترجمين ثقات ورواد) نشتري رواية الجيب بقرش وأحيانا نشتري «كومة» منها من بائع الرصيف في الحي الشعبي وهي صفقة بالجملة تصل الوحدة منها الى نصف قرش وتقرأ عربية متقنة.. لا أخطاء مطبعية.. لا ألفاظ عامية ولا تعابير مبتذلة أو سوقية،كل ما هنالك ان المؤلف الفرنسي الأصل واسمه موريس لوبلان لا يكتب سوى روايات بوليسية بطلها ـ حتى لا ننسى ـ اللص «الشريف» ـ أرسين لوبين الذي يقفز في خفة الهر ويدخن سيجارة.. مصرية (كنا ننبسط بسذاجة شديدة من جنسية السيجارة). طبعا لم نكن نعرف ان روايات اللص الشريف كانت عملا أدبيا متوسط القيمة رغم رصانة ترجمتها الى لغة اليعاربة، ولكن الذي نعرفه هو ان «روايات الجيب» زرعت في نفوسنا الغضة عادة القراءة أو هي عادة احترام العمل المكتوب، والمطبوع والمنشور. هكذا كان لدينا الاستعداد للشغف بروايات الهلال حين صدر في واحد من أعدادها رواية أذكر غلافها بكل تفاصيله رغم مرور هذا الزمن الطويل..حملت عنوان «رسول القيصر» تأليف غول فيرن، ورسموا على الغلاف لوحة لفارس يمتطي جوادا ويلبس قبعة جلدية من مادة الاستراخان وهو يجوس بجواده في دروب سيبيريا المغطاة بالجليد والطحالب. قرأت الرواية مرة ومرات.. عاشت في خيالي الصبي بكل تفاصيلها.. وظل بطلها «ميشيل ستروغوف» ملازما لوجداني على مدى سنوات حتى لقد كنت أحفظ مقاطع كاملة من سرد المؤلف ومن حوار الشخصيات.. لاسيما وقد ظل فيرن ينتقل بقارئه ـ على ما أذكر ـ بين قصر الكرملين في موسكو الى سراي الغراندوق ـ ولي العهد في الأرياف ومنها الى قطار سيبيريا الذي يصل بين العاصمة الروسية الى دواخل روسيا الآسيوية حيث معسكر الخان المغولي التتري، عابرا ولايات ودساكر وغابات ومزارع يعيش فيها فلاحو الموجيك على اختلاف شعوبهم وثقافاتهم وأطوار حياتهم.. وحين كنا نتردد على قريتنا في وسط دلتا النيل كان أقاربنا من أبناء الفلاحين يجتمعون في ليالي السمر والحصاد الصيفية على مدى ساعات وهم يصغون الى الصبي القادم من القاهرة يروي على مسامعهم حكاية ستروغوف وناديا (فتاة أحلامه ـ أحلام البطل الروسي طبعا). وفي تلك الامسيات الساذجة كم كان الخط الاثيري الفاصل بين الواقع والوهم ينمحي ويتبدد فلا يستطيع المرء ان يميز بين الحقيقة أو الخيال. تلك كانت حكايتي مع المبدع الفرنسي غول فيرن.عايش خيالي منذ عقود طويلة ولم أكن أعرف وقتها ان الرجل ما زال معدودا من رواد أدب الخيال العلمي في كل ما أبدع من أعمال في مجال المسرح أو الرواية. درس «فيرن» القانون ولكنه كان بالعلم التطبيقي مشغوفا.. وكان عصر يفاعته ـ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ـ هو عصر تأسيس العلم الحديث بامتياز.. هي الفترة التي بدأت بنشر كتاب دارون عن «اصل الانواع» وبعدها توالت الاكتشافات والنظريات والاختراعات.. الكهرباء.. التلغراف. المذياع.. الغراموفون.. اللاسلكي. وفي عام 1863 استكشف غول فيرن افقا جديدا وطموحا هو ارتياد السموات، فأصدر رواية بعنوان «خمسة أسابيع في بالون» وكان البالون هو الجد المباشر للمنطاد كأول وسيلة عملية للطيران، وهو بداهة الجد الاعلى للطائرة التي حلق بها لأول مرة في التاريخ الاخوان «رايت» في تجربتهما الشهيرة وكان ذلك بعد صدور رواية فيرن بأربعين عاما.. وكان ذلك أيضا قبل رحيل الكاتب الفرنسي الى عالم البقاء بأربعة وعشرين شهرا. ومنذ 130 سنة بالضبط أصدر «فيرن» أشهر أعماله الروائية وأوسعها انتشارا بعنوان «حول العالم في ثمانين يوما» وقد خلبت ألباب القراء وقت صدورها مسلسلة في جريدة «الزمان» (الكان كما كان يسميها أهل الجيل الماضي في بلادنا) وكان غول فيرن قد حلق بقارئه ـ كما ألمحنا ـ الى أجواز الفضاء، بقدر ما غاص بالقارئ في رواية اخرى «20 ألف فرسخ تحت سطح البحر» وفي رواية ثالثة نزل بالقاريء أيضا في رحلة حاشدة بالاثارة العلمية الى قلب كوكب الارض. ورغم هذا جاءت رحلة الثمانين يوما حول العالم عملا شديد الواقعية على نحو ما تسجله «موسوعة وبستر» الادبية،فاذا أضفنا الى ذلك رواية ميشيل ستروغوف (رسول القيصر في ترجمة دار الهلال) وقد كان لها في وجدان العبد الفقير سحر.. أي سحر، لأدركت ـ عزيزنا القارئ ـ مقدار ما نحمده للعزيزة «البيان» وزميلاتها الصادرات في كل من الكويت والسعودية ومصر ولبنان وسوريا من فضل في نشر هذا العمل الجميل.. فما بالك عندما يكون هذا العمل «فوق البيعة» ـ كما يقولون ـ أي بالمجان..وهي بذلك «بيعة» رابحة في تصورنا لكل الاطراف.

Email