الثأر للأساطير القديمة، بقلم: مجدي شندي

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 16 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 17 مايو 2003 قبل أيام، اقامت القوات البريطانية احتفالية لتخليد ذكرى عدد من القتلى البريطانيين قرب البصرة بمناسبة مرور 90 عاماً على احدى المعارك التي لقوا حتفهم فيها على أيدي الثوار العراقيين. ومع ان الاحتفالية تبدو حدثاً عابراً، غير اني أرى الأمر محملاً بالايحاءات التي يجب ان تستحوذ على اهتمامنا. فهو اولاً احتفاء بذلك الماضي الاستعماري الذي يستعيده الاحتلال الحالي للعراق، وينم عن ان البريطانيين والاميركيين يعرفون حقيقة وجودهم هناك رغم الدعاوى التي تشهر في وجوهنا من ان العراق كان يمثل خطراً على الغزاة او انه يحوز أسلحة دمار شامل او غيرها من ذرائع، يعرف المحتلون انها كانت مجرد أسباب ملفقة كتلك الأسباب التي انتحلها قيس لرؤية ليلى، فلا أسلحة دمار شامل عثر عليها ولا ورقة واحدة تشير الى ادعاء ارتباط النظام العراقي بتنظيم القاعدة، وهو الامر الذي اوقع السياسيين الاميركيين والبريطانيين في حرج بالغ امام الرأي العام الذي يسأل ويستفسر.. ولم يعد اولئك السياسيون يراهنون الا على النسيان. وما يلفت الانتباه ان القطار الاميركي البريطاني يسير عكس اتجاه التاريخ فبدلاً ان ينخرطوا في موجة عالمية كانت قد بدأت قبل سنوات، وانطوت على اعتذارات وتقديم تعويضات من جانب المستعمرين القدامى للشعوب التي استعمروها، اذا بهم يفتخرون بماضيهم الاستعماري ويعيدون تجسيد لوحاته المأساوية دون وازع من ضمير. واذا كان البريطانيون قد احتفوا بماضيهم عبر احتفالية، فإن الاميركيين المحملين بمشاعر يمينية اصولية دينية احتفلوا بطريقة اخرى جعلت البعض يتساءل عما اذا كان ما يحدث يمثل ثأراً للسبي البابلي. فرغم ان الاميركيين لا يعيرون اهتماماً للتاريخ ويعتبرون الكلمة نفسها تدخل في باب العار، على اعتبار انه لا تاريخ لهم يفتخرون به، غير ان مؤثرات يمينية ـ صهيونية ـ جعلتهم يتعاطون مع ما كانوا يعتبرونه عاراً بالأمس. فالعراق يمثل موطن فجيعة وحزن مأساوي لدى اليهود، منه انطلقت القوات التي قضت على مملكة اسرائيل في العهد القديم وقام الملك الكلداني البابلي نبوخذ نصر (بختنصر) بما لا يزال اليهود يتذكرونه بمرارة وحسرة وندم، ويطلقون عليه «مأساة السبي البابلي». لم ينس اليهود ذلك ابداً، واستحضروه بشكل لافت للانتباه، بعد ان انشأوا دولتهم عام 1948، بل ربطوا بينه وبين مأساة الهولوكست التي جرت اسطرتها واتضح ذلك في تصريح ادلى به مناحيم بيغن عام 81 بعد الغارة على مفاعل اوزيراك اذ قال «ان المفاعل النووي لو لم يدمر لحدثت محرقة جديدة في تاريخ الشعب اليهودي.. لن تكون هناك محرقة جديدة ابداً.. ابداً» وبعد الغزو الحالي واحتلال القوات الاميركية العراق دعا احد الحاخامات الصهاينة الجنود اليهود في الجيش الاميركي المحتل الى ان يصلوا على ضفة نهر الفرات! اقول ان الجنود الاميركيين احتفوا بطريقتهم، فأطلقوا من ينهب ويحرق.. وقد ظللت لأيام طويلة اتابع اللصوص الذين يوقفهم الجنود الاميركيون بعد ان ثارت ثائرة الصحف الغربية، علني أجد من اولئك الذين بطحوا على الارض تحت سلاح الجنود واحدا كان ينهب او يحرق متحفاً او جامعة او مكتبة عامة، لكني فشلت تماماً.. فكل الذين اوقفوا امام العدسات كانت وجهتهم البنوك.. حيث اوراق العملة الاميركية الخضراء. وبصرف النظر عما اذا كانت القوات الاميركية والبريطانية قد اصطحبت هؤلاء اللصوص وادارت حركتهم.. ام انهم كانوا ابناء شرعيين لحالة الفوضى، غير ان المؤكد الوحيد انهم لصوص مختلفون لم يستهدفوا الاموال والاجهزة التي يمكن بيعها.. بل بدت سرقة هذه الاشياء وكأنها هامش القصة وليست متنها. يصرخ احد العراقيين «لقد فقدنا تراثنا القومي» ويصرخ الدكتور جون كيرتس الخبير بالمتحف البريطاني قائلاً «ان مكاتب متحف بغداد قد تعرضت لسحق منظم اذ جرى كسر الابواب وازالة الملفات والاوراق والافلام واقراص الكمبيوتر.. كل هذه الاشياء تم انزالها من على الارفف وتمزيقها لقد بدا المتحف بدون ذراعيه وساقيه». من الجامعات خرج اللصوص بأجهزة الكمبيوتر ومكيفات الهواء، لكن آخرين مصاحبين لهم قاموا باشعال النار في المعامل وفي قاعات الدراسة وألقوا اشرطة الافلام التعليمية على الارض المغطاة بالزجاج المكسر ثم اتلفوها او اشعلوا النيران فيها. مكتبة جامعة البصرة التي انشئت عام 1964 وتضم نصف مليون كتاب بينها مخطوطات ومطبوعات نادرة تعرضت كلها للنهب والاتلاف والمكتبة الوطنية ببغداد اصبحت كومة من الرماد على حد وصف مراسل الجزيرة بعد ان كانت ارشيفا علمياً يضم نسخا من كل الكتب التي صدرت في العراق ومنها اطروحات الدكتوراة والكتب القديمة النادرة، كما لقيت مكتبة الاوقاف وهي اكبر مكتبة اسلامية كانت تحتوي على نسخ من المصاحف ومخطوطات دينية لا تقدر بثمن نفس المصير. قد يتفهم المرء ان يلجأ اللص لسرقة ما يعتبره ثميناً او ان يلجأ من يعتبرون ان لهم ثأراً مع حزب البعث الى تخريب مقرات الحزب، لكن استهداف الجامعات والمكتبات الوطنية والمتاحف والاصرار على حرق على كل ما يمثل ذاكرة لها، امر يستعصي على الفهم خاصة اذا كان اولئك الذين هاجموا هذه الاماكن قد تركوا صور صدام والمطبوعات التي تم تأليفها لتمجيده على حالها، ودون ان يمسها احد، وهو امر فجر الغضب في شرايين عميد جامعة البصرة وجعله يتساءل بغيظ «اجيبوني.. هل الامر هو تحرير العراق ام تحرير اللصوص». لست احد الذين يتبنون فكرة المؤامرة لكن تجاهل الايحاءات التي تشي بها افعال المحتلين الاميركيين والبريطانيين اكبر مؤامرة ليس فقط على الحاضر الذي نعيشه ونكتوي بنيرانه، ولكن ايضاً على المستقبل، هذا اذا كان من بيننا من يصلون من اجل ان يأتي مبتسماً لنا، وليس ساخراً منا.

Email