استراحة البيان ـ الباشا الحكمدار .. والديمقراطية ! ـ يكتبها اليوم: محفوظ عبدالرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 14 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 15 مايو 2003 الفلاحون أطيب خلق الله، ولكن اذا أهنت موطنهم انقلبوا عليك. ولذلك عندما مثّل عادل امام فيلما سينمائيا بدا فيه اهانة لاحدى القرى المجاورة للقرية التي ولدت فيها، رفعت قضية امام القضاء. ورغم أنني قليل الصلة بالقرية منذ سنوات الا انه صدف آنئذ انني قابلت بعض أهل القرية التي أحست بالاهانة. وشرحت لهم انه لا أهانة هناك ولاما يشبهها. وأن الأمر أبسط من من رد فعلهم. لكنهم كانوا يحسون الاهانة بعمق. ورغم انني لم أفهم هذا كثيرا، الا أنني كنت أحسه من قبل. ولذلك عندما كتبت قصصا وجيزة عن القرية بحثت عن اسم قرية ليس موجودا في هذا العدد الكبير من القرى المصرية، وأذكر انني لجأت الى الخطط التوفيقية الذي كتبه علي باشا مبارك في القرن التاسع عشر فالقرى الجديدة قليلة نسبيا. واذكر أيضا أنني «ألفت» اسما هو «كفر الغرابوة» وهو اسم يبدو كأنه اسم قرية فعلا. وفي قصتي هذه التي قد لا تكون قصة اتخذ نفس العنوان. فنحن امام قرية قد تكون قرية مصرية. وهي تضم بضعة آلاف، وتضم عددا كبيرا من الطيبين وعددا قليلا من الاشرار مثل معظم بلاد العالم. ولكن «كفر الغرابوة» بلد محب للانقسام. كل عائلة تنافس الاخرى الى حد الكراهية. وسكانها الجدد يتبادلون الكراهية مع سكانها القدامى. والمتعلمون يحتقرون غير المتعلمين، والفقراء يحسدون الأغنياء. والرجال يعتبرون النساء مجرد حضانات تفريخ للنسل، والنساء يعتبرون الرجال ظالمين وطغاة. و. . . و. . والقرية تتعايش عبر السنين وسط كل هذا التناقض. بل يمثل هذا التناقض جزءا من حيوية القرية وقدرتها على الاستمرار. ولكن بين الحين والحين يدوي حدث يقلب الموازين. كأن تقوم معركة كبيرة بين أسرة وأسرة وقد تسيل فيها الدماء، أو أن يقتل واحد من ذوي الشأن، فمقتل الصغار لا يترك أثرا كبيرا. في هذه الحالات الخاصة يتحرك «المركز» أو «المديرية». والمركز هو المكان الذي يحكم اداريا وبوليسيا عدة قرى ومدينة أو أكثر من المدن الصغيرة، أما المديرية فهي تحكم اقليما أو محافظة. تتحرك الجهات الأمنية العليا وتتحرك الى القرية وبالطبع تطورت القوات التي تقتحم القرية زمان كانت من راكبي الجمال الذين يتسلحون بالسياط، أما الآن فهم من راكبي السيارات المصفحة المسلحين بأحدث الرشاشات. تنزل القوات الى القرية فتقوم أول ماتقوم بضرب الماشين في الطريق، فمشيهم هذا يعني أنهم لم يصابوا بالذعر من قوات الأمن. يتلو هذا فرض حظر التجول، وهو الفرصة العبقرية لضبط القرية لانك ستجلس الناس في بيوتهم أي بدون تكاليف. وستجبرهم على استجداء الاذن لهم بالحركة لأن بعضهم له اشغال تتناقض مع حظر التجول. كما انه يعطيك الفرصة للتمييز بين الناس، أي استخدام نظرية الجزرة والعصا. فتمنح هذا حق الحركة، وتمنعه عن هؤلاء. وقد تقوم القوات اثناء هذه الحملات بضرب هيبة بعض من لا يدرك الهدف منها. ومن أبرز وسائل هدم الهيبة خلال العقود الماضية حلق شوارب الرجال خاصة اذا كانت الشوارب من النوع الكبير، وفي الزمن الذي كان يتباهى فيه الرجل بشاربه وحجمه. اعتقد ان معظم القراء لديهم فكرة عما أقوله فلقد تردد هذا في بعض القصص وفي بعض الافلام السينمائية واذكركم بفيلم «الأرض». واذا كان لديكم فكرة ولو عامة ليكن هذا مدخلا لما حدث في «كفر الغرابوة». فلقد حدث في كفر الغرابوة ماحدث. . وأتت قوات المديرية على أثر ماحدث. القرية أحاطتها قوات الأمن من جميع الجهات. واطلقت الرصاص على كل كائن حي. ولما كان الانسان أذكى الحيوانات في الاختفاء فلقد قتلت معظم الحيوانات التي يعتمد عليها الفلاحون. لم يعرفوا هذا من قبل ولم يألفوا هذا العدد الكبير من العسكر. لقد كان عشرة منهم كافين للسيطرة على البلد، أما الآن فهم أكثر من عدد سكان البلد. وظهر في وسط القرية الباشا الحكمدار. تنفس الناس الصعداء، فمن السهل التعامل مع الكبار، من المستحيل التعامل مع الصغار. وجرى حضرة العمدة يقدم نفسه وولاءه للحكمدار. لكن العسكر انقضوا عليه، واختفى. قال الباشا الحكمدار انه اتى لاصلاح أحوال القرية، لأنه لا يريد ان يسمع أخبارها السيئة كل عام أو عامين. ولقد قرر اختيار حكام اخرين للبلد في ظرف ثمانية واربعين ساعة لكن ليس ذلك المهم بل لابد من اتباع الديمقراطية. وكانت تلك كارثة الكوارث، فالقرية لم تسمع من قبل بالكلمة. قال أحدهم انها نوع من الثياب. وقال اخر انها طريقة في زراعة الأرض. وقال ثالث انها والعياذ بالله نوع من صلاة الكفار. وحاول حكماء القرية ان يصلوا الى المعنى لكنهم عجزوا، أحدهم سألته زوجته وكانت صغيرة في السن فقال لها: لنصمت أفضل الديمقراطية مصيبة. الديمقراطية هي أن تتزوج المرأة من أربعة مثلما يفعل الرجل! حكيم آخر من القرية حاول الاتصال بابنه الذي يدرس الطب، فهو لم يرسله للدراسة حتى يجهل معنى كلمة الديمقراطية ولكن الخطوط كانت مقطوعة. وصدرت الأوامر بأن يتم استدراج العسكر حتى يجيبوا على السؤال لكنهم اكتشفوا بعد يوم كامل ان العسكر لا يعرفون. وظهر جناب الحكمدار بعد ذلك وقال ان الديمقراطية معناها ان يتم تكوين مجلس القرية بالانتخابات. وصفق الفلاحون حماسا، لكنهم عندما انصرفوا تهامسوا بأنهم كانوا دائما ينتخبون اعضاء المجلس. في مرة تالية قال الباشا الحكمدار ان هذه الانتخابات تختلف عن سابقاتها بأنها حرة ونزيهة، فالصناديق ستكون زجاجية وقدام الناخبين دقيقة. والفرز عن طريق القضاء. والرقابة دولية. وفعلا حدث هذا. بدأ الأمر بكاميرات التلفزيون ورأى الفلاحون انفسهم على الدش في بيت أحد الاثرياء وذهبوا ليقفوا امام المقر الانتخابي بنظام غير مسبوق. ولأننا نخشى أن تحدث ازمات اذا ذكرنا اسماء الفلاحين فإننا سنشير اشارات. «فلان» كان يكره المرشح الأول وصمم على عدم انتخابه لكنه خشى ان يعرف فانتخبه. وندم «علان» كان يعرف انه اذا نجح المرشح الأول فسيساعده في الجمعية التعاونية. فأعطاه صوته وهو يلعنه «وترتان» كان مصمما على الا ينتخب المرشح الأول ولو قطعوا رقبته، لكنه رأى عينين تراقبانه. وأدرك انهم لن يقطعوا رقبته الا بعد أن يقطعوا رقاب أهله. فأعطاه صوته. ونجح نفس الاعضاء السابقين. ولكن في سابقة ديمقراطية لم تعرفها القرية ولذلك احتفلت احتفالا كبيرا. وقال فلاح طيب ما أسهل الديمقراطية! وانتشرت الفكرة في البيوت فقال البعض لماذا يقرر الأب أمور الاسرة؟ لماذا لا تكون القرارات بالانتخابات؟ وكان بيت «فلان» هو أول بيت يمارس الديمقراطية. قال الرجل انه يريد أن يأكل ملوخية وأرزا ولحما. وقالت الست انها تريد ان تطبخ بامية وصوت الأولاد للملوخية ولكن الست طبخت بامية، وقالت من يريد أن يأكل ملوخية عليه أن يطبخها. قال «علان» انهم عليهم ان يغرسوا البذور غدا. وقال شريكه ان الأمر يحتاج إلى أسبوع آخر. ولما كان لعلان سبعة أولاد، فلقد نفذ رأيه. وفسدت الزراعة. وصابحة البنت الجميلة تقدم لخطبتها اثنان. واجتمعت الاسرة واختارت احدهما بالانتخاب الحر المباشر. ولكن الغبية لم تفهم الديمقراطية فحاولت الانتحار. أما تلاميذ المدرسة فلقد صوتوا دائما إلى جانب الاجازات. وفي النهاية أتى الباشا الحكمدار ليشارك في احتفالات القرية بالديمقراطية وقدم لهم العمدة الجديد. وكان نفسه العمدة القديم! قال أحدهم: هل أنت سعيد بالديمقراطية. رد عليه الآخر: طبعا طالما أن الباشا الحكمدار سعيد بها!

Email