استراحة البيان ـ محاولة يائسة لخداع الموت ـ يكتبها اليوم: مجدي شندي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 13 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 14 مايو 2003 هناك فيلم أميركي عرض قبل ثلاث سنوات عنوانه «المقصد النهائي» قصة الفيلم اشبه بما يراد للمنطقة العربية حالياً. طالب أميركي يدعى اليكس يجلس في طائرة البوينغ 747 انتظاراً لاقلاعها إلى باريس.. تأخذه سنة من النوم تتراءى له خلالها الطائرة وهي تنفجر اثناء اقلاعها من مطار جون كيندي. يفيق مذعوراً ويشق في رعب واضح طريقه إلى خارج الطائرة وسط سخرية باقي الركاب. لا يصدق حلمه غير خمسة من أصدقائه، وأثناء اقلاع الطائرة تنفجر فعلاً ويلقى كل ركابها حتفهم. لكن القدر كان لهؤلاء الستة الناجين بالمرصاد اذ حصدهم الموت في حوادث غريبة وغامضة ومتتالية. التغيير الآن يبدو في المنطقة العربية وكأنه قدر سواء تم ذلك بارادة خارجية أو إرادة ذاتية، ويبقى الصراع ايهما يستبق الآخر. الولايات المتحدة تريد تغيير وجه المنطقة وترتيبها تماماً لمصلحة إسرائيل.. ليس على المدى القريب وانما للأبد، لذلك فإن العيون تتجه لابدال المرجعية الحضارية والثقافية للعرب، بنفس درجة الحدة التي تتوجه فيها لكسر الجيوش وبتر الحركات المقاومة، وتعتبر ان المعارك العسكرية معارك صغيرة اذا ما قورنت بالحملة من أجل تغيير المفاهيم، وتفكيك الثقافة السائدة ومطاردة كل ما هو جاد ويقظ في روح الأمة.. واشاعة روح اليأس، وتحطيم المعنويات، ووصم كل من يقاوم المخططات الخارجية بالإرهاب أو معاداة الحضارة. تشن الولايات المتحدة والحلقات التابعة لها ما يمكن وصفه بأنه حرب ابادة ضد القيم والمعتقدات «إسلامية كانت أو مسيحية شرقية تجد نفسها في خندق معاداة المصالح الملتحفة بعباءات إنسانية» وهي في سبيل ذلك تخرج كل ما في جرابها.. محطات تلفزيونية واذاعية، ومواقع الكترونية على شبكة الانترنت. وأصحاب أقلام تدعمهم وتشجعهم ليتبنوا نفس مطالبها ويقدموا أنفسهم باعتبارهم عربا يخشون مثلنا على المستقبل، ويهمهم الشأن الوطني. ويعمدون في سبيل ذلك إلى تشويه الدين وتشويه رموز المقاومة الوطنية العربية.. فالقرآن يحتاج إلى قراءة تاريخية في نظرهم والجهاد تعليم للموت، ونحن بحاجة إلى من يعلمنا فن الحياة. وقراءة التراث تفكير بالاسلاف ونحن في حاجة إلى من يدفعنا للتفكير في أنفسنا، وحجاب المرأة نوع من الرق الابدي الذي حان وقت التحرر منه.. وكل هذه الحزمة من الافكار تمنع من القدرة على تفهم الحداثة. أما الاستشهاديون الفلسطينيون فهم إرهابيون يائسون من حياتهم ويزرعون الموت في صفوف المدنيين الصهاينة المسالمين ولم يسلم شيء من الهجمة البربرية للمتأمركين لا الدين ولا التاريخ ولا حتى رموز الأمة الذين يحظون باجماع شبه عام من جمال عبدالناصر الذي كان كما يزعمون سبب كل البلايا التي نعيشها والمسئول عن تنصيب كل الأنظمة الدكتاتورية العربية، إلى حسن نصر الله صاحب الجهالة السياسية والفكر الانتحاري!! التغيير أمر حتمي لابد منه، لكن في مواجهة من وبيد من؟ هل يستهدف التغيير اقصاء الأنظمة السياسية التي قمعت الناس وهمشتهم وأفقرتهم ومزقت مجتمعاتها وادخلتها في دوامة من الدين الخارجي تهدد استقلالها. أم يستهدف مواجهة التغلغل الأجنبي في شئون المنطقة، والذي يهدد بسلب الثروات وسلب الارادات السياسية. وبيد من يتم هذا التغيير.. هل هو بيد دعاة التغريب القدامى الذين حرثوا الأرض على امتداد عشرات السنين حتى تتهيأ الأنفس لما يحدث الآن.. أحدهم قال لصحيفة «نيويورك تايمز» قبل عام ونصف «نحن محاصرون بين الاصولية المتغلغلة في الواقع العربي وبين صمت أصدقائنا من المثقفين اليهود». أم ان هذا التغيير يراد له ان يتم بيد العملاء الجدد من المثقفين العرب الذين تربوا في حضانات غربية. اولئك الفريق الذي التقطته أجهزة الاستخبارات الغربية منذ سنوات، وفتحت له أبواب المجتمع الأميركي، فحصل أعضاؤه على شهادات دكتوراه وفتحت لهم الصحف الأميركية ومحطات التلفزيون المجال ليعيدوا انتاج الرؤية الأميركية العنصرية للعالم العربي. أم يتم التغيير المنشود داخلياً والمطلوب أميركياً في نفس الوقت بيد قطاع عريض من الجماهير العربية ظلت في اوطانها وقاست ما قاست من عسف الأنظمة.. عاشت حياة ضنك اقتصادي في انتظار فجر يلوح، ويد تنشر العدالة الاجتماعية وتعيد الثروات لجيوب أصحابها الاصليين بدلاً من احتكارها على يد طبقة فاسدة مقربة من أنظمة الحكم. وأي شريحة من هذه الجماهير.. الشريحة التي تمثل اقلية.. والتي مارست العمل السياسي ضمن اطر وضوابط أنظمة الحكم. مارست الارتزاق من أنظمة عربية مناوئة لنظمها. ولعبت احياناً دور حلقات الوصل في لحظات الخلاف باعتبارها ذراعاً سرية لأجهزة أمنية واستخبارية.. أم يتم على يد الشريحة الاعرض من الجماهير تلك التي احترمت نفسها، فوضعت لسانها في فمها، وانكفأت على همومها المعيشية اليومية في انتظار بطل مخلص لايجيء. في ضوء التناقضات السابقة يبدو المشهد عبثياً، فالقطاع العريض من المواطنين العرب فقدوا الثقة بكل من مارس السياسة في السابق.. سواء كانت أحزاباً علنية أو تنظيمات سرية فحتى الحركات الإسلامية التي كانت تحظى بكثير من المصداقية خلال الثمانينيات فقدت مصداقيتها حينما ارتكبت اخطاء بحق الشعوب تحت وطأة الضربات الحكومية، أو دخلت في مساومات مع الأنظمة لا تتسق مع مبادئها التي حصدت بها الجماهيرية. فضلاً عن ان هذه الحركات باتت الآن مستهدفة مهما كانت أفكارها مسالمة ومهما قبلت ابرام صفقات مع قوى الهيمنة الخارجية.. فدورها الوظيفي لا يتجاوز كونها مخلب قط يمكن ان تضرب به تيارات أخرى وحين تخلو الساحة إلا منها يتم ضربها أيضاً باعتبار ان وظيفتها انتهت. ولايبدو ان هناك حلولاً مأمونة إلا ان تتكاتف التيارات السياسية كلها، مهما كانت اختلافاتها الايديولوجية او اختلافاتها على وسائل التغيير، وتكون جبهات وطنية موحدة تتولى إدارة حوار مع الأنظمة الحاكمة على صياغة اوطان جديدة.. تتوفر فيها أعلى مساحة ممكنة من المشاركة في السلطة والقرار السياسي. وتبدو الاجواء مهيأة تماماً لذلك، فالأنظمة مهما كانت درجات اقترابها من دوائر صنع القرار في واشنطن تحس بالخطر الشديد، وهي في حاجة إلى أرضية شعبية حقيقية، تجدد شرعيتها طوعاً، وتجنبها تقديم تنازل جديد كل يوم، أو تبعية مباشرة ومعلنة وتنفيذ اشتراطات مجحفة تعود بالضرر على الاوطان وتعري عورات أنظمة الحكم باعتبارها خضعت وانقادت تماماً لرؤية الأجنبي. كل طرق التغيير التي تتم بلا جبهة وطنية حقيقية وواسعة تبدو في مصلحة إسرائيل والذين نجوا من انفجار الطائرة «أو سقوط بغداد» سيلقون حتفهم حتماً في حوادث أخرى غامضة وغريبة.. والطريقة الوحيدة لتجنب هذا الخيار البائس هو ان تبادر الأنظمة فتفتح الأبواب لعودة المنفيين والنوافذ لدخول الهواء النقي وليس الهواء الأميركي الملوث بهوى إسرائيلي. من المصادفات ان صناع السينما الأميركية انتجوا فيلماً آخر بدأ عرضه هذا الأسبوع عنوانه «المقصد النهائي 2» كجزء ثان للفيلم الأول. تبدأ أحداث الفيلم الجديد في اليوم الذي صادف الذكرى السنوية لسقوط طائرة البوينغ «التي وردت في الجزء الأول» ويحكي قصة امرأة شابة من كاليفورنيا تقود سيارتها على الطريق وفجأة يتراءى لها حادث مريع، فتعتبر ذلك رسالة سماوية وأنه بامكانها منع الحادث. تسد الطريق بسيارتها لمنع المرور وحينما يتقدم منها شرطي تخبره بما رأت وتحاول اقناعه بنبوءتها ويقع الحادث فعلاً فيحصد عدداً ممن كانوا معها.. ومع ذلك لا تيأس من مسألة انقاذ الناجين من حوادث غامضة ومبهمة تتوقعها.. وحينما تفشل إلا قليلاً يتراءى لها ان تضحي بنفسها لتخدع الموت حتى يتوقف عن حصد أرواح الباقين وبالفعل تقود شاحنة مغلقة إلى بحيرة وتغرق فيها. غير أنها لا تلبث ان تعود للحياة من جديد.. منقذة أرواح من تبقى من رفاقها. ترى هل بامكان أحد ان يخادع الموت القادم حقا واذا كان كاتب السيناريو الأميركي وجد مخرجاً.. فهل يجد مخرجاً مشابها كتاب السيناريوهات السياسية العربية. magdishendi@hotmai.com

Email