عودة دستور «ألف ليلة وليلة»!، بقلم: عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 9 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 10 مايو 2003 قبل نحو 30 سنة كسر ربع مليون جندي مصري «قمقم» الصبر وقفزوا إلى الضفة الغربية لقناة السويس لكي يستردوا للأمة العربية شرفها الضائع.. ولم تمر سوى ساعات حتى انضم سلاح النفط الثقيل إلى الحرب واضعا الحضارة الغربية في حالة من الخوف والرعشة من أن تصبح خردة.. في تلك الأيام قال وزير خارجية فرنسا «ميشيل جوبير» عبارة مأثورة ظلت عالقة في ذاكرتي طوال هذه السنوات: «لقد انتهى عصر ألف ليلة وليلة وعلينا أن نتعامل مع العرب بعد اليوم على أساس جديد ومختلف تماما». لقد وضع رئيس الدبلوماسية الفرنسية في ذلك الوقت بهذه الكلمات القليلة أصابعه على مشكلة العرب المعاصرين ويشخص بذكاء المثقف والسياسي المحترف وجعنا التاريخي وضعفنا القومي وعارنا العقلي.. إنه يختصر طريقتنا في التفكير وفي التفسير وفي إدارة شئوننا الشخصية والعامة.وهي طريقة مقتبسة من ذلك الدستور الدائم الذي يحكمنا: «كتاب ألف ليلة وليلة».. الكتاب المسئول عن كساحنا الحضاري وشللنا النفسي الذي استوطن عظامنا منذ مئات السنين.. الكتاب المسئول عن تحويل الاحزاب السياسية إلى نواد للمنتفعين من ضوء القمر.. وتحويل الجمعيات الأهلية إلى مراكز لدفن الموتى وقراءة الكف وفتح المندل وإستخارة النجوم.. الكتاب المسئول عن استمرار حكم الماضي وأنصاره الذين اتخذوا اقامتهم الدائمة في مقبرة التاريخ.. ولا يكفون عن الخروج في مظاهرات يطالبون فيها بمحاكمة كل من يهدد نفوذهم ويطالب بإعادة النظر في كل القوانين العثمانية التي تحكمنا وتحاصرنا. إن «ألف ليلة وليلة» لم يكن في حياتنا كتابا عاديا مثل كل الكتب التي قرأناها ونسيناها ولكن «الخطورة في هذا الكتاب أنه تحول من نص مكتوب الى سلوك اجتماعي وثقافي وسياسي واجتماعي..ومن صورة ذهنية الى واقع يومي.. ومن نكتة تاريخية الى شهادة عار معلقة على صدورنا» على حد وصف نزار قباني الذي يستطرد: «إن أسوأ ما في» ألف ليلة وليلة هو أنه أصبح صورتنا الرسمية الوحيدة التي يتداولها العالم..وكل نشرة سياحية (أو مذكرة سياسية) عنا لابد أن يظهر فيها شهريار وهو منبطح كالخنزير البري على عشرين مخدة ومن حوله جيش من المحظيات يحملن المراوح ويرقصن حتى الصباح لأكبر بلطجي عرفه التاريخ». إن أهم ايجابيات حرب «أكتوبر» انها اغتالت كتاب «ألف ليلة وليلة» واغتالت أبطاله الذين كانوا يعيشون على سطح الحياة مثل قطعة فلين.. لكن.. سرعان ما دبت الحياة مرة أخرى في هؤلاء الابطال واستردوا كل ما كانوا يتمتعون به من سلطة ونفوذ على عقولنا..كبرت هذه العقول أم صغرت.. حملت شهادة دكتوراه في الذرة أم أكتفت بشهادة محو الأمية.. حاولت استيعاب ما يجري حولها أم استسلمت وبصمت بالعشرة له. ولست متفائلا الى حد المطالبة بإعادة اغتيال «ألف ليلة وليلة» من جديد.. فهذا أكبر من أحلامي.. كل ما أحلم به هو اعادة النظر في الافكار السياسية والدينية والقومية التي وضعتنا ووضعت نفسها في مأزق صعب بعد الاحتلال الأميركي للعراق.. لقد كان كتاب «ألف ليلة وليلة» جاهزا للتفسير الذي لا يخلو من الخرافة عندما وضعت على شبكة «الإنترنت» خطابات تؤكد أن صدام حسين على قيد الحياة وأنه يجهز جيشا من 40 ألف مقاتل للمقاومة وتحرير العراق..وكأن العقل العربي لا يريد أن يفيق أو ينتبه أو يتعلم مما يجري حوله رغم الصدمة المروعة التي تعرضنا لها.. يصر العقل العربي على البقاء في الغيبوبة والعدمية والشعوذة ليريح نفسه ويرضيها..وكأنه فعل كل ما عليه أن يفعل. إن أول شروط الخروج من أزمة هو أن نعرف حقيقتها.. أسبابها.. تداعياتها..نتائجها.. وهو أمر يفرض تجاوز ما هو «قائم» بحثا عن ما هو «قادم».. وهنا يجب أن تقفز على السطح جملة من اعتبارات ومتغيرات تحطم كثيرا من معطيات ومسلمات وتفرض علينا زراعة حقول شاسعة من التأملات. وربما كان على رأس هذه القائمة.. ان أجيالا متعددة ومتصلة وصلت الى مستوى التأثير فيما حولها الآن ولدت وتربت في أوطان مستقلة وتغذت على ما يمكن وصفه بثقافة «الاستقلال» أو ثقافة «التحرر»..ولكن.. هذه الاجيال فوجئت ذات صباح في يوم قريب أن هناك دولة عربية هي العراق وقعت تحت براثن الاحتلال المباشر بصورته التقليدية العسكرية الغليظة.. وأن دولا عربية أخرى مهددة بأن تلقى المصير نفسه.. لقد قدر لهذه الاجيال فقط أن تعرف وترفض وتقاوم نوعا واحدا من الاستعمار هو ما عرف بالاستعمار الجديد الذي كان يتسلل عبر وسائل غير عسكرية وغير مباشرة وغير ثقيلة مثل: «الفيلم والكتاب وأجهزة المخابرات والشركات متعددة الجنسيات..ولم يخطر ببال هذه الاجيال أن هذا الاستعمار غير المرئي يمكن أن يصبح استعمارا مرئيا وينزل بالقوة المسلحة الجبرية ليعود الى سيرة أسلافه القديمة.. وهو انقلاب بكل المقاييس لم تعرف معه هذه الاجيال كيف تتعامل؟ ولا كيف تتصرف؟.. ومن ثم لم تجد أمامها سوى الزعيق أو التخبط أو البحث عن معجزة تعيد صدام حسين ليقاوم نيابة عنها رغم أنه سبب مؤكد فيما جرى. وتربت هذه الاجيال أيضا على وجود قطبين سياسيين يتصارعان ويتباريان فيما بينهما على مد مناطق النفوذ في العالم..وفي ظل هذه المنافسة لعبت دول العالم الثالث ما يمكن أن يسمى بسياسة اللعب على الحبلين.. تنظر بعين مغرية الى الولايات المتحدة فيجري الإتحاد السوفييتي موافقا على ما تريد.. يضغط الإتحاد السوفييتي بصورة غير لائقة عليها فتسارع الولايات المتحدة حاملة القمح والسلاح طالبة الود والسماح..لكن.. ذلك لم يعد قائما الآن.. فالولايات المتحدة أصبحت قوة وحيدة ومسيطرة..والإتحاد السوفييتي تمزق وتهشم وأصبح خاضعا لها..وهو ما وصل الى علمنا.. لكن.. ليس كل ما يصل الى علمنا يسهل تصديقه وقبوله.. خاصة اذا كنا قد تربينا على عكسه..وهنا يكمن المأزق الكبير الذي تواجهه الجماعات السياسية والثقافية والحزبية في التعامل مع ما يجري في العراق. كيف نؤمن ونثق ونتأكد بيننا وبين أنفسنا أن الإتحاد السوفييتي لم يعد موجودا؟.. كيف نثق أن سياسة اللعب على الحبلين أو اللعب على القطبين لم تعد مجدية؟.. متى نكف عن البكاء على اللبن المسكوب ونكف عن لعنة «ميخائيل جورباتشوف» الذي باعنا وخذلنا وتركنا يتامى نبحث عن أب بديل؟.. كيف نتعامل مع القوة الأميركية الجديدة بطريقة مختلفة لم نتدرب عليها وربما لا نعرفها؟.. هل نكون واقعيين كما ينادي البعض ونمشى في ركابها وننفذ مشيئتها أم نعيد النظر في مشاريعنا الوطنية والقومية؟.. ان التعامل مع هذه القوة الوحيدة والمتغطرسة هو مشكلة المشاكل بالنسبة لأجيال تربت على ثقافة القطبين ولم تتصور سقوطها أو تغيرها؟ لقد شهدت حرب الخليج الثانية بداية نهاية الإتحاد السوفييتي الذي وقف عاجزا عن التدخل لإنقاذ النظام العراقي مما يتعرض له..ووجد في جريمة احتلاله للكويت ذريعة للسكوت..وإن كان سكوته في حقيقة الأمر تعبيرا عن حالة من الضعف الداخلي جعلته لا يقدر على شئ سوى انتظار الإنهيار..وفي الوقت نفسه كانت الولايات المتحدة التي وجدت فرصتها الذهبية في الخليج غير مطمئنة الى أن الديناصور السوفييتي قد خارت قواه تماما.. فاكتفت باسترداد الكويت دون أن تغير العراق. لكنها بعد نحو 10 سنوات شعرت أن الدنيا تغيرت..والقوى العظمى الأخرى لم يعد لها وجود..ولابد ألا يصبح لها وجود مرة أخرى.. يجب أن تعدم هذه الفرص تماما. إن الإدارة الأميركية الحالية هي أول ادارة في القرن الجديد..وأول ادارة في ظل عالم منفرد القوة..فكان عليها أن تجيز هذه الحقيقة بصورة عملية على الأرض. وتثبيتها لنفسها ولغيرها.. فكانت الحرب على العراق.. كانت الحرب على جيب من الجيوب الباقية من زمن الحرب الباردة..وفي الوقت نفسه بدا العراق قاعدة مغرية بحكم الموقع والخريطة لمراقبة نمو القوى الأخرى وتحجيمها في الوقت المناسب. فالعراق قريب من روسيا وبينه وبين أوروبا بحر صغير هو البحر المتوسط يسهل عبورة..والعراق بداية الطريق الى جنوب شرقي أسيا والصين بكل ما فيها من مخاوف وهواجس.. باختصار هو قريب من كل مراكز القوى المرشحة للنمو وتخلص النظام العالمي من هيمنة «القوة الوحيدة».. ان ذلك جعل الولايات المتحدة تسيطر على العراق بنفسها لتبقى قريبة ومتابعة وقادرة على التدخل وتحجيم أي قوة من هذه القوى لو جاءت لها فرصة النمو.. وهو من زاوية أخرى يعني أن الولايات المتحدة أصبحت تنفذ استراتيجياتها بنفسها ولم تعد لها نفس الحاجة الملحة للاعتماد على دول صديقة في المنطقة.. فكيف ستكون علاقاتها بهذه الدول؟.. كيف ستكون طبيعية العلاقة الجديدة؟.. هذه أيضا واحدة من المتغيرات التي جاءت بها الحرب الأخيرة وتحتاج الى فهم واستيعاب. وهناك قضية أخرى هي قضية التغيير. لقد كان العراقيون يصرخون من نظام صدام حسين ولكنهم كانوا عاجزين عن تغييره.. لكن تغييره جرى بالقوة المسلحة الأجنبية والغازية.. فهل نوافق على هذا التغيير ثم نواجه الاحتلال أم نرفض مثل هذا التغيير ونبقى فيما نحن عليه؟.. اننا لا نتحدث الآن عن العراق.. فقد جرى فيه ما جرى..ولكننا نتحدث عن قضايا أخرى نرى التغيير فيها ضرورة دون أن نملك القوة أو الوسيلة لهذا التغيير فهل لو ضغطت قوة خارجية لتحقق ما نريد من تغيير نرفضه أم نقبله؟.. هذه قضية تحتاج هي الأخرى الى الحوار والمناقشة. وربما كانت هناك قضايا لم ننتبه لوجودها بعد ما جاءت بها هذه الحرب وستظهرها الأيام.. وهو ما يعني أن علينا أن نتابع ونستوعب ونهضم كل ما تخرجه مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية الأميركية من تقارير وأفكار.. خاصة وأن هذه المراكز هي العقل المدبر والمخطط للإدارة الأميركية.. كما أن ما تطرحه من تصورات هو الذي ينفذ فيما بعد..ومن ثم فليس لنا حجة.. وليس لنا أن ندعي أننا قد فوجئنا بالطوفان. على أن الاهم من القراءة هو الرغبة في تغيير طريقة التفكير السياسية العربية.. فالأفكار الجديدة بطريقة تفكير قديمة تؤدي الى كارثة الجهل بالشئ ذاتها.وإن كنت غير متفائل بأن ذلك سيحدث.. فما حولي من مؤشرات يؤكد أن كل العقول السياسية باقية على حالها.. لا تريد أن تتغير.. كما أن وسائل استنزاف هذه العقول حاضره وجاهزة في تبادل تهم العمالة والخيانة بين الجماعات الثقافية المختلفة.. فهناك حرب كلامية بين من يوصف بلوبي صدام حسين وبين من يوصف بلوبي أميركا.. وكل منهما يسن أسنانه وأقلامه ويستعد للفتكك بالآخر في معركة تبدو على الابواب ستنتهي بخسارة الجميع وسقوط قتلى وجرحى من الجانبين..ولن نملك سوى أن نقول ما نقوله عادة في كل كوارثنا القومية: لا حول ولا قوة الا بالله. ـ كاتب مصري

Email