وقفة نقدية مع الإعلام العربي ـ بقلم: د. محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 8 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 9 مايو 2003 في الثالث من مايو من كل سنة يحتفل العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة، وعادة ما يكون هذا اليوم فرصة لتقييم الذات والوقوف على اهم الانجازات واهم المشاكل والعراقيل والتصفيات الجسدية والاغتيالات وغيرها من المشاكل والمضايقات التي يتعرض لها الصحافيون في مختلف دول العالم مراجعة الذات في وطننا العربي تستوقفنا عند اوضاع الصحفي وما آلت اليه؟. وهل تغيرت دار لقمان ام بقيت على حالها ام انها زادت سوءا وتدهورا. من دون ادنى شك اننا في الوطن العربي بحاجة إلى اعلام يكشف العيوب والتناقضات والتجاوزات، اننا بحاجة إلى اعلام تنموي يستقصي ويحقق ويوجه السلطة في تدارك مشاكلها والكشف عن الاخطاء والتجاوزات باختصار نحن بحاجة إلى اعلام يغير ويصحح ويكشف ولسنا بحاجة إلى اعلام «يزغرد ويصفق ويتملق». والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يتوفر اعلامنا العربي على مستلزمات الاعلام الفعال والقوي؟ وهل القائم بالاتصال في الوطن العربي مؤهل ومكون ومحمي ومسلح بالقيم والاخلاق والمواثيق والقوانين التي تصونه وتصون المجتمع وتحمي المصلحة العامة والرأي العام؟! اغتيال حرية الصحافة دراسات وتقارير منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة و«مراسلون بلا حدود» و«الاتحاد العالمي للصحف» و«المنظمة العالمية للصحفيين» وغيرها من المنظمات الحكومية وغير الحكومية تبعث على التشاؤم والحسرة والحزن للمشاكل والمتاعب والخطورة التي تكتنف مهنة الصحافة. ما حدث خلال العدوان الاميركي البريطاني على العراق يعتبر مجزرة في حق حرية الصحافة والممارسة الاعلامية النزيهة والشريفة، حيث تحول الاعلام إلى دعاية وحرب نفسية وتضليل وتشويه وتزييف للواقع. كما مارست اميركا كل طرق الاحتيال والضغط على صحافيي العالم لابتزازهم واستغلالهم والضغط عليهم لتغطية الحرب وفق المنظور الاميركي، الامر الذي ادى بالمسئولين الاميركيين إلى القتل والتصفية وقصف مقرات الاذاعة والتلفزيون والبث وحتى الفندق الذي كان يقيم فيه الصحافيون. ففي كل سنة هناك عشرات الصحافيين يموتون قتلا ويغتالون، ومئات يسجنون، ومئات يحاكمون ومئات يتعرضون لمضايقات ولاهانات لا لشيء الا لأنهم حاولوا القيام بواجبهم وتأدية رسالتهم على احسن وجه، حاولوا ان يكشفوا الحقيقة ويحاربوا الرشوة والمحسوبية والوساطة والعمولة وتبييض الاموال وتهريب المخدرات.. إلى غير ذلك من الآفات والامراض التي يدفع ضريبتها وفاتورتها الغالبية العظمى ممن لا حول لهم ولا قوة في المجتمع. تقر المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان حرية الرأي والتعبير، لكن في معظم دول العالم «مافيا» المال والسياسة لا تؤمن بهذا المبدأ وبهذا الحق، واصبح من يملك المال والنفوذ والسلطة له حق التعبير والرأي اما باقي شرائح المجتمع فتكتفي باستهلاك ما يقدم اليها بدون مساءلة ولا استفسار. اخبار الرأي العام وايجاد سوق حرة للافكار اصبحت من المهام الصعبة في معظم دول العالم والقائم بالاتصال يجد نفسه في هذه المعادلة بين المطرقة والسندان، فهو اخلاقيا ومهنياً وعمليا مطالب باعلام واخبار الرأي العام، ومن جهة اخرى يجد نفسه تحت ضغوط لا ترحم ولا تشفق لارضاء اصحاب النفوذ والمال واصحاب السلطة. وتؤكد الدراسات العديدة ان الصحافي يعمل في المعدل اكثر من 60 ساعة في الاسبوع وبعض الاحيان يصل عدد الساعات الى اكثر من 70 ساعة. الصحافي اذا هو مرآه المجتمع وهو شاهد عيان يومي لما يجري وما يحدث في المجتمع في العلن او في الخفاء او في الكواليس. الصحافي او القائم بالاتصال مطالب في المجتمع بالتأريخ اليومي لمجريات الأحداث والأمور، مطالب بالوقوف عند كل كبيرة وصغيرة، مطالب بكشف الحقائق وابراز الايجابيات والسلبيات وخاصة التركيز على السلبيات، لأن السلبيات هي التي تضر بالمجتمع وخاصة المحرومين والمهمشين. الصحافي هو حلقة الوصل بين الحاكم والمحكوم بين المشرع والمنفذ، بين السلطة والشعب، وهذا ما يجعل من دوره دورا استراتيجيا وحساسا. السؤال الذي يطرح نفسه هنا وخاصة بالنسبة لنا في الوطن العربي وأمام كل هذه المهام والمسئوليات: هل يتمتع الصحافي في دولنا العربية بالحصانة الكافية؟ هل يتمتع بحماية قانونية وبتشريعات تحميه من جبروت السلطة والمال؟ هل ظروف عمل الصحافي في دولنا العربية مهيأة ومواتية للقيام بالعمل الصحفي على أحسن وجه؟ في الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة يجب علينا كعرب ان نتوقف لحظة من الزمن ونحاول ان نجيب على هذه التساؤلات وغيرها، اما الجهات المؤهلة للاجابة على هذه الاسئلة فهي وزارات الاعلام والثقافة ووزارات الداخلية والهيئات التشريعية والقضائية. مع الأسف الشديد وفي معظم الدول العربية مازال ينظر للصحافة ـ ونقصد بالصحافة هنا المرئية والمسموعة والمطبوعة ـ على أنها وسيلة في يد السلطة تتصرف فيها كما تشاء ووفق خطها السياسي والمسار الذي تحدده لها. وهكذا بدلا من ان تكون الصحافة في الوطن العربي نعمة للشعوب وللرأي العام تثيره وتوجهه وتدمجه في مجالات الحياة بمختلف دروبها وخلجاتها، نجدها نقمة وعلة تزيف الواقع وتلمع كل ما تقبل عليه. فلماذا يا ترى في وطننا العربي لا نجعل من المؤسسة الاعلامية مؤسسة مسئولة وحرة ولا نثق فيها، ولا نعطيها الامكانيات اللازمة حتى تلعب دورها الاستراتيجي والفعال في المجتمع؟ لماذا ننظر دائما للمؤسسة الاعلامية على أنها خطر وبامكانها ان تسبب مشاكل عديدة ومتنوعة للسلطة؟ لماذا لا نثق في الصحافي ونتركه عند ضميره يقوم بمهمته؟ كابوس الرقابة الذاتية تعتبر حرية الصحافة والديمقراطية وجهان لعملة واحدة، فاننا لا نستطيع ان نتكلم عن نظام ديمقراطي بدون منظومة اعلامية قوية وفاعلة ومشاركة في الحياة السياسية وعملية اتخاذ القرار. وأهم العراقيل التي تقف حاجزا امام حرية الصحافة في معظم الدول العربية والدول النامية هي القوانين الجائرة والصارمة التي تحد من ابداع الصحافي ومن عطائه، اضف الى ذلك ان معظم قوانين النشر والمطبوعات وتشريعات الصحافة تفرض على القائم بالاتصال ممارسة النقد الذاتي او الرقابة الذاتية، وهكذا تصبح الآلة الاعلامية عالة على المجتمع، فبدلا من ان تكون عنصرا فعالا تسهم في محاربة الآفات الاجتماعية وتشارك في تقديم الحلول للمشاكل المختلفة، تصبح في يد القلة الحاكمة التي قد تكون في الكثير من الأحيان خاطئة في قراراتها وطرق تسييرها للكثير من الشئون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وحرية الصحافة ترتبط كذلك بالكثير من المعطيات والمستلزمات التي يجب ان تتوفر في المجتمع ومن هذه المستلزمات فلسفة ونظرة السلطة والمجتمع لوسائل الاعلام، كذلك النضج السياسي والممارسة السياسية لدى الشعب، وكذلك وجود الجمعيات السياسية القوية وجماعات الضغط والجمعيات بمختلف انواعها واشكالها. تكمن جدلية حرية الصحافة والديمقراطية اساسا في ان الاخيرة تقوم على الاتصال السياسي وحرية التعبير والفكر وصناعة الرأي العام التي تقوم على التدفق الحر للآراء والمعلومات والمعطيات، وبطبيعة الحال في هذه الامور لا تتحقق الا بوجود اعلام يراقب وينتقد ويكشف ويحقق، فالاطراف الفاعلة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية بحاجة الى وسائط اعلامية ومنابر للمعارضة والاختلاف في الرأي، والتعبير عن وجهات النظر المختلفة.. الخ ان اي تراجع في حرية الصحافة يعني تراجع في الديمقراطية، وتاريخ حرية الصحافة في العالم يؤكد فكرة التأثير المتبادل بين الديمقراطية والصحافة. فالانظمة السياسية الديكتاتورية او السلطوية لا يمكنها بأي حال من الاحوال ان تحلم بصحافة حرة وقوية، ونفس الشيء يمكننا قوله عن تلك الانظمة التي لا تؤمن بالتعددية الحزبية وبحرية الرأي والتعبير. فصحافة هذه الانظمة تكون دائما احادية الاتجاه تخدم من يشرف عليها ويمولها ويسيطر عليها. الى متى تبقى قوانين النشر والمطبوعات وقوانين الاعلام في وطننا العربي جائرة ومستبدة؟ الى متى تبقى هذه القوانين والتشريعات قوانين عقوبات واجراءات تعسفية ضد الصحافي المسكين؟ فهذه القوانين كان من المفروض ان تنظر في الجهات التي تحتكر الكلمة والصوت والصورة للاستغلال والتزييف والتلوين والتهميش وتعاقبها، هذه القوانين كان من المفروض ان تضع الخطوط الحمراء التي لا يجب ان تتجاوزها السلطة السياسية والمالية في التحكم والتلاعب في المؤسسات الاعلامية كما تشاء ووفق مصالحها وأهدافها. ما زالت السلطة في الوطن العربي ومع الاسف الشديد تنظر الى المنظومة الاعلامية والمؤسسة الاعلامية على انها اداة لتثبيت شرعيتها وبسط نفوذها وتمرير خطابها السياسي بعيدا عن طموحات الجماهير ومطالبهم. السلطة في الوطن العربي مازالت بعد لم تستطع بناء المؤسسات اللازمة لضمان المشاركة السياسية الفاعلة ولضمان رأي عام قوي وفعال. ونتيجة لكل هذا فانها فشلت كذلك في بناء نظام اعلامي ايجابي وفعال وليس سلبي يستقبل ويؤمر، نظام اعلامي يؤمن بالاتصال الافقي ويعمل على اشراك مختلف الشرائح الاجتماعية في العملية السياسية وفي اتخاذ القرار، نظام اعلامي همه الوحيد هو كشف الاخطاء والعيوب وليس التلميع والتلوين. يحتاج النظام الاعلامي العربي الراهن الى نظرة نقدية جادة مع نفسه كما يحتاج الى مراجعة مع الذات للوقوف على السلبيات والتعلم من الاخطاء والهفوات السابقة، للانطلاق بخطى قوية وايجابية نحو مستقبل لا يكون فيه الاعلام وسيلة للسيطرة والتحكم والتلميع والتملق، وانما وسيلة للحرية والعلم والمعرفة والتفكير والابداع والاختلاف في الرأي وفي ايجاد سوق حرة للافكار. تحديات الالفية الثالثة كبيرة وجسيمة وتتطلب اعلاماً قوياً وصناعات ثقافية قوية وفاعلة سواء على المستوى المحلي او الدولي، فحرية الصحافي هي أساس كل الحريات في المجتمع، وهي حجر الأساس لأي بناء ديمقراطي. ـ كلية الاتصال ـ جامعة الشارقة

Email