الحرب الأصعب : استيطان «العقل العراقي» ـ بقلم: د. محمد خالد الأزعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 7 ربيع الاول 1424 هـ الموافق 8 مايو 2003 تُظهِر السياسة الاميركية اهتماما قياسيا بإعادة تشكيل الشخصية العراقية، اتجاهاتها وميولها ونوازعها وولاءاتها الفكرية والأيديولوجية.. تجلى هذا الاهتمام منذ ما قبل مرحلة الغزو المسلح، حين راحت الأدوات الاعلامية والدعائية والسياسية الاميركية تمطر العراقيين بالمنشورات التي تحرضهم للتمرد والعصيان ضد النظام القائم، واعدة إياهم بعصر آخر من التحرر السياسي والرخاء الاقتصادي والازدهار الحقوقي.. وشارك في هذه الحملة التمهيدية الجبارة للتوجيه التعبوي والاستيلاء على العقل عن بعد، عدد غفير من القوى المعارضة العراقية المقيمة في عالم الغرب، وكذا مناصرين لدعوة الاحتلال والحل العسكري في بعض الرحاب العربية، أولئك الذين شكلوا ما أسميناه بشبكة أمان فكرية للاحتلال الاميركي للعراق. كسر الحواجز بوقوع الاحتلال زالت الحواجز الجغرافية والنظامية والقانونية والسياسية، التي فصلت مطولا ما بين السياسة الاميركية وبين محاولة العبث بالطابع الوطني والقومي للشخصية العراقية بشكل مباشر، لم تعد واشنطن بوارد الاكتفاء باستخدام آليات التأثير التي قد تعترضها هذه الحواجز، كالمنشورات والبث الاذاعي والتليفزيوني ومروجي الاشاعات. لقد صارت هذه الآليات مجرد روافد مساعدة أو رديفة للمدخل الأساسي لتحقيق التغيير المطلوب، مدخل السيطرة الكاملة على عقول الناشئة والكبار عبر مناهج التربية والتعليم المقررة على كافة المراحل الدراسية. ما عرف بهذا الخصوص أن وزارة الخارجية الاميركية كونت منذ يناير الماضي ما أسمته «مجموعة عمل التعليم» وألحقتها بمكتب «البحث في مستقبل العراق» التابع بدوره لهذه الوزارة. وقد تحددت مهمة المجموعة في: وضع نظم ومناهج تعليمية جديدة، تخلو من تلقين الولاء لحزب البعث وأيديولوجيته وتعديل أنماط التدريس بما يجنبها الأغراض الدعائية، ومراعاة الصحة العقلية للأطفال والدارسين، وتشجيع تعليم اللغات الأخرى في العراق بخلاف اللغة العربية على اعتبار أن ثلاثين في المائة من العراقيين لا يتحدثون العربية. ويقال بأن الاختيار قد وقع على إحدى المؤسسات الاميركية ذات الصلة بالمشروعات التعليمية، التي فازت بعقد من وكالة التنمية الدولية الاميركية لتغيير المناهج وتدريب المدرسين في العراق، وصادف أن هذه المؤسسة كانت هي بذاتها التي اضطلعت بوظيفة مماثلة بالنسبة لأفغانستان! نحن إذن أمام مخطط لاحتلال العقل العراقي تم الاعداد له عن سابق إصرار بالتوازي مع الاستعداد لغزو العراق عسكريا، وهذه وحدها ـ لو أراد البعض ـ قرينة دامغة على النوايا العدوانية المبيتة ضد العراق، الدولة والنظام، بغض النظر عن أية اعتبارات ذرائعية أخرى، إذ كيف تشق مشروعات وزارة الخارجية الاميركية لعراق المستقبل طريقها للنفاذ، بدون السيطرة الميدانية الفعلية هناك التي أنيطت بالبنتاغون؟! هذه ملاحظة جديرة بالانتباه غير أن ما يشغلنا في هذا المقام أن المشروعات الاميركية لهدم العقل العراقي وبنيته الداخلية واعادة تكوينه تجري على قدم وساق هناك في واشنطن، بمعرفة خبراء في علوم التربية والنفس والاجتماع السياسي من الاميركيين، يساعدهم في ذلك زمرة من العراقيين المستغربين، الذين انقطعت صلتهم بالبعدين الوطني والقومي للشخصية العراقية منذ عقود، ومع ذلك تقول أوساط الخارجية الاميركية بأن الولايات المتحدة «لن تحاول بأي حال فرض شيء على العراقيين، ولن تفرض قيمها عليهم، كما أن المسئولية في حقل التعليم يجب أن يتسلمها العراقيون أنفسهم»! تغيير الهوية ونحن إذا سايرنا هذه الفرية لحق علينا اعتبار كل ما اضطلعت به السياسة الاميركية ضد العراق عملا خيريا صرفا، ولأننا وكثيرين غيرنا لسنا بهذه السذاجة والغفلة، فإن علينا تبصر ما ترمي اليه النخبة التي دبرت لاحتلال العراق واحتلاله من وراء مقاربتها للعملية التعليمية هناك، بعيدا عن القنابل الضبابية التضليلية التي تلف هذه المقاربة. وأبرز ما يساورنا بهذا الصدد أنهم في واشنطن جادون بشأن محاولة تطبيق نموذج الاحتلال الاميركي لليابان وألمانيا من قبل ذلك النموذج الذي اشتهر بتغيير الطابع القومي للشخصيتين اليابانية والألمانية، وكان التغلغل في إعداد برامج ومناهج التعليم من الألف الى الياء هناك أهم أدواته، ومما حفظته الأدبيات بالخصوص أن الخبراء الاميركيين نصحوا بتصفية المناهج في الدولتين مما أسموه بالأبعاد الشوفينية والتعصبية وعبادة الزعماء المفرطين في التسلط واحتكار صناعة القرار، والقضاء على المفاهيم المؤدية الى سيطرة النخب العسكرية على توجهات المجتمع.. وهذا هو عين ما يسعى اليه التحالف الاميركي البريطاني بالنسبة للمثل العراقي. فالعراق يوصف لدى هذا التحالف بأنه «بروسيا العرب»، وهو محكوم بنخب قومية شوفينية تتوفر لديها أسباب القوة، وهو من الدول القليلة التي ظلت زعاماتها ومناهجها التربوية التعليمية تتحدث عن الوحدة العربية وتحرير فلسطين من النهر الى البحر، وأخذت منذ وقت مبكر بمبدأ بترول العرب للعرب.. ويقينا سوف يسهر معدو المناهج البديلة لاستئصال مثل هذه الأفكار والشعارات وإحلالها بتوليفة تؤسس للقطيعة معها. وتحت دعوى التخلص من المحتوى الشوفيني للوطنية العراقية سوف يجري استزراع المفهوم الانعزالي القائل بالعراق أولا.. بل ويفهم من تشجيع تعليم «اللغات الأخرى» الدارجة هناك أنهم سيعمدون الى إحياء النزعات ما دون القومية والوطنية لدى المركبات الاجتماعية، وهكذا لا نستبعد أن يصبح النظام التعليمي مدخلا للميول الانعزالية، ليس فقط للعراق تجاه العرب والقومية العربية وإنما أيضا للكتل التاريخية الاجتماعية العراقية إزاء بعضها البعض. عمليات الهدم والبناء ستطال أيضا المساقات والمناهج التي أنتجت جماعة علمية قوية وإذا كان التحالف قد طارد هذه الجماعة بلا هوادة قبل الغزو، فمن باب أولى أن نتوقع الآن تطلعه الى قطع جذور انتهاجها وتكوينها من المنبع، من المدرسة والمعهد والجامعة هذا لأن الارتداد بالعراق «الجديد» الى مصاف منظومة الدول المتخلفة ومنعه من اختراق المستوى الاقتصادي الاجتماعي العلمي المقرر لمحيطه الاقليمي القومي يمثل هدفا رئيسيا للغزوة والغزاة. في كل حال، يظل الاحتلال العسكري هو الجانب الأسهل من الحملة الاميركية البريطانية على العراق، أما الجوانب الأصعب فتتعلق بهزيمة الشخصية الوطنية والقومية للعراقيين وتوطين العقل العراقي بما يوافق الأهداف الأبعد غورا للحملة.. تلك التي تبغي اخراج العراق من معادلة القوة العربية بالكامل والى أجل غير منظور، من حيث الهوية والانتماء والدور والمكانة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية، وحبذا لو تمت بلقنته جغرافيا، وأمركته فكريا وسياسيا. ولكن ما نصيب هذه المقاربة من النجاح أو الفشل؟..! لذلك مقام آخر. ـ كاتب وأكاديمي فلسطيني ـ القاهرة

Email