استراحة البيان ـ «دنيا» ... ماذا فعلت بك الدنيا ؟ ! ـ يكتبها اليوم: محفوظ عبد الرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 29 صفر 1424 هـ الموافق 1 مايو 2003 قالت لي «دنيا» إنها رأت دنياها تنهار ممزقة في آلاف القطع وتسقط من عل كأنها مشهد في فيلم سينمائي مصور بالتصوير البطيء. وكانت «دنيا» قبل ضعف بصرها من هواة الأفلام الأجنبية. ولكنها ما عادت تستطيع أن تقرأ الترجمة على الشريط. ومن الغريب أنها لم تستسغ المسلسلات المدبلجة . ورغم إنها فقدت علاقتها في السنوات الماضية بالأفلام الأجنبية، إلا أنها ما زالت تهوى هذه الافلام . وأدركت هول الصورة التي رسمتها «دنيا» مستعيرة رسمها من بعض الافلام الاجنبية، فلقد كان موت بشرى الغنام هو إنهيار لعالم «دنيا». ومنذ أربعين عاما وجدت «دنيا» نفسها وحيدة لا أب ولا أم ولا أحد ولا ميراث، وحولها عن بعد أسرة لا بأس بها. تجمعوا ودرسوا حالها، واقترح أحدهم أن تقيم مع بشرى الغنام . وهلل الجميع لهذا الاقتراح الذهبي . فلقد كانت بشرى فتاة عصرية شقت طريقها في العمل، ولما اتتها الفرصة سكنت وحدها قريبا من عملها . وهو الأمر الذي اصاب الأسرة بالعار إذ كيف تقيم فتاة وحدها في مسكن خاص ؟! ومن الغريب أن بشرى الغنام رحبت بالفكرة، أما «دنيا» فلقد طارت من الفرحة، فها هي قريبة من بشرى الغنام حلم شباب الأسرة، والمثل الأعلى لبناتها حتى لو كان ذلك سرا . ولكن بعد فترة أدركت «دنيا» أن بشرى استقبلتها في بيتها كخادمة . حقا ان القرابة تجمع بينهما، وأن أحدهم يدفع لدنيا مبلغا شهريا، لكن بشرى كانت حريصة على أن تعاملها معاملة الخدم دون أن تستطيع الإحتجاج على هذا «نظفي الأرض جيدا، ماذا سيقول الناس عنا ونحن فتاتين معا ؟» عندما يأتي هؤلاء الضيوف الزمي غرفتك فأنا لا أستطيع أن أقول من أنت؟!. «أرجوك يا دنيا» لا تثقي في أحد نظفي الملابس بنفسك ! وكانت «دنيا» تتحمل .. كانت تعرف انها وحيدة ولابد أن تتحمل . ولكن بشرى الغنام كانت تستطيع أن تتسلل إلى العصب وتستفزه حتى تجعلك تصرخ. هكذا قالت لي«دنيا» ولا أعرف هل أخذت هذه الصورة من فيلم سينمائي، أو أن «دنيا» لها مصادر ثقافية أخرى لا أعرفها . ولأنها لم تستطع أن تتحمل قررت ترك بيت بشرى الغنام. وتنفست الصعداء . ولكن لم تمر أيام حتى أدركت أنها هربت إلى الجحيم وأن الحياة مع بشرى على قسوتها أهون ألف مرة من الحياة في الخارج . وذهبت لها بشرى وبكت وأخذتها بين أحضانها وأعادتها إلى بيتها، وقرصت أذنها: يا غبية هذا بيتك مثلما هو بيتي . أغضبي كما تريدين ولكن لا تتركي بيتك أبدا. ولم تكن « دنيا» غبية تماما فأدركت أنها في هذه المرة تعود خادمة تماما. في المرة الأولى كانت خادمة تتستر في هيئة ضيفة، أما في هذه المرة فالحقيقة أعلنت . وفي هذه الفترة حدث تطور في موضوع «شتيوي» ، وهو ابن لصديق ثري للأسرة: أحب بشرى منذ وقت مبكر، وأحبته بشرى. ولكن أهله رفضوا زواجهما، وكان هذا سببا في قطع العلاقة بين الأسرتين. ولقد صمم والد شتيوي على أن يزوجه من فتاة جميلة ثرية وتذكر«دنيا» ليلة عرس «شتيوي» وبشرى لا تكاد تنطق من إحساسها بالحزن . ودق جرس الباب. وكان مستحيلا أن يدق في هذا الوقت . وفتحت الباب في حذر فإذ به «شتيوي» في بدلة الفرح . وألقت بشرى بنفسها بين ذراعيه وأخذت تبكي معه . أما «دنيا» فكانت أشد بكاء . «بالضبط يا أستاذ كما حدث لعنتر وعبله وأحمد ومنى ولا تنسى فيلم أني راحلة، ولا تنسى حسن ونعيمة وقيس وليلى». ولكن بشرى أفاقت من الموقف بسرعة ، وقررت بشخصيتها القوية أن يعود شتيوي إلى عروسه فورا. وأجبرته على ذلك . أكتفت بأنها عرفت من ذلك أنه يحبها مثلما تحبه . وكنت أرى يا أستاذ بعيني قصة حب مثل قصص الأفلام بل أكبر . ولكن سبحان من له الدوام . إستمرت قصة الحب سنوات طويلة إنتهت بموت مبكر لشتيوي وهو يقود سيارته من الاسكندرية بسرعة جنونية كعادته . ولا أحد غير دنيا - ربما - يعرف أن قصة الحب الرائعة شابها الكثير من القدر. «دنيا» تعرف أن شتيوي «خان بشرى مع جارتها سامية و «دنيا» وحدها تعرف أن بشرى خانته مع قريبها رشدي . وبدت لدنيا قصة بشرى مع رشدي تسير في طريق الزواج لولا أنها فجأة انقلبت عليه، واتهمته بأنه استولى على جزء من مالها. واختفى رشدي غاضبا، ولم يظهر إلا عند العزاء عجوزا ينقل قدميه بصعوبة . كان يتأمل كل ما حوله بعينين مليئتين بالدموع . في تلك الفترة ظهر «صلاح» وهو جار قديم ولم تصدق «دنيا» أنه يطلب يدها . الأحلام التي كانت تمر على خيالها في خجل تقدمت راسخة، تخيلت بيتها وحياتها، بل تخيلت أنه سيكون لها أولاد . ثارت بشرى وقالت لها ان صلاح يطمع فيها ! ولم تفهم «دنيا» فهي لا تملك شيئا يطمع فيه شاب مثل صلاح . ولكن بشرى زادت مقاومة إلى درجة العنف . وظلت «دنيا» متشبثه بصلاح حتى أتى لها في خجل وقال مرتبكا يلملم كلماته انه آسف إذ ينسحب من مشروع الزواج وأن له خططه الأخرى . كانت الطعنة قاسية. ولكن الأفظع كان حديث بشرى وهي تبتسم في سخرية وتقول لها انه تقدم للزواج منها. وربما كانت في اغماء عندما رأت بشرى تقول لصلاح. زياراتك تسعدني ولكن لاحظ اننا فتاتين وحيدتين، ولذلك نرجو ألا نراك بعد الآن . تقول «دنيا» انها أدركت في تلك اللحظة أن بشرى تسيطر على حياتها تماما، وأنها لا تستطيع أن تتقدم خطوة واحدة إلا إذا كانت توافق عليها. وورغم الحزن الشديد إلا أن «دنيا» أحست بالراحة . «لماذا يا دنيا» هل من الممكن أن يكون للعبودية مذاق مريح ؟! لم يبد عليها أنها فهمت. ولم تستعر شيئا من الأفلام التي ظلت تشاهدها منذ أن بدأ أول إرسال تلفزيوني حتى الآن . أدركت « دنيا» أنها دمية تحركها بشرى كما تريد وظنت أن ذلك سيدوم إلى الأبد ولكن ذات صباح فتحت الباب بريبة لإمرأة لم تتبينها لكنها عرفت أنها جارة قديمة. وتحدثت الجارة عن أخيها «سيد» الذي تزوج لسنوات ولم ينجب. وماتت زوجته. والحوا عليه بعدها في الزواج مرة أخرى، فحدثهم عن حب قديم من طرف واحد لدنيا . فإذا لم تكن متزوجة وقبلت الزواج منه سيكون سعيدا . وإذا لم تكن لن يتزوج . وبدت لها آنئذ قيود العبودية شفافة من الممكن كسرها. واشتغل عقلها في الساعات التي كانت بشرى في عملها أكثر مما اشتغل في سنوات وقررت أن تقود المعركة كأي جنرال في فيلم . هربت بعض ممتلكاتها الصغيرة . قررت أن تضحى ببعض مالها الذي تحتفظ به بشرى . أخفت عنوان «سيد» الجديد مدعية أنها لا تعرفه. وفعلا ثارت بشرى وقالت ان سيد من أسرة لا تليق بأسرتهما العريقة! ولكن «دنيا» تزوجت وعاشت حياة أخرى . وهل كانت حياة حرة ؟ لا تعرف فهي لم تمارس حريتها . كل ما فعلته إنها تفانت في خدمة الزوج الذي كان محبا ودودا مشغولا بعمله . وذات مساء حملوه إلى البيت ميتا! ومر عليها أسبوع كأنه كابوس لا نهاية له فكرت أن تتصل ببشرى، لكنها قررت أن تمارس حريتها . كيف ! لم تعرف الإجابة . فأجلت الإتصال وتمنت أن يكون ذلك للأبد . ولأنها لا تستطيع أن تشاهد التلفزيون حسب التقاليد، أخذت تفعل أي شئ، ومن ذلك أنها فتحت خزانة زوجها لترتبها . واصطدمت بشيء ملفوف بقماشة قديمة، فتحتها فإذا فيها مبلغ كبير من المال، اثار ذعرها . لم تعرف ماذا تفعل ؟ خطر على بالها أن تأخذ المال وتذهب به إلى مكان آخر . لكن أين المكان الآخر ؟ وكيف تخرج به في هذا الحي الشعبي . فكرت أن تعد المال، لكنها ارتبكت وأدركت فقط أنه ألوف. ولم تجد بدا من أن تخرج إلى نهاية الشارع لتكلم بشرى في التليفون. وكانت بشرى عندها بعد ساعة. وتولت الأمور، وأدركت دنيا أنها عادت إلى العبودية . تولت بشرى الأمور منذ وضعت النقود في حقيبة صغيرة، وخرجت بها إلى وضعها في البنك باسم «دنيا» وأرتها الدفتر . لكن دنيا لم تر الدفتر بعد ذلك، ولم تكن تعرف أين يقع البنك . ودخلت دنيا في مرحلة جديدة فلا هي خادمة ولا صحتها تساعدها على هذا، ولا هي صديقة لبشرى. وظلت بشرى تدفع لها كل شهر مبلغا وتقول لها: من مالك ! فلا يقلل هذا من إحساسها بالعبودية . أربعون عاما تعسة . لكنها لا تعرف الحياة غير هذا . وفجأة دخلت بشرى في مرض قاتل . انهار البنيان الشامخ. وأحست «دنيا» أن الأرض تميد تحت قدميها فهي لا تعرف أحدا، ولا تعرف أين مالها ولا تستطيع أن تطلبه من بشرى، فهذا يعني أنها تعلن لها أنها ستموت. وبشرى لا يخطر على بالها هذا . لقد صرخت فيهم عندما وجدت نفسها في المستشفى: ماذا أتى بي هنا ؟ بكت وهي تحكي قصتها للطبيبة الشابة، التي كانت بشرى صديقة لأمها. وتدخلت الطبيبة وأتت لها بدفتر أموالها ووصفت لها مكان البنك وأبدت استعدادها أن تصحبها إليه . لكن عندما ماتت بشرى الغنام بدا كل ذلك بلا معنى . كل ما كانت تحتاجه هو بشرى الغنام . وانهارت الدنيا كلها ممزقة في آلاف القطع .. مشهد مستعار من فيلم سينمائي . لكن المستعار حقيقي، والمستعار منه مجرد وهم.

Email