حرب البيانات والمؤتمرات الصحفية والصور، بقلم: د. محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 3 صفر 1424 هـ الموافق 5 ابريل 2003 يبدو أن الإعلام العراقي والإعلام العربي والدولي الموجود في بغداد والعراق بصفة عامة يقلق البنتاغون والتحالف الأميركي البريطاني، وأن مخرجات هذا الإعلام بمختلف مشاربه تفضح بالصوت والصورة الأعمال الوحشية والإجرامية التي يقوم بها الحلفاء في ضرب الأهداف المدنية وقتل الاطفال الابرياء والعراقيين العزل. أميركا تضرب مبنى وزارة الإعلام العراقية بعد قصف مبني التلفزيون ومرافق الاتصالات والبث الفضائي لتقضي على الرأي الآخر وعلى مبدأ رئيسي تتغنى به وهو حرية التعبير وحرية الرأي وحرية الصحافة. أميركا تريد التضليل والتعتيم وإخفاء الحقيقة وإسكات الأصوات والأفلام وتشويش الصور التي تنقل وقالع الحرب وهمجيتها إلى مجالس البشر في جميع أنحاد العالم. أميركا تريد أن تسكت كل من يغطي الحرب بغير منطقها وبغير وجهة نظرها انطلاقا من مبدأ «من ليس معنا فهو ضدنا». فشل العدوان الأميركي والبريطاني في كسب المعركة الإعلامية وكسب الرأي العام العالمي حيث ان المشهد الإعلامي تغير وبصورة فائقة بعد يومين من اندلاع العدوان على العراق إذ كشفت الصور عن الحجم الكبير للمقاومة العراقية وما تلاها من أسر وقتل العديد من الجنود الأميركيين والبريطانيين وكذلك إسقاط مروحيات وطائرات عسكرية. من جهة أخرى شكك إعلام التحالف في مصداقية صور صدام حسين وهو يجتمع بكبار المسئولين العراقيين وقال انه أصيب بجروح أو أنه قد لاقى حتفه ونفس الشيء قيل عن طارق عزيز وطه ياسين رمضان ومسئولين عراقيين آخرين، الواقع كان عكس ذلك تماما حيث أن صدام ومعاونيه احياء يرزقون وهكذا اكتشف الرأي العام الأكذوبة الكبيرة. كما تكررت الأكاذيب لاحقا فيما يتعلق بالادعاءات حول السيطرة على أم قصر، والبصرة والزبير وغيرها من المواقع التي يدعي التحالف أنه حررها ويسيطر عليها بالكامل. أصبحت حرب البيانات والصور والمؤتمرات الصحفية أهم بكثير عما يدور في ميدان العمليات وأصبح الصراع على أشده حول من يسيطر ويتحكم في أخبار الحرب وتفاصيلها وصورها هذا ما دفع بالأميركيين الى تجهيز مركز إعلامي بالسيلية بقطر حتى يستجيب لأهمية واستراتيجية الحدث. البنتاجون لديه الآن ما يتجاوز الـ 500 صحافي 80% منهم أميركيون والبقية من باقي دول العالم يشرف عليهم ويوجههم للأماكن التي يريدها ويتدخل حتى فيما يكتبونه وينشرونه ويبثونه ويرسلونه إلى مؤسساتهم الإعلامية. الحرب إذن إعلام قبل ان تكون عمليات عسكرية تكتيكية واستراتيجيات في الميدان. الخبراء الأميركيون لهم تاريخ في هذا المجال فبحوث الإعلام والاتصال بدأت بحروب الدعاية والحرب النفسية وجاءت دراسات وأبحاث التأثير وتحليل المحتوى من رحم إعلام النزاعات العسكرية والدعاية والحروب النفسية. في فيتنام تلقى الأميركيون درسا لن ينسوه طول حياتهم، الدرس تمثل في عدم تمكنهم من السيطرة والتحكم في أخبار وصور الحرب حيث استطاع الصحافيون الأميركيون انفسهم وبفضل فضولهم وحسهم الاستقصائي أن يكشفوا للعالم وخاصة للأميركيين مآسي ومجازر الحرب والخسائر الجسيمة التي كانت تتكبدها القوات الأميركية. شاهد الرأي العام الأميركي صوراً مروعة عن الشباب الأميركي الذين كانوا يموتو بدون سبب وتلقى اخباراً حركته لينظم مسيرات ومظاهرات آلت في نهاية المطاف الى الانسحاب الاميركي المهزوم من المعجزة الفيتنامية ونفس الشيء حدث في الصومال حين شاهد العالم بأسره صورة الجندي الاميركي وهو جثة هامدة ملقاة في احد شوارع مقديشيو. كشف العدوان الاميركي البريطاني على العراق وما زال يكشف عن تناقضات وافلاس النظام الدولي وانحرافه عن القيم والمبادئ والقوانين والأسس التي تحكم المنظومة الدولية. فأميركا هذه الايام تقصف التلفزيون العراقي ومرافق الاتصالات والبث الفضائي لعزل العراق عن العالم واسكاته عن ابراز الحقيقة وتقديمها للعالم وكذلك التعبير عن وجهة نظره وموقفه من الاحداث والوقائع في مسرح العمليات. أميركا تريد ان تسيطر على العالم وتخبر العالم وتستعمل ما تشاء من صور واخبار ووقائع لكنها تمنع الغير من اخبار العالم واعلامه فالمنطق الاميركي هو الكيل بمكيالين وان معاهدة جنيف تطبق على العراقيين لكنها لا تطبق على العم سام. فمن حق الاميركيين اهانة سجناء «جوانتانامو» ومعاملتهم كمجرمين وارهابيين قبل محاكمتهم ومن حق الاميركيين منع الصحافيين من تغطية غزوهم لجزيرة «جرينادا» ومن حق الاميركيين نسف سيارة خمس يمنيين اتهموا بعلاقاتهم بالقاعدة دون مساءلة ودون محاكمة، لكن بقية دول العالم ليس لديها الحق في ممارسة حقها في الاعلام والاتصال. دروس من الماضي تواطأ الاعلام الاميركي مع البنتاجون في حرب الخليج الثانية وقادت شبكة سي.ان.ان الحرب النفسية كما شاءت ولم ينافسها احد في ذلك لأن الآلة العسكرية الاميركية تعلمت الدرس من حرب فيتنام وحروب اخرى خسرت فيها اميركا معركة الصورة والكلمة حيث استطاع الاعلام الاميركي والعالمي الكشف عن وحشية الجيش الاميركي وعن خسائره الفادحة، فسواء في فيتنام او في الصومال كلف الاعلام اميركا غالياً حيث ان الرأي العام ارغم الساسة على الانسحاب من الحرب والاعتراف بالهزيمة. هذا ما ادى بالقادة العسكريين في صفوف التحالف باستعمال استراتيجية تبني الصحافيين في الوحدات العسكرية لتغطية الحرب ووقائعها وبذلك يصبح هؤلاء تحت رحمة العسكريين الذين يتحكمون في تحركاتهم وفيما يصورون ويكتبون، وهذا ما حدث بالضبط خلال حرب الخليج الثانية، هذا الابتزاز وهذا الاستغلال ربما سيؤدي الى انتفاضة او صحوة من قبل الاعلاميين للحاق بمئات الآلاف بل الملايين عبر العالم الذين عبروا وما زالوا يعبرون يوماً بعد يوم عن مواقفهم المناهضة للحرب وللنزعة العسكرية الاميركية. في الايام الاولى من حرب اميركا على حركة طالبان انفردت قناة الجزيرة بتزويد العالم بأسره بتقارير وصور عما كان يدور في جبال «تورا بورا» و«قندهار» الامر الذي لم يرض الاميركيين على الاطلاق حيث كان الاعلام الاميركي يعتمد على ما تقدمه الجزيرة وكان الحل الوحيد لكسر الهيمنة والتخلص من الرؤية العربية للحرب هو ضرب مكتب الجزيرة وعندما انهزمت طالبان وانهارت وبسط الاميركان نفوذهم في افغانستان وسيطرو على كل كبيرة وصغيرة في البلد بسطت سي.ان.ان نفوذها بتحالفها المعتاد مع البنتاغون ومن ثم اصبحت اميركا تسيطر على العمليات العسكرية وعلى الصور والاخبار، وهذا ما يبحث عنه تجار الحروب والمتلاعبون بعقول البشر في جميع انحاء العالم. فالاميركيون لا يكتفون عادة بالاستراتيجية العسكرية فقط وانما يركزون على السيطرة على العقول والعواطف والاتجاهات وكذلك الرأي العام وهذا ما جعلهم يركزون على الحرب النفسية منذ سنوات لكسب الرأي العام، لكن حساباتهم كانت خاطئة هذه المرة وان الاستقبال بالورود وبالأحضان كان حلماً يتمناه الاميركان لكن في الواقع جاء الاستقبال بمقاومة شديدة من الشعب العراقي سواء كان شيعياً او كردياً او معارضاً لصدام او مستاء من النظام. وهذا ما كشف عن اكذوبة اخرى من اكاذيب صقور البيت الابيض وتجار الحروب. الكيل بمكيالين: قصف وتدمير التلفزيون العراقي وعدد من مرافق ومنشآت الاتصالات ووزارة الاعلام يمثل جريمة عدوانية في حق حرية التعبير والرأي وحرية الصحافة، وبكل بساطة فالصور والحقيقة تقلقان الاميركيين وتحرك الرأي العام الاميركي والعالمي ضد همجية صقور البيت الابيض الذين تحركهم مصالح شركات البترول والصهيونية العالمية. والغرابة هنا كبيرة جداً والمفارقة اكبر عندما يستعمل الاميركيون معاهدة جنيف للاحتجاج على صور الاسرى الاميركيين لكنهم يتناسون هذه المعاهدة ويضربون ببنودها عرض الحائط عندما يسكتون الاعلام العراقي بالقوة والعنف ويقصفون هيئة التلفزيون العراقي ومرافق الاتصالات والبث الفضائي. هذه هي اذن حرية الصحافة التي يتغنى بها الاميركان وهذه هي المساعي الحميدة للعدوان الاميركي «الذي جاء ليحرر الشعب العراقي ويعلمه الديمقراطية»، ديمقراطية اسكات الآخر وديمقراطية قتل الاطفال والابرياء. الاعلام العراقي يفضح التحالف الاميركي البريطاني ويكشف عن الادعاءات المزيفة «للحرب النظيفة وللحرب الخاطفة التي تدوم بضعة ايام» الاعلام العراقي وغيره من الفضائيات العربية والعالمية كشف ان ما يجري في ساحة المعارك يؤكد ان العدوان يستهدف تدمير العراق، ولا يفرق بين الاهداف المدنية والاهداف العسكرية وان قصف مبنى التلفزيون ما هو الا دليل قاطع على ذلك فمعاهدة جنيف تمنع ضرب الاهداف المدنية وتنص على ان «الضربات يجب ان تقتصر على الاهداف العسكرية فقط». هكذا اذن تتكرر هزائم وخسائر الحلفاء في عدوانهم الغاشم على الشعب العراقي، خسائر في مسرح العمليات العسكرية وأهم منها خسائر على مسرح الاخبار والصور والرأي العام. ـ كلية الاتصال. جامعة الشارقة

Email