استراحة البيان، يكتبها اليوم: سعيد حمدان، عندما يغني الشعراء .. بغداد

ت + ت - الحجم الطبيعي

الجمعة 2 صفر 1424 هـ الموافق 4 ابريل 2003 وحده الشعر تشتهيه النفس في كل حالاتها : إذا عصف بها العشق والغرام، وعندما يحل عليها الشجن و تثقلها الأحزان تفتش عنه في خلايا ذاكرة تعودت النسيان، تبحث عن شطر ضائع او بقايا قصيده أو اسم جميل لشاعر حفر اسمه قصائد وكلمات. تحن النفس والنفس العربية تحديدا، الى الشعر لانها في كل الاحوال غير كل الامم، كثيره هي مصائبها وأوجاعها، وايضا خيالها واسع في حالات الوله والهيام، وتملك احلاما واوهاما لا تنتهي. هكذا حال هذه الامة، وهذه النفوس في كل الازمنة التي درسناها والتي عشناها، هكذا كانت، وهكذا تكون. كان القصيد لها هو الملهم، وهو المسكن، وهو الذي تداوي به احزانها، وتنتظر من الشعر ان يأتي بالأجمل، ذلك الذي تبشر به القصائد من أيام الجاهلية وحتى قيام كيان الأمم المتحدة. وفي كل ازمنة العرب كان الشاعر هو لسان حال القبيلة وشعارها تتفاخر به في أيامها وأعيادها وفي حروبها، كان وحده الذي تفتح له ابواب القصور في كل الأوقات، ومجلسه صدر المجالس عند الامير الحاكم، الذي يكون في العادة هو الآخر شاعرا او عاشقا للشعراء، يجمعهم من كل اصقاع الدولة ويزاهي بهم، كانوا يتنافسون بكثره الشعراء، وكان هؤلاء لا تسكت ألسنتهم وتفيض قرائحهم دوما بالثناء والمديح والغزل بصفات اميرهم وسيدهم . هذا إذا رضوا عنهم، اما اذا غضبوا عليهم، فانهم لا يكونون إلا وراء القضبان، في السجن حتى يتوبوا أو يموتوا، ففي الازمنة الخوالي فإن طرد شاعر يعنى أن يعرض بالأمير ومستقبله، فقد يستخدم الشاعر سلطة لسانه في الهجاء والتذمر، وتشجعه الاقوام الاضداد والاعداء على الابداع في الهجوم على من كان سيده، ويشعلونها حربا شعرية، وهذا الذي يخافه الجميع، ان يخلد التاريخ من افواه الشعراء صورهم المشوهة، وتسقط صورة الخليفة أو السلطان أو الامير المحارب المجاهد البطل التقي الفاتح الناصر. الناس لا تذكر من التاريخ سوى الشعر، لهذا فان اجمل ايام العرب تلك التي سجلت فيها القصائد، وابشع الخلفاء الأمراء هم أولئك الذين عادوا الشعراء مع أن بعضهم اضاف للتاريخ انتصارات ومنجزات إلا انه حارب الشعر، فكانت صفحاته في التاريخ سوداء، كل ما فيها كلمات واوصاف لا تسره ولا تنصفه، و ما كانت له سلطة أن يمنعها من النشر، وان تحفظها الكتب من بعده وان يتغنى بها الناس في بلده وعصره وفي كل بلاد تصل اليه، وفي متواليات حقب التاريخ وتقاسيم الجغرافيا وثقافات الحضارات المتغيرة. مات الطغاة ... خلد الشعر وبغداد واحدة من مدن معدودة خلدها الشعر في كل العصور، ما مرت عليها حقبة إلا وابتليت بطاغية من داخلها او سلط عليها، وفي كل احقابها كان يوجد فيها شاعر او شعراء، يهوي الطاغية، ويبقى في بغداد الشعر. حتى عندما ابتليت بأكبر كارثة في التاريخ، وملكها هولاكو، وأراد ان يخلد فيها، احرق كل تراثها ومزق تاريخها وكتبها ورمى بأوراقها وابنائها في نهر دجلة، حتى جرى في ذلك الزمن بلون الحبر والدم، وظن عظيم التتار أنه مسح تاريخها، وان العصر الجديد سيكتب فيه وحده اروع القصائد، ونسي المجنون ان صدور الناس أبقى، وان القصائد فيها لا تموت، وابتلعت الارض هولاكو، لكن الشعر الذي احرقه بقي حيا، شاهدا. وفي كل زمان يبعث الله فيها شعراء، لكي تظل بغداد نجمة لا تغيب ولا تنطفيء، قدرها انها مهد الحضارات، خرجت عندما قامت الدنيا، في اليوم الذي لم يولد فيه مؤرخ ولم تنبت شجرة ولم يعرف القرطاس ولا القلم. وقدرها ايضا ان يشهد ترابها أجمل الايام في التاريخ وان تعيش ايضا اياماً أُخر كلها بؤس وظلام. قدرها ان تكون متمردة وحالمة، عاشقة ومذبوحة، غاضبة ترجو السكينة، تنتظر يوم السلام، فلقد أتعبها الزمن وهدها كثر الموت وبشاعة الجوع فيها، وما عادت تقوى على انتظار الصبر! دجلة الجواهري .. خليج السياب وفي عصرها الطويل هذا، كانت بغداد تواصل الأنين من الجبروت والطغيان، وكثرة الحروب التي فرضت عليها والتي لا تعرف لها معنى، حتى جاءها الطوفان الاعظم، طوفان بوش أميركا. في بدايات عصرها هذا، ولدت نوابغ الشعراء لكنها لم ترحمهم ـ لا نظلم بغداد وانما الذين حكموها ـ فكان قدر عقولها وقلوبها ان يعيشوا الفقر والظلم، وان تنتهي بهم الحياة في التشرد والغربة، يحاصرهم الحنين، ويقتلهم حب بغداد عن بعد، هكذا كان الجواهري في ملحمته (دجلة الخير) وقبله بدر شاكر السياب صاحب صرخة (الخليج) الخالدة في انشودة المطر ومثلهم الرصافي ونازك الملائكة والبياتي وسعدي يوسف ومظفر النواب وغيرهم. وعن اليوم، ما يحدث في العراق وسلطان اميركا على العالم، كتب مرة احمد مطر «لافتة» صغيرة، تقول: في الارض مخلوقان: إنسي ..... وامريكان! بعدها كبرت (اللافتة) لتفصل اكثر في الواقع العربي تحديدا ... بدعة من ولاة الأمر صارت قاعدة كلهم يشتم أمريكا. وامريكا اذا ما نهضوا للشتم تبقى قاعدة فإذا ما قعدوا تنهض أمريكا لتبني قاعدة! وعن العراق الذي يذبح بدم بارد، في بث حي بصور ملونة في غاية من الصفاء والنقاء، على فضائيات العالم كل ليلة بل كل لحظة، كتب شعراء العراق وشعراء الامة العربية وشعراء العالم كله، كتبوا بغضب، كتبوا برجاء، كتبوا وكلهم أمل وخوف، ليس على العراق وحده وانما على الإنسانية، على السلام. فاروق شوشة يصرخ شعرا من العذاب والوجع، يصرخ لحال بغداد: بغداد.. يا بغداد كيف الرقاد! وانت الخوف والخطر، وليل بغداد ليل ما له قمر ها انت في الاسر: جلاد ومطرقة، تهوى عليك وذئب بات ينتظر وذابحوك كثر؟ كلهم ظمأ الى دمك، كأن قد مسهم سعر، أين المفر؟ وهولاكو الجديد أتى، يهيئون له ارضا فينتشر ... وشاعر نجم هو محمود درويش يكتب عن حال العراق وفي الصدى ذكريات السياب: اتذكّر السياب .. ان الشعر يولد في العراق فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي اتذكّر السياب .. لم يجد الحياة كما تخيّل بين دجلة والفرات فلم يفكّر مثل جلجامش بأعشاب الخلود، ولم يفكر بالقيامة بعدها اتذكر السياب حين اصاب بالحمى واهذي: اخوتي كانوا يعدّون العشاء لجيش هولاكو، ولا خدم سواهم.. اخوتي اتذكر السياب .. ان الشعر تجربة ومنفى، توأمان، ونحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة وان نموت على طريقتنا: عراق، عراق، ليس سوى العراق

Email