كل صباح، بقلم: فضيلة المعيني، أهوال وأوحال

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس غرة صفر 1424 هـ الموافق 3 ابريل 2003 كانت الأم تهدهد وليدها الرضيع بما نعرفه جميعاً من حب كبير اختلط بالخوف والفزع والرعب لمن كان في قلب الأحداث يعايش الموت كالأمهات في العراق في محاولة يائسة، لدفع الصغير للنوم والاسترخاء وسط أزيز المدافع ونيران القصف التي لا تخمد، بل وحتى لا تهدأ. وبعد ساعات من الهدهدة الممزوجة بالأهازيج التي تبعث للنفس الأمن والطمأنينة وهي آخذة إياه في صدرها الحاني، استسلم الوليد للنوم وسط دعوات الأم له بنوم هاديء وليلة ساكنة وضعته جانباً في فراشه المتواضع، وقربت من فمه الصغير مصاصته المطاطية التي اعتاد أن يمصها في نومه شأنه في ذلك شأن غيره من الأطفال. ثوان ابتعدت فيها الأم عن رضيعها لتطمئن على صغارها الآخرين الذين كانوا لايزالون يلعبون في فناء البيت وقد اتخذوا من الرمل وسيلة اللعب واللهو، فليس أمامهم سواه، فهناك من أراد لأطفال العراق ألا يحيوا كغيرهم من الأطفال فلا ألعاب تعليمية لديهم ولا الألعاب الترفيهية المسلية ولا حتى غير المسلية. هناك أخذت الأم تنادي على صغارها تدعوهم لتناول فتات الخبز اليابس هو ما تبقى لها مع قليل من الشاي ينقصه السكر الذي أصبح شحيحاً في أسواق العراق. لكن الصغار لم يكملوا عشاءهم الذي تحول بالنسبة لهم الى العشاء الأخير بعد ان داهمتهم نيران وشظايا صاروخ أطلقته قوى العدوان دون اعتبار لآدمية الكبار ولا الصغار، فعصفت بالبيت الهاديء بكل من فيه بمن فيهم الصغير النائم ومصاصته لا تزال في فمه لتحيل بذلك براءة الصغار وأصواتهم وصرخاتهم الى اشلاء وجثث بلا احشاء ومناظر تقشعر لها الابدان. جثامين طاهرة لم تجد سوى سيارة نقل مكشوفة تحملها الى مثواها الأخير والمصاصة لاتزال في فم الصغير وكأنه ظل متمسكاً بها حتى آخر لحظة دلالة على تشبثه بالحياة ورفضه لمحاولات البعض اغتصابها منه، ولكن جسمه الغض وقلبه الصغير النابض بالحياة لم يقويا على مواجهة قوى العدوان فاستسلم لنهاية جاءت باكرة. وفي بقعة أخرى من أرض العراق وفي المحور ذاته فجعت أم أخرى بمشهد طفليها وهما جثتان هامدتان، لم تتمكن من استيعاب الموقف جيداً فراحت تحتضنهما في محاولة أخيرة للبقاء عليهما ظناً منها بأن حضنها قادر على حمايتهما ووجودهما بين ضلوعها كاف ليكونا في مأمن من غدر العدوان ونيران القصف، في تلك الاثناء وفي لحظات التقاط الأنفاس مرت أمام ناظريها سنوات عمري صغيريها القليلة فإذا بها تدخل في نزعها الأخير وهي تطلق ابتسامة لا ندري إن كانت ابتسامة سعادة للحاقها بفلذتي كبدها أم هي ابتسامة سخرية من الأقدار ولسانها يردد دعاء وحيداً: «اللهم انتقم».

Email