استراحة البيان، يكتبها اليوم: مجدي شندي، طرق مظلمة تبحث عن ضوء

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 30 محرم 1424 هـ الموافق 2 ابريل 2003 «في فترة الحرب تصبح الحقيقة عزيزة الى درجة استحالة أن تحصل عليها دون أن تكون محاطة بسلسلة من الأكاذيب».. هكذا يقول تشرشل في مذكراته. كل يوم تثبت الحروب هذه المقولة وتثبت ان غوبلز لم يمت وربما لن يموت ومقولته الخالدة «اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس» تكتسب كل يوم مصداقية جديدة. ورغم ان غوبلز كان عدواً للحلفاء ذات يوم، فإنه الآن صديقهم وحليفهم، بل لجأوا الى استنساخه آلاف المرات ليضعوا نموذجاً منه على رأس كل وسيلة إعلام غربية.. ليس ذلك فحسب، بل يحاولون تعميم هذا النموذج عربياً. الولايات المتحدة دولة فردانية لا تؤمن بالتعدد، تريد أن تكتسب صفات الوهية حاق الدمار بكل من حاول الاقتراب منها. لا تريدنا فقط أن نتبنى خططها السياسية وإنما ايضاً ثقافتها. لا يرضيها أن ننصاع انصياعاً تاماً، نرفع الراية البيضاء، ونتقدم عزلاً كي تطلق علينا النار واحداً بعد الآخر أو تتلذذ وهي تنقلنا واحداً واحداً الى معتقل غوانتانامو الإعلامي إذا لم نقل ان حربها على العراق حرباً من أجل «حرية العراقيين»، وليس مهماً إن قتلت هذه الحرب العراقيين جميعاً. علينا كذلك أن نصور قادة قاذفات القنابل والذين يستعدون لمهام القصف السجادي، وربما أيضاً الذين يجهزون قنابل نووية صغيرة لالقائها على العاصمة العراقية بأنهم حملة مشاعل حرية ينبغي أن نتبرّك بهم، ونتمسّح.. نقبِّل أعتاب حاملات الطائرات والأسلاك الشائكة التي تحيط بالقواعد، غير أن علينا أن نتطهر من دنسنا قبل ذلك.. أن نغسل أدمغتنا من أوهام حرية الشعوب وحقها في اختيار أنظمتها ومقاومة من يقومون بغزو أراضيها، كما يتطهر اليهود من دنسهم التاريخي برماد البقرة الحمراء قبل أن يدخلوا ساحة الهيكل. ـــ المشكلة الكبرى التي تواجهنا هي اننا معشر الإعلاميين لا نعرف كيف نرضي ادارة بوش المملوءة بآل كابوني. ليست هذه مشكلة الإعلام العربي وحده، وإنما مشكلة الإعلاميين الغربيين أيضاً. فجأة وجد بيتر أرنيت مراسل محطة «سي.ان.ان» الشهير أثناء حرب الخليج الثانية ومراسل إحدى المحطات الأميركية الأخرى حتى قبل يومين، نفسه وقوداً للحرب، لم يرتكب أرنيت خطيئة من أي نوع، هو رجل أميركي لحماً ودماً، رؤى وأفكاراً في نظرته للحرب ونظرته لنا باعتبارنا مجرد قرود في قفص تتسلى بهم أميركا كما شاءت، تدللهم، تجري عليهم التجارب، تقصفهم بالصواريخ. لم يعرض أرنيت صوراً للمدنيين العراقيين وهم يذوقون وبال القصف لنزع «الانسانية» عن الحملة الحالية، ولم يبرز صور أطفال جرحى، أطفال في عمر الزهور قُطِّعَت أرجلهم وأيديهم، وافترستهم القنابل العنقودية، لم يفعل شيئاً من ذلك كله، وإنما كل جريرة الرجل انه كان ضيفاً على محطة التلفزيون العراقية، وقال ان المقاومة أثبتت فشل خطة الحرب الأميركية. صحفيون غربيون آخرون يعانون القهر الأميركي.. منظمة صحفيون بلا حدود، وهي منظمة دولية غربية أصدرت بياناً يوضح كيف أن صحفيين غربيين تعرضوا لاطلاق النار عليهم من قبل القوات الأميركية. بعضهم ألقي القبض عليه وتم التحقيق معه لساعات طويلة وتعرض للضرب والاهانة. ماذا إذن تركت «قوات التحرير الأميركية» من أساليب أعدائها «الارهابيين» لم تفعله. قوات التحرير هذه وأولئك الذين أرسلوها، ضيقو الصدور، يخشون أي كلمة تقال، مع انهم جاؤوا من بلاد تمثال الحرية وبلاد حرية الرأي والمعتقد، وحرية أن تغرق في الحرية حتى شعر رأسك.. ترى ما الذي جعلهم يضيقون بأبسط أشكال الحرية؟ ـــ اعترف الآن بأنني كنت مشوشاً ومغسول الدماغ.. اعترف بأنني كنت أرى حقائق الحياة مجرد صور مقلوبة. صدعت نفسي طويلاً بأوهام عن حرية الشعوب وانعتاقها من العبودية، رأيت ذلك الخارج «سبارتاكوس» باعتباره ساعياً نحو الحرية بدلاً من أن أراه ارهابياً. سحقاً لكل وجهات نظري السابقة، وسحقاً لكل أولئك الذين كنت أظنهم مناضلين، واكتشفت في خريف العمر انهم مجرد راسبوتين كرر نفسه طويلاً لخداعي.. ما بالي أحفظ سير عمر المختار ونكروما وعبدالناصر ومانديلا وسيمون بوليفار وتشي غيفارا وونستون تشرشل ولينكولن ومارتن لوثر كنغ.. أليسوا مجرد أوهام سابقة؟ الآن.. أنعم اللّه علينا بالمحرر الأميركي الذي يأتينا ليحررنا من ثقافتنا المشوشة، ومن تاريخنا المملوء بالخرافات.. ليس نحن فحسب، بل ان العالم كله يجب أن يتحرر من الأوهام السابقة، وأن يتبنى كل وجهات نظر رسل الحرية الآتين من وراء المحيط، لكي نستطيع أن نفهم لابد أن نأكل الكنتاكي فرايد تشيكن وماكدونالدز وشطائر الهامبورغر، وأن نشرب الكوكاكولا بدلاً من أكلاتنا الشعبية التي جعلت عقولنا مريضة. علينا أيضاً أن نقرأ «يو.اس توداي» و«التايم» و«نيوزويك» بدلاً من «الأهرام» و«الحياة» و«الشرق الأوسط» و«القدس العربي» و«البيان»، علينا أن نتعقّل ونشاهد الـ «سي.ان.ان» والـ «بي.بي.سي» و«الفوكس نيوز» بدلاً من «الجزيرة» و«أبوظبي» و«المنار» والتلفزيون المصري. علينا أيضاً أن نعتقد ان أولئك الأطفال الذين تمتليء بهم شوارع العراق وفلسطين والقاهرة ودمشق ليسوا أطفالاً، ولكنهم مشاريع ارهابيين يريدون أن ينكدوا علينا حياتنا. علينا أيضاً أن نصدِّق أميركا كما كان ينبغي على موسى عليه السلام أن يصدِّق الخضر، وألا نراجعها حينما تقتل طفلاً.. ألم يقتل الخضر طفلاً كي لا يرهق أبويه الصالحين طغياناً وكفراً؟ ـــ كل يوم قبل النوم أحاول أن أتعلم اللغة الجديدة، وأرجو ألا يعيقني غبائي الموروث عن هذا.. أكتب المصطلحات القديمة المغلوطة يميناً، وأكتب المصطلحات الجديدة على اليسار.. غزو واحتلال معناهما حرب تحرير.. قصف المدنيين معناه الاغارة على ارهابيين.. قاذفات بي-52 معناها مشعل حرية.. المقاومة معناها الارهاب.. السيطرة على المقدرات والنفط معناها صيانة ثروات البلدان لأصحابها.. «الجزيرة» معناها قناة غوبلز.. غوبلز معناه الذي ينطق بالحقيقة دون سواه. تمنيت لو أنني أفلح في هذا الاختبار، وأن أنال الرضا السامي، وحينها عليّ أن أصلّي ركعتي شكر بعد أن رزقني الله علماً بعد جهل طويل.

Email