إشراقة البصرة، بقلم: جمال الغيطاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 30 محرم 1424 هـ الموافق 2 ابريل 2003 عندما تدركنا اللحظات الاستثنائية نلجأ إلى الذاكرة. هذا ما عرفته خلال تلك الأويقات الفاصلة بين الحياة والموت. عند الانتقال من مكان إعتدناه إلى مكان لم نألفه بعد، أيضا عندما يتهدد الخطر مكانا مررنا به أو قرأنا عنه أو إرتبط بمعاني متعددة المستويات. هذا حالي مع البصرة منذ أن بدأ الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق مرة أخرى تصبح البصرة بكل ما تمثله من موقع وزمان متراكم هدفا إستراتيجيا يجري حوله الصراع، لكم تعرضت المدينة العريقة لغزوات واضطرابات، لعل ما يتهددها الآن ـ حتى كتابة تلك السطور صباح السبت ـ أخطر ما واجهته في تاريخها الطويل العريق. أتابع موقعها على الخرائط التي تبثها الفضائيات، مجرد اسم، مجرد علامة، لكنها تعني بالنسبة لي الكثير، اتجه إلى مكتبتي استخرج كل ما يمت إليها، ما كتب عن تاريخها. ما أرتبط بها في الوجدان، بدءا من الحسن البصري وحتى محمد خضير القاص العراقي الموهوب الذي لم يفارقها قط. ولا أدري أخباره الآن.أين يقيم.وماذا يفعل. وكيف تمضى حياته وهو يرى الأميركان والإنجليز والإستراليين، هؤلاء الغرباء عن الارض والزمن وقد جاءوا يعيثون فسادا. أرى المشاهد التي تنقلها الفضائيات، مطار البصرة يلوثه الغزاة، أتجه إلى أوراقي، أحمل كراسة في أسفاري أدون فيها يوميات وملاحظات، لعلها تصبح مصدرا لعمل إبداعي يوما. في عام ثمانية وثمانين زرت البصرة، ولم أنزلها فيما بعد، ودونت تلك المشاهد التي أستعيدها الآن وأخرجها لأول مرة مستعينا بالذاكرة على أيام صعبة. من أي العناصر تستمد البصرة حضورها الطاغي، اللامرئي؟ من التاريخ، أو الاسطورة، أو الحاضر الأشم؟، لا أنزلها إلا وأشعر أنه أدلج بي في أزمنة متجاورة، وتلفني أطياف لا ترى، جئتها أول مرة منذ 16 سنة، يومئذ وقفت محدقا في المراكب العتيقة الشراعية وبحارتها الهنود الفقراء عراة الاجسام، لم أتصور قط أن المراكب التي أقلع فيها السندباد سبع مرات لا تزال موجودة، تعمل تعبر المحيط الهندي، تصل الشواطئ العربية، بالشاطئ الهندي، ومنذ شهور رأيتها في دبي. تلقاك البصرة بتماثيل لشعراء وأدباء وعلماء للفراهيدي واضع علم العروض، لبدر شاكر السياب الذي يقف على الشاطئ واضعا قصيدة في جيبه مكتوبة فوق ورق مطوي، خلال سنوات الحرب، طارت شظية فنالت منه، جرحت جبينه، فاكتمل التمثال كما قال أحد أدباء البصرة. كان هذا التمثال مؤثرا، ولكن التماثيل التي قامت إلى جواره والتي رأيتها منذ أسبوعين لأول مرة تبعث في الفؤاد رعدة، وفي القلب شجى، وفي الذاكرة غصة. جئت البصرة مرات عدة خلال زمن الحرب، وفي كل مرة كنت أجوس في أزقتها، وأمشي بمحاذاة نهر العشار، وأتأمل واجهات بيوتها الخشبية، وأسعى إلى سوقها القديم لأدخن النرجيلة العتيقة في مقهى التجار، أتأمل أزياء أهلها القديمة، واستشعر دماثتهم، وفي الفراغ تحلق أرواح بلا حصر، بدءا من عتبة بن غزوان الذي اسسها في العام السادس عشر من الهجرة بأمر من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، سميت البصرة أي الحجر الأبيض. لون الأرض. وحتى روح أبو موسى الاشعري الذي بنى أول مساجدها.وسيدنا ومولانا على بن أبي طالب الذي وطأ هذه الأرض ومشى فوقها إلى أرواح أخوان الصفاء، والحريري صاحب المقامان، وسائر الأدباء العرب الذي مروا بها وذكروها أو اقاموا بها، والمتصوف الكبير الحسن البصري، ورابعة، أما الشخصية التي كنت أفكر فيها دائما كلما جئت هنا، علي بن محمد قائد ثورة الزنج، أو صاحب الزنج كما تسميه المصادر التاريخية، قاد ثورة العبيد الهائلة التي أقضت مضجع الخليفة العباسي، أسس دولة يحكمها العبيد استمرت 14 سنة. وعندما نزلت المدينة أول مرة كنت ملما بكافة التفاصيل الممكنة التي جاءت بها المراجع التاريخية، والدراسات الحديثة القليلة عنها ومنها دراسة لعميدنا طه حسين، وأخرى لباحث لبناني هو أحمد علبي، كان أحد أهدافي هو معاينة الطبيعة الخاصة للمكان فربما شرعت في كتابة رواية، هكذا زرت الأبلة.المدينة القديمة المندثرة، وغابات النخيل الكثيفة التي تتخللها قنوات المياه المتفرغة من نهر شط العرب، ولي بالنخيل علاقة وطيدة وخاصة، فمنه الرسوخ والبسوق والإحساس بالأبدية، يستدعي إلى خصوصية صعيدنا الحبيب، حيث أول أرض لامستها رأسي عندما وفدت إلى هذا العالم. ومن هنا كان تأثيري العميق عندما زرت المدينة عام 1986 وفوجئت بقص مئات الآلاف من أشجار النخيل للضرورة العسكرية، وقد رأيت بقاياها الزاوية ونحن في الطريق إلى مدينة الفاو، كم من السنوات يحتاج هذا النخيل ليسترد خضرته؟ لا أدري، ولكنني أعرف أن الاشجار تتشبث بالحياة تماما وأذكر شجرة ضخمة في الحديقة الخلفية لبيت السحيمي، أطلعني عليها الصديق محمد مجاهد، شاخت ومالت، غير أن خضرتها لم تجف، وظلت متصلة بأصولها الأولى عبر جذر نحيل لا يتجاوز قطره بضع مللمترات، وأمام بيتي العمارة التي أقطنها جزوا شجره عتيقة عند الشروع في بناء جديد، لم يتبق منها إلا جزء من الساق، وقد كانت باسقة، مورفة، ولكن بعد فترة يسيرة فوجئت باللون الأخضر ينبت من الجذع المقصوص ويتفرع، مقاوما للعدم للفناء، الشجرة كائن حي، يشعر، يولد ويموت، وفي زمن الحرب التي خاضتها بلادي كانت الاشجار في الجبهة تذوي، تتضاءل أمام مطر الشظايا، وكان الجنود يقولون لي (الشجر بيخض) أي يفزع، وأخبرنى من اثق به عن شيخ فاضل عاش منذ أعوام طويلة، كان ينزل إلى حديقة بيته، فيخاطب الاشجار، يتوقف أمام أحدها، ويتساءل: «مالك حزينة ليه؟»، أو إيه اللي جرى لك النهاردة؟، من يدري، ربما ثمة حوار لا يدريه إلا أهل الكشف، ربما كان للأشجار صريخ عند الاحتضار، لكننا لم نصغ إليه، غير أن قلبي انفطر على نخيل البصر، فدمعت وكأن حزنا على بشر من لحم ودم، انقضى قبل الأوان، قبل أن ينجب ويملأ الدنيا ذرية صالحة، فهل يعود اللون الاخضر إلى نخيل البصرة من جديد؟ من نافذة الحافلة التي تنقلنا من المطار إلى الفندق، لمحت التماثيل.. لا.. بل الشواهد. النصب الحية التي لم أرها من قبل، بل المعاني التي تجسدت في فضاء المدينة العبقة بالتاريخ والبطولة. على امتداد شاطئ نهر شط العرب، طول واجهة المدينة، على النهر مباشرة، بعد تمثال السياب،وعلى مسافات متساوية يقف مقاتلون عراقيون من رتب مختلفة، ومن أسلحة متعددة، كلهم يولون وجوههم شرقا، ذراع كل منهم اليمنى مفرودة في الهواء على إمتدادها، تشير الاصابع المتتالية إلى الشرق، إلى الضفة الأخرى من النهر، إلى الأرض التي مرت فوقها الدبابات والمجنزرات وانفجرت ملايين القذائف، وسعت الشظايا مختلفة الاحجام، استقر كل منها داخل أجسادهم فغادروا الحياة وبقي المعنى، تتعدد الأسلحة وعيارات القذائف، والصواريخ، تتعقد وسائل الاطلاق والتفجيرات، ولكن يظل الهدف جليا، واضحا، بسيطا في حدة وهو أن تنفذ قطعة من الحديد الساخن إلى عمر الإنسان فتجهز عليه تتوالى الشواهد التي صيغت تماثيلا. في منتصف التسعة وتسعين شهيدا يشهد تمثال ضخم، مغلف بضبابة حزن، ملامح البطل العربي، الشهيد الذي قضى بعد أن أدى واجبه كاملا، بعد أن وضعت الحرب أوزارها، الفريق أول عدنان خير الله، تمتد ذراعه اليمنى في إتجاه الشرق أيضا، غير أن وجهه يستدير ليواجه رجاله الذين رحلوا. في وقفته رسوخ الثقة، وهيبة القيادة، وإنسانية الحضور، عندما تطلعت من غرفتي في الفندق المطل على نهر شط العرب، كانت الإشارات الصامتة، الابدية تطالعني من بين غصون الأشجار، وقممها الفارهة، في الليل كانت القطع الحجرية. البرونزية المنحوتة تبرز بظلالها من بين العتمة، والأضواء الشاحبة حضور هذه التماثيل غير شخصية المدينة تماما. أمطار مطر رذاذي ثقيل والصباح باكر، خرجت من الفندق إلى الشاطئ المواجه يصحبني الصديق الدكتور يسري العزب، مشينا نتطلع إلى التماثيل.والغمام الرمادي الكثيف يثقل السماء الدانية، لكل وجه ملامح صاحبه الذي رحل، وفوق القاعدة لافتة صغيرة من نحاس حفر فوقها الاسم والرتبة وتاريخ الاستشهاد،ورقم الوحدة العسكرية. عقيد ركن برجس عدنان، مدرعات. استشهد شرق بحيرة الاسماء في 13 يوليو 87. رائد صلاح زكي حميد، مدرعات، استشهد في الطاهري 4 مايو 1982. رائد طيار فاضل عبد الرازق، استشهد في جزر مجنون 23 فبراير 84 تتوالى الاسماء والرتب، ومواقع وتاريخ الاستشهاد فتضفي حيوية، وهيبة على الحجر، حتى نصل إلى اثنين يحيطان تمثال الشهيد عدنان، الأول عميد ركن علي جاسم الحياني، قائد فرقة مشاه استشهد في 25 فبراير ,1986.والثاني عميد ركن طاهر عبد الرشيد قائد فرقة مدرعة استشهد في 73 يوليو 1988. أي قبل وقف إطلاق النار بفترة قصيرة، ثم نصل إلى تمثال الشهيد عدنان خير الله، الذي وصفه صديقي يوسف القعيد بحق أنه قمر شط العرب الغائب الحاضر. تزايدت قطرات المطر بينما رحت أتطلع إلى التمثال من زوايا مختلفة وصور بلا حصر تتوالى على الذهن، بدءا من أول لقاء به في مرتفعات الشمال عام 1985،وحتى استقباله لنا في بيته الريفي بضاحية الرشيدية القريبة من بغداد، وحديثه لي عندما صحبني ليطلعني على ما تحتويه المزرعة، من بحيرات صناعية للسمك، وزهور نادرة، وأمنيته أن يتفرغ هنا للزراعة وتمضية ما تبقى من العمر. كنت أستعيد نبرات صوته في مرات لقاءاتنا الهادئة، أو الصاخبة بتأثير القصف في مواقع قيادية متقدمة، كان فارسا بحق، لا يكل ولا يمل، وكما قال لي واحد من أقرب العاملين معه «رحمه الله.. تعب كثيرا وتعبنا معه».. في الفاو زرت مسجده بناء معماري جميل ونادر، المسجد كله عبارة عن قبة هائلة، يؤدي إليها ممر من أعمدة خرسانية متشابكة، قبة مهيبة تحتوي القبلة والذكرى والتاريخ، لم يمتد به العمر حتى يحقق أمنياته البسيطة الحالمة زمن الحرب، وبدلا من لقائه، والحوار حول الأدب والشعر والقتال واحتمالات المستقبل، والغناء العراقي القديم، ها أنذا أحاول أن أتلمس ذكرى أفلتت من النسيان بتأثير هذا التمثال المهيب الذي يشير إلى البصرة شرقا. عندما فارقنا البصرة ليلا كان آخر ما وقع عليه بصري التماثيل، ما أجمل الفكرة، عرفوا كيف يخلدون شهداءهم، سقط هؤلاء الشهداء زمن الحرب الدامية التي استغرقت ثماني سنوات، وبعد توقف إطلاق النار أقيمت تلك التماثيل، الاسبوع الماضي وحتى كتابة هذه السطور رأيت أكثر من لقطة رأيت فيها تلك التماثيل المصطفة تشير إلى الشرق، لعلها أصعب الأيام التي مرت بها البصرة منذ تأسيسها يحاصرها البريطانيون حتى الآن ولا يجرأون على دخولها أو اقتحامها، أستعيد مشاهد عديدة بقيت في الذاكرة، شناشيلها، قنواتها نخيلها، مقهى التجار، أزياء أهلها قنواتها، بيوتها، مرة أخرى أتساءل عن محمد خضير القاص الجميل، وأتمنى يوما في المستقبل أصل إلى فضائها وأرى نصبا لشهدائها الذين يتساقطون الآن في اكثر المعارك التي دارت فوق ثراها ضراوة وأشرفها أيضا. ـ كاتب مصري

Email