حتى لا تذهب كل الحقائق ضحية الحرب!، بقلم: محمد مشموشي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثلاثاء 29 محرم 1424 هـ الموافق 1 ابريل 2003 لأن الحقيقة هي اولى ضحايا الحرب، كما يقال بحق، لا بد من التوقف قليلا ومنذ الآن امام عدد من الحقائق التي لا لبس فيها، والتي ضاعت او هي على وشك الضياع، بعد الغارات الاولى التي اعلنت بدء الحرب، الاميركية ـ البريطانية، على العراق. في مقدمة هذه الحقائق ان غزو العراق لا يتم فقط خارج اطار الامم المتحدة والشرعية الدولية، لأنه اولا لا شرعية دولية لأية حرب مهما كانت دواعيها وايا كانت مبرراتها، وثانيا لأنه ليس في سلطة مجلس الامن حتى بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة ان يشرع اجتياحا كاملا لبلد ما بل مجرد استخدام القوة، كما يقول الميثاق، لتنفيذ قرارات ثبت ان هذا البلد رفض تنفيذها. الغزو الحالي هو على النقيض تماما من الشرعية الدولية، بل ربما يكون مما يجوز لهذه الشرعية ان تطالب بتطبيق الفصل السابع عليه لأنه خرج على قراراتها، وبالذات منها قرار مجلس الامن الذي يحمل الرقم 1441 بتكليف لجان تفتيش دولية مهمة نزع ما يقال انه اسلحة دمار شامل قد يكون العراق يملكها. اكثر من ذلك فبيان الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش باعلان الحرب، والآخر الذي سبقه باعطائه الرئيس العراقي صدام حسين مهلة ثمان واربعين ساعة لمغادرة بلاده او التنحي عن السلطة، خليا من اية اشارة الى اسلحة الدمار الشامل هذه وركزا فقط على تغيير نظام الحكم في بغداد وعلى ان الهدف هو «تحرير العراق من الزمرة الحاكمة فيه» مع وعد الشعب العراقي بـ «اقامة نظام حكم ديمقراطي» يكون بديلا عن هذا النظام. المرة الوحيدة التي ورد فيها ذكر هذه الاسلحة كانت عندما تحدث بوش عما وصفه ب «اسلحة دمار شامل تهدد الولايات المتحدة» في الوقت الذي تؤكد فيه اجهزة الأمن كلها في الولايات المتحدة ان لا خطر من هذا القبيل. أهداف بعيدة الحقيقة الثانية هي ان هذه الحرب غلفت برداء من عدم الصدق الخالص منذ اليوم الاول لبدء الحديث عن نزع اسلحة العراق بالقوة الاميركية المسلحة عقب احداث الحادي عشر من سبتمبر العام 2001. كانت هناك، حول الاسباب اولا، مقولة العلاقة بين النظام العراقي وتنظيم «القاعدة» بزعامة اسامة بن لادن، ولم تتمكن اي من اجهزة الولايات المتحدة ـ مخابرات محلية وخارجية، اجهزة امن قومي، وسفارات وتوابعها ـ من اثبات وجود مثل هذه العلاقة. ثم جاءت نظرية عدم الحاجة الى قرار بشن الحرب لا من الكونغرس الاميركي ولا من مجلس الامن الدولي وقد تراجعت عنها ادارة بوش لاحقا تحت ضغوط محلية ودولية. ثم بعدها مجموعة الوثائق المزورة التي قدمتها الادارة الى لجان التفتيش حول قيام العراق باستيراد يورانيوم من النيجر وانابيب الومينيوم لصناعة الصواريخ من بلدان اخرى، وصولا الى ابلاغ لجان التفتيش عن اماكن تواجد اسلحة دمار شامل عراقية لم يعثر فيها المفتشون على شيء، وادعاء ان الشعب العراقي سيستقبل «المحررين» بالورود والرياحين الذي لم يحدث بدوره كما لم يحدث النزوح بالملايين الذي تم تحضير المخيمات له على الحدود.. والتي ما زالت فارغة للآن. مع ذلك، وبرغم تقارير المفتشين العديدة التي تحدثت عن تعاون عراقي (وان لم يكن كاملا) وعن تحقيق تقدم في مجال التفتيش يحتاج الى متابعة، اصرت الادارة الاميركية على موقفها من شن الحرب، ثم انها ردت على فشلها في استصدار قرار دولي يجيز لها استخدام القوة بالمبادرة الى الحرب منفردة تحت ستار مزاعم هي وجود «تحالف دولي» يقف الى جانبها، مع ان هذا التحالف لم يكن مكونا في حقيقته الا من القوات الاميركية تساندها قوات من بريطانيا ووحدات رمزية من دولتين فقط هما استراليا وبولندا. اما حول الاهداف، فكان رداء عدم الصدق اكثر افتضاحا من الستارة التي حاولت تغطية الاسباب. اذ بعيدا عن الرغبة بالسيطرة على نفط العراق، التي لا يتحدث عنها الاميركيون الا لماما، تبدو مؤكدة ـ وبكلام اميركي معلن ـ اهداف الولايات المتحدة باخضاع المنطقة الممتدة من موريتانيا على المحيط الاطلسي الى اندونيسيا في عمق آسيا باعتبارها منبعا لـ «الارهاب» من وجهة نظر المدافعين عن «صراع الحضارات» ومصدرا للطاقة بمختلف موادها من نفط وغاز لزوم بناء «الامبراطورية الكونية» من وجهة نظر المدافعين عن «النظام الدولي الجديد» الذي لا قوة دولية كبرى فيه سوى الدولة العظمى الوحيدة في العالم. لا يقول الاميركيون الا ان هدفهم من الحرب هو «تحرير العراق» حتى انهم سموا عملية الغزو نفسها به فاطلقوا عليها اسم «عملية تحرير العراق»، مع ان رئيسهم تحدث علنا عن ان المنافع «لا تعد ولا تحصى» (لعل في مقدمتها ما أثاره رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مع بوش في كامب ديفيد حول تلزيم شركات اميركية فقط ومنذ الآن اعادة بناء البصرة) وصولا الى «دمقرطة العالم العربي» وليس العراق وحده، وان وزير خارجيتهم كولن باول قال ان الغاية هي «اعادة تشكيل» الخريطة الجغرافية ـ السياسية للمنطقة كلها وليس للعالم العربي فقط. بل ان وثيقة نشرها مركز الدراسات الاميركي «pnac» ووقعها رجال هم اليوم ابرز المسئولين القياديين من حول بوش قبل ثلاثة اشهر من تسلم بوش السلطة تتحدث صراحة عن الاهداف البعيدة لهذا الغزو، وكل غزو آخر سياسي او عسكري قد تقوم به واشنطن في المستقبل. تقول الوثيقة، التي وقعها يومها كل من ديك تشيني (نائب الرئيس الآن) ودونالد رامسفيلد (وزير الدفاع) وبول فولفوفيتز وريتشارد بيرل قبل ان يستقيل (مسئولان كبيران في وزارة الدفاع)، انه «يجب على الولايات المتحدة ألا تترك اية دولة صناعية تلعب دورا فعليا على الساحة الدولية». مخطط قديم الحقيقة الثالثة هي ان الخطة السياسية للادارة الاميركية الحالية لا تختلف البتة عن المخطط الصهيوني القديم والاسرائيلي الراهن بتقسيم المنطقة مجددا، اي تقسيم المقسم كما يقول بعض المنظرين الصهاينة، بعد ان عجزت القسمة الاولى عن جر العالم العربي الى القبول بالحلم الصهيوني «اسرائيل الكبرى.. من النيل الى الفرات» سواء بالمعنى الجغرافي للكلمة او بمعناها السياسي فقط. في موقف بوش من حرب الابادة الاجرامية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ اكثر من عامين دليل على ذلك، وفي وصفه رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون بانه «رجل سلام» دليل ثان، وفي اعلانه قبل اسبوعين من بداية هذه الحرب «ان عراق ما بعد صدام سيكون حافزا للفلسطينيين يعلمهم كيف يختارون قيادة بديلة تكون على شاكلة القيادة العراقية المقبلة» دليل ثالث. الا ان اختيار الجنرال الاميركي المتقاعد جاي غارنر حاكما مدنيا لعراق ما بعد صدام يقدم الدليل الكافي الذي قد لا يحتاج الى غيره. فالجنرال غارنر، كما قالت صحيفة «الاندبندنت» البريطانية يوم 26 مارس الجاري ليس سوى صهيوني يحمل جواز سفر اميركيا. فقد قام غارنر في العام 1998 بزيارة لاسرائيل دفعت تكاليفها منظمة يمينية متطرفة تدعم تواجدا عسكريا اميركيا مباشرا في الشرق الاوسط، وبعدها بعامين ـ تقول الصحيفة ـ قام مع 42 من كبار الضباط الاميركيين المتقاعدين باصدار بيان قالوا فيه «ان ما يصيبنا بالرعب هو ان القيادة السياسية والعسكرية الفلسطينية تعلم الاطفال فنون الحرب بينما تملأ رؤوسهم في الوقت نفسه بالحقد». ويضيف: «ان امن دولة اسرائيل هو قضية بالغة الاهمية بالنسبة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط وشرقي البحر المتوسط وكذلك بالنسبة لسياساتها في العالم. ان اسرائيل قوية هي رصيد يستطيع المخططون العسكريون والقادة السياسيون الاميركيون ان يعتمدوا عليه». كان المعهد اليهودي للشئون الامنية الوطنية وراء اصدار البيان الذي اخذ على الفلسطينيين انهم سبب موجة العنف في الاراضي المحتلة. اما مجلس المستشارين لهذا المعهد فيضم كلا من ريتشار بيرل احد مهندسي غزو العراق (استقال اخيرا بعد ان كشف النقاب عن انه يعمل الى جانب وزارة الدفاع في شركة تستفيد مباشرة من هذه الحرب ومن اية حروب اخرى في العالم) ونائب الرئيس ديك تشيني. .. في حمى المتابعة اليومية لتطورات العمليات العسكرية، الهجمات والهجمات المضادة، القتل الدامي بأحدث الاسلحة والمقاومة الشرسة بأي سلاح بدائي متوفر، اعمال الحصار واعمال كسر الحصار هنا وهناك، لا ينبغي اقله عربيا (بل ولا يجوز اطلاقا) ان تذهب هذه الحقائق ضحية الحرب. ـ كاتب لبناني

Email