الاثنين 17 ذو القعدة 1423 هـ الموافق 20 يناير 2003 سليم سركيس مثقف بيروتي، ولد في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (عام 1867) وتربى في كنف عائلة لبنانية شغوفة بالأدب وتهوى الكتابة والصحافة وكان عمه خليل سركيس من أعلام الصحافة العربية في زمانه وتعلم سليم في المدرسة الوطنية التي كان قد أنشأها المعلم بطرس البستاني وعندما شب عن الطوق التحق بالعمل الصحفي في جريدة «لسان الحال» التي كان يصدرها عمه خليل. كان المستقبل مفتوحا واعدا أمام الفتى سليم سركيس.. لولا الرقابة المفروضة على الصحف وسائر وسائل التعبير.. كان ذلك هو عصر السلطان عبدالحميد.. العاهل العثماني الذي جلس على عرش بني عثمان في اسطنبول عندما كان سليم ابن عشر سنين.. وحين شرع الصحفي الشاب قلمه للكتابة في الجرائد.. راعه نظام الرقابة الذي فرضه رجال السلطان العثماني على رعايا الدولة.. وكان نظاما أقرب الى كسر الأقلام وكتم الأنفاس. جواسيس الدولة.. كانوا منتشرين في كل مكان.. يكادون يحصون على الرعايا أنفاسهم.. وحاشية السلطان عبدالحميد لا تطيق النقد ولا تتهاون مع اي مظهر لحرية التعبير.. كان الشعار المرفوع هو حماية عرش السلطان.. وهو صيانة سمعة ولي النعم.. ولكن كانت دعائم الدولة تتهاوى، وفي كل يوم يقتطع من أجزائها التي كانت مترامية إقليم.. وينفصل عن رقعتها بلد أو شعب كان من توابعها يوم كانت دولة بني عثمان امبراطورية مهابة وطيدة الأركان.. وكلما تهاوى صرح من البنيان كانت الرقابة تزداد وبارانويا التآمر تستبد بأهل القصور التركية الباذخة الرابضة على ضفاف البوسفور.. تستوي في ذلك مساكن الحريم أو رجال المابين من أركان الحاشية الخصوصية أو مجلس المبعوثان الذي كان يجمع نواب السلطنة عند مقر الباب العالي. كانت فوبيا الخوف على مصير الدولة العلية ـ كما كانوا يسمونها ـ تتجلى في متابعة كل ما يكتب وكل ما ينشر.. خوفا من تهييج الخواطر الهادئة وتحريك الأوضاع الساكنة أو التي كانوا يتصورونها ساكنة وكانت متابعة المطبوعات موكلة في ذلك الزمان الى قلم المكتوبجي التركي والمكتوبجي لفظة تركية تشير الى المهنة المعنية بما هو مكتوب ومنشور مذاع بين الناس.. وكان المكتوبجي التركي القابع مركزيا في اسطنبول يمثل مؤسسة أو منظومة لها فروعها الرقابية طبعا في شتى أنحاء الدولة العثمانية.. في كل فرع رقيب على المطبوعات.. مكتوبجي محلي كانوا يختارونه ممن «يتوهمون» أنه أصلح من يقرأ ويفهم وينقد ويفرز ومن ثم.. يستخدم قلم الرقيب وسلطة الرقابة كي يحذف الممنوعات ويشطب المحظورات ويحفظ بالتالي أمن السلطة وهيبة السلطان. استخدمنا تعبير «يتوهمون» لأن فساد العهد الحميدي إياه كان يفضي بأسوأ اختيار لهذا الرقيب المكتوبجي.. ربما كانوا يكتفون بالولاء دون الكفاءة.. الاخلاص دون الخبرة. هكذا كان الرقباء في معظمهم قوما لا يتميزون سوى بالغباء الى حد الغفلة وبالجهل الى درجة الحماقة. سليم سركيس.. صاحبنا الصحفي الشاب ضاق ذرعا بسخافة وحماقة السيد المكتوبجي في بيروت ـ لبنان، لهذا اضطر سليم الى الهجرة المؤقتة في باريس ولندن ومنها الى القاهرة حيث أصدر جريدة «المشير» ومن ثم الى أمريكا حيث أصدر جريدة «البستان». وعندما عاد سليم سركيس الى مصر في عام 1955 ظل ينشر مجلة «سركيس» ويشارك بالكتابة في الأهرام اضافة الى عدد من الكتب التي أصدرها وكان من أهمها كتابه الذي أخذ فيه بثأره من رقباء السلطان عبدالحميد حيث سرد على قارئه شذرات من طرائف الحماقات «الصحفية ـ الرقابية» التي كانوا يرتكبونها واتخذ سركيس لكتابه عنواناً طريفاً هو: غرائب المكتوبجي. وقد أحسنت جريدة القاهرة الاسبوعية، عندما أصدرت الكتاب بوصفه ملحقا لإحدى أعدادها. والى طرائف الغرائب: ـ نشرت الجرائد نصوص الأغاني ـ الأدوار التي كان ينشدها المطرب المصري الكبير عبده الحمولي في حضرة السلطان عبدالحميد ومنها دور يقول: غاب عن عيني مرادي وانهمل دمعي حبيب وسارع رجال المابين ـ الحاشية الى حذف كلمة «مرادي» واستعاضوا عنها بكلمة «حبيبي» فقد كان ممنوعا التلفظ باسم السلطان «مراد» الذي كان عبدالحميد قد خلعه ليتولى الأريكة من دونه. فما بالك عندما أنتوى الحمولي أن ينشد: خلعت عذاري في هواك ومن يكن خليع عذار في الهوى سّره نجوى طبعا سارعوا الى حذف أي كلام عن الخلع والخليع فهم يتشاءمون من حكاية الخلع صيانة لعرش الخليفة العثماني.. وأجبروا المطرب على أن يغنيها «تركت عذاري» (ومن عجب أن السيد المكتوبجي لم يستطع بهذا أن يحمي سلطانه العثماني الذي خلعه أعضاء حزب «تركيا الفتاة» بالفعل عام 1909 للميلاد). حذف المكتوبجي الأحمق عبارة قالت فيها الجريدة أن المصريين يتطلعون الى «نيل المراد».. وكان وجه الاعتراض هو الخوف من أن يفهم القارئ أن «نيل» تشير الى النهر الخالد في مصر(!) وأن نسبة نهر النيل يمكن أن تلحق بالسطان مراد ولم يكن الرقيب فاهما لا لكلمة النيل بمعنى تحقيق الغاية ولا طبعا لفظة مراد بمعنى الهدف.. و.. كانت فضيحة. أرسلوا مسودة جريدة «المصباح» الى الرقيب المكتوبجي المقدم في بيروت.. قرأ الرقيب اعلانا عن بيع دار شديدة التواضع مِلْك محمد علي الطرابلسي لقاء حفنة تعيسة من الدراهم. وبلغ الجهل بالمكتوبجي التركي الأصل أن اعترض على لفظة مِلْك وقرأها على أنها مَلِك جالس على عرش.. والأغرب أن الرقيب العثمانلي حذف كلمة ملك على أساس أن لا ملك إلا الذات الشاهانية (مولانا السلطان عبدالحميد) ثم هرش المكتوبجي رأسه كثيرا وبدلا من لفظة ملك كتب الامبراطور.. وصدرت الجريدة باعلان يفيد الناس يقول أن دار الامبراطور محمد علي الطرابلسي معروضة للبيع والمخابرة مع المذكور أعلاه.. الخ. يقول سليم سركيس في كتابه الطريف: وأسرع مدير مجلة المصباح الى والي بيروت وأطلعه على مسودة الاعلان فضحك الوالي كثيرا قدر ما بكى المحرر على بنات أفكاره الذاهبة ضحية جهل المكتوبجي، وعّنفه على جهله. المشكلة نفسها حدثت لأحد وجهاء بيروت واسمه «أحمد أفندي سلطاني» وقد نشروا عنه خبرا يفيد بأنه غادر الى الأستانة لزيارة أخيه «محمد أفندي سلطاني» ولما كان أي شئ سلطاني لابد وأن يتعلق بالسلطان العثماني وحده فقط لا غير فقد رأى الرقيب ـ المكتوبجي «اللهلوبة» كما يقول المصريون أن يحل المشكلة ويحفظ مهابة الشاهنشاه فكان أن حذف حرفي النون والياء من لقب العائلة البيروتية المسكينة وهكذا نشرت الصحف أن «أحمد أفندي سلطا» غادر لزيارة شقيقه العزيز ـ ساكن الأستانة «محمد أفندي سلطا» ـ وكفى الله المؤمنين!! عندما اغتيل المسيو كارنو رئيس جمهورية فرنسا.. رفض الرقيب نشر الخبر على أنه اغتيال وهكذا قرأ أهل سورية الكبرى أن السيد كارنو انتقل الى رحمة مولاه.. وعندما نادى باعة الصحف يومها لزوم ترويج المبيعات هاتفين في الأسواق إقرأ عن وفاة رئيس جمهورية فرنسا أمر المكتوبجي بأن يساقوا الى سجن الولاية لأن لفظة الجمهورية، ممنوع تداولها دع عنك المناداة العلنية بها في أسواق امبراطورية بني عثمان.. وهو التصرف نفسه الذي قرأ فيه المكتوبجي اعلانا موجها الى الجمهور الكريم.. فكان أن غيره ليصبح اعلانا الى حضرة العموم لأن كلمة جمهور فيها تورية تومئ الى الجمهورية ولو بمنطق الغمز واللمز والكناية.. قالوا في الأمثال «في الحركة.. بركة» هكذا بدأ مقال صحفي عرضوه قبل النشر على الرقيب.. فكان أن حذف المثل الدارج لأن الحركة في رأيه تعني الثورة وهو طبعا من أهل الاستقرار والأمن والأمان. ذات يوم أصدر المكتوبجي أمره الى كل جرائد بيروت يقول: لا يعطى لقب صاحب الجلالة أو العظمة إلا للسلطان العثماني وحده ليس إلا.. أما باقي الأباطرة والملوك في العالم فيعطى لهم لقب.. «حشمتلو». وهكذا أصبح هناك حشمتلو ملك السويد وحشمتلو شاه العجم.. ولما ورد خبر عن الملكة الانجليزية فكتوريا.. كتب المحرر المغلوب على أمره أن «حشمتلها» فكتوريا فعلت كذا وكذا.. وكان ذلك يعني على سبيل التأنيث.. ويومها ثار المكتوبجي على هذا العبث وربما أسقط في يده واصطنع صيغة أكثر خيابة.. حيث ذكر الخبر أن حضرة فكتوريا فعلت كذا وكذا. ولأن المكتوبجي جاهل مركب كما قال توفيق الحكيم يوما فهو يكره بطبعه لفظة تعليم ومدرسة.. وقد حدث يوما أن نشر سليم سركيس مقالة عن مدينة «مدراس» بالهند ولكن المكتوبجي الرقيب الهمام قرأها على أنها «مدرسة» ولما كان بطبعه يكره المدارس وسيرتها.. فقد عمد الى تغييرها لتصبح «مكتب» وهكذا صدرت الصحيفة البيروتية تحكي لقرائها عن السياحة في مدينة.. «مكتب» الهندية المشهورة! ولله في خلقه شئون.