الجزائر والفرانكفونية ـ بقلم: د. محمد قيراط

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثلاثاء 23 شعبان 1423 هـ الموافق 29 أكتوبر 2002 قصة الجزائر مع الفرانكفونية قصة طويلة بدأت عندما وطئت اقدام الاستعمار الفرنسي «سيدي فرج» في سنة 1830. وضع اللغة الفرنسية في الجزائر يختلف عن اي وضع في العالم، كما ان الجزائر تعتبر البلد الثاني استعمالاً للغة الفرنسية بعد فرنسا. وضع اللغة الفرنسية في الجزائر يرتبط بالايديولوجية الاستعمارية الفرنسية وبنية وارادة فرنسا في جعل الجزائر مقاطعة فرنسية مثلها مثل المقاطعات الموجودة داخل التراب الفرنسي. وانطلاقا من الهدف الاستعماري الاستيطاني الفرنسي ركزت السياسة الفرنسية الاستعمارية في الجزائر على طمس كل ما هو عربي واسلامي ومحو الهوية الجزائرية واستئصالها نهائيا. وبذلك حرم الكثير من الجزائريين ابان الاستعمار الفرنسي للجزائر من التعليم، والقلة القليلة التي كانت محظوظة ارغمت على التعلم باللغة الفرنسية حيث ان الاستعمار كان يعرف خطورة اللغة العربية وتعاليم الدين الاسلامي عليه. وبفضل المساجد وعلماء الدين والحركة الوطنية الجزائرية وعلى رأسها جمعية المسلمين الجزائريين استطاعت الجزائر ان تتمسك بهويتها واصالتها وقيمها العربية والاسلامية، اما الاستعمار الفرنسي فقد استطاع ان يحنط الثقافة الجزائرية وان يخلق له اذناباً واتباعاً مازالوا حتى يومنا هذا يدافعون عن فرنسا ومصالحها في الجزائر. وبعد اربعين سنة من الاستقلال مازالت الجزائر تعاني من مشكلة الفرنسية وازدواجية اللغة والخطاب على مختلف الاصعدة فالجزائر تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم التي توجد بها عناوين جرائد باللغة الاجنبية اكثر من عدد الجرائد باللغة الوطنية. وغريب امر الجزائر حيث ان لغة التعليم من الابتدائي وحتى الثانوية ومعظم التعليم العالي هي اللغة العربية، لكن نجد ان لغة وسائل الاعلام الفاعلة ولغة النخبة السياسية ولغة النخبة المثقفة هي اللغة الفرنسية، واخطر من ذلك ان اللغة في الجزائر تم تسييسها واصبحت خاضعة لمساومات سياسوية ولمزايدات مختلفة لتحقق اغراض وأهداف معينة. وبعد اربعة عقود من استقلالها مازالت الجزائر تعاني من صراع خفي لكنه حاد بين الفرانكفونيين والمعربين، وبدلا من استغلال ازدواجية لغوية يتعذر وجودها في الكثير من الدول النامية نجد الجزائر تعاني من مشاكل كثيرة من جراء هذه الازدواجية. دعاة ومعارضون مشاركة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في القمة الفرانكفونية التاسعة في بيروت اثارت الكثير من التعليقات والنقاشات التي وصلت الى حد الاستياء والاستنكار في بعض الاوساط الفكرية والادبية والسياسية الجزائرية. حضور بوتفليقة القمة ادخل الجزائر بصفة رسمية الفضاء الفرانكفوني، وفي عهد الرئيس بوتفليقة اصبحت اللغة الفرنسية في الجزائر تسري في الشارع وتسيطر على الخطاب السياسي والاعلامي وحتى المعرب، واصبح الجميع يتفنن في النطق والكلام بلغة فولتير وعلى رأسهم الرئيس بوتفليقة، فباعتلاء سدة الحكم فتح الرئيس بوتفليقة الباب على مصراعيه لتسلل التيار الفرانكفوني الى مقاليد الحكم والسلطة، وعادت المراكز الثقافية الفرنسية لتفتح ابوابها وفتحت المدرسة الفرنسية بالجزائر وعاد الكلام عن جامعة فرنسية بالجزائر، ناهيك عن العلاقة الحميمة بين معظم الصحف الناطقة بالفرنسية وفرنسا. فالجدل حاد وقائم في الجزائر بين الفرانكفونيين والمعربين او دعاة الهوية العربية الاسلامية فالاطراف الداعية لانضمام الجزائر لمنظمة الفرانكفونية ترى ان الامر منطقي وبديهي ويجب ان ينظر له من منظار براغماتي نفعي ومن منظار العولمة والعصر الذي نعيش فيه، فالداعون للانضمام يرون ان الجزائر اولى بمنظمة الفرانكفونية من ألبانيا ورومانيا ودول اخرى لا علاقة لها باللغة الفرنسية. وحسب رأيهم فان الجزائر تتوفر على كل شروط الانضمام وانها ستكون المستفيدة من المنظمة الفرانكفونية وستحصل على مزايا ومساعدات مالية وعينية وعلى مطبوعات بأسعار زهيدة وكذلك الاستفادة من برامج محو الامية التي تموّلها المنظمة. اما الطرف المعادي للانضمام فلا يرى خيراً في الفرنسية وفي منظمة الفرانكفونية لانها منظمة تعمل للدفاع عن مصالح فرنسا ونشر الايديولوجية الفرنسية، خاصة وان فرنسا واتباعها قد اعلنوا عن تحول الفضاء الفرانكفوني الى فضاء سياسي. وللتذكير ايضا فان الجزائر لم تجن من الفرانكفونية سوى تحويل 400 مليون فرنك من ديونها الى استثمارات وجائزة محمد ديب سنة 1994. أزمة باقية السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تستطيع منظمة الفرانكفونية ان تخلق كيانا سياسيا وتكتلا ايديولوجيا بزعامة فرنسا لمواجهة العولمة والنظام الدولي الجديد والهيمنة الاميركية. وهل بإمكان المنظمة ان تجد لها قوة وفعالية في الفضاء اللامتجانس الذي يكوّنها ويشكلها؟ وما هي القواسم المشتركة بين البانيا، ورومانيا وبلغاريا وملدافيا والفيتنام والمغرب على سبيل المثال. منظمة الفرانكفونية جاءت لتحقق برامج عديدة من خلال وكالاتها ومؤسساتها المختلفة والمنتشرة عبر مستعمراتها واعضائها، وتتمثل مجالات العمل فيما يلي: التربية، الثقافة والاقتصاد. ففي مجال التربية تهدف المنظمة الى اقامة مدارس مزدوجة اللغة وإنشاء فروع فرانكفونية لادراج الفرنسية في التعليم العالي ومراكز الدراسات والبحوث من اجل تكوين النخب الثقافية والسياسية وقادة الرأي وصناع القرار. اما بالنسبة لمشروع «الفرنسية في الشارع» فالهدف من ورائه هو تعميم اللغة الفرنسية في وسائل الاعلام المكتوبة والسمعية البصرية وكذلك الفضاء الاعلامي، والوسائط التي تشكل الرأي العام، والهدف من وراء هذا كله هو جعل اللغة الفرنسية لغة الثقافة والاتصال، اما المجال الاقتصادي فحسب المنظرين والمخططين للمنظمة فإنه يمثل حجر الزاوية، والعمود الفقري للمنظمة معتبرين ان لا منظمة ولا فرنكوفونية من دون اقتصاد قوي. هذه هي اذا رهانات الفرانكفونية الحية والفعالة. من سيكون المستفيد؟ وهل سيتم كسب تلك الرهانات في ظل النظام الدولي الجديد والسيطرة الاميركية على العالم؟! والسؤال الذي يبقى مطروحاً هو ماذا ستجني الجزائر من انضمامها الى منظمة الفرانكفونية؟ يبدو ان الرئيس بوتفليقة لم يتعلم الدرس حيث انه راهن على استثمارات واموال رجال الاعمال الفرنسيين عندما زار فرنسا قبل سنتين، لكن مع الاسف الشديد عاد من زيارته صفر اليدين. والشيء الذي يخشاه الجزائريون وغيرهم هو الفرانكفونية كنظام سياسي منحرف يعبر عن ارادة الهيمنة لدى بعض الاوساط الكولونيالية السابقة. في الجزائر يخاف المثقف على عربيته واصالته وثقافته من المد «الفرانكوفولي» الخطير، اما السياسي فيحاول ان يلعب ورقة الفرانكفونية لصالح القضايا العربية ولصالح وقوف فرنسا امام المد الاميركي الانجلوساكسوني. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل فرنسا قادرة على القيام بهذه المهمة؟ فالواقع السياسي الدولي يقول ان فرنسا نفسها تابعة، ولذلك من الافضل للمستضعفين التقرب من الاقوى بدلا من التابع للقوي. فبعد اربعة عقود من استقلالها مازالت الجزائر تعاني من ترسبات الاستعمار الفرنسي ومن اللغة الفرنسية واتباعها الفرنكوفوليين الذين نسوا لغة الضاد وامجاد الحضارة العربية الاسلامية وارتموا في احضان الاخر. وتبقى ازمة الهوية مطروحة في الجزائر ويبقى الصراع قائماً. ـ كلية الاتصال ـ جامعة الشارقة

Email