المعارضة أوروبية .. والفضيحة عربية ! ـ بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 21 شعبان 1423 هـ الموافق 27 أكتوبر 2002 مع تقدم أميركا بمشروع القرار الجديد الخاص بالعراق الى مجلس الأمن، وفي مواجهة المعارضة الشديدة التي أبدتها فرنسا وروسيا، كانت الادارة الأميركية تكشر عن أنيابها وتعلن أنها تريد الانتهاء من الأمر بسرعة، وانه لا هامش للمناورة أمام الآخرين، وكان الرئيس الأميركي يصعد من تهديداته لمجلس الأمن معلنا ان عليه ان يوافق على الاقتراح الأميركي والا فستذهب أميركا الى الحرب بمفردها أو بالتحالف الذي يؤيدها في حربها غير المبررة ضد العراق. وأكتب هذا المقال والمشاورات مازالت تدور داخل الكواليس، سواء في مجلس الأمن أو خارجه، ولا أحد يعرف هل ستنجح واشنطن في استصدار القرار الذي تريده غطاء لحربها العدوانية ضد العراق أم تفشل في ذلك، وهل ستصمد فرنسا وروسيا أمام الضغوط الأميركية الهائلة أم ستواصلان المعارضة التي فاجأت الكثيرين ـ حتى الآن ـ ممن كانوا يظنون ان موقف باريس، وموسكو ليس الا موقفا تكتيكيا يريد ان يضمن تأمين مصالحه في العراق وفي المنطقة بعد احتلال أميركا لأراضيه، ويريد ان يكون ثمن موافقته على ضرب العراق متناسبا مع المكاسب الهائلة التي ستجنيها أميركا. صمدت روسيا وفرنسا، وأعلنت موسكو ان المشروع الأميركي مخيب للآمال، ولم يستبعد الرئيس الفرنسي استخدام (الفيتو) من جانب بلاده لاجهاض المشروع، الذي وصفه المراقبون بأنه اعلان حرب مؤجلة لبعض الوقت ـ واتهم شيراك (صقور الادارة الأميركية المتحلقين حول بوش) والذين يستعجلون الحرب لأهداف مشبوهة. المعارضة الفرنسية الروسية لا تأتي من فراغ، وانما من حرص على مصالح الدولتين، ومن رغبة في كبح جماح الثور الأميركي الهائج الذي يريد ان يبني امبراطوريته ويوطد سيطرته الكاملة على العالم، ويعلن بوضوح انه لن يسمح بظهور أي منافس لزعامته وسوف يستخدم القوة لاجهاض هذا الاحتمال مهما كانت العواقب. والمعارضة الفرنسية والروسية تساندها معارضة شعبية ورسمية في أوروبا التي تعلم أنها سوف تدفع ثمن هذا (التوحش) الأميركي غاليا، ومن دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية التي تعلم أنها ستكون ضحية هذا التوجه مهما بعدت الحرب الفعلية عن أراضيها. العالم كله ـ ومن منطلقات مختلفة ـ يعارض هذا الجنون الأميركي.. ولكن كيف تبدو الصورة على الجانب العربي، والكل يعرف ان تدمير العراق واحتلالها ليس الا الخطوة الأولى في الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة، والتي جسدتها (خطة القرن الأميركي) التي تم اعدادها قبيل انتخاب بوش الابن لرئاسة أميركا، تحت اشراف من اصبحوا أركان ادارته ومفكريها بعد ذلك، هذه الخطة التي أكدت في سبتمبر 2000. وقبل عام كامل من الهجوم الارهابي على العاصمة الأميركية ـ ان الوجود الدائم الأميركي في الأمن الاقليمي لدول الخليج هو هدف أميركي منذ عقود عديدة، وأن الصراع مع العراق يقدم المبرر المباشر للتدخل، وان الحاجة لوجود عسكري أميركي في الخليج أمر جوهري يفوق مسألة نظام صدام حسين. هذه الخطة التي تضاعفت أهميتها بعد أحداث سبتمبر، ترافقت مع التهديدات الأميركية للنظم العربية، والحديث عن خريطة جديدة للمنطقة لا تراعي الا المصالح الأميركية وحدها، وليست العراق الا بداية الطريق لهذه الخريطة. وأوروبا وغيرها تدرك ذلك، وتفهم معنى الهيمنة الكاملة الأميركية على المنطقة، والثمن الذي ستدفعه هذه الدول ـ استراتيجيا واقتصاديا وسياسيا ـ اذا سيطرت واشنطن على بترول المنطقة وفرضت على العالم شروطها. أوروبا وغيرها تدرك ذلك، ولهذا ـ ولأسباب أخرى ـ تعارض التوجه المجنون لواشنطن والاصرار على ضرب العراق والعرب أيضا يدركون ذلك.. ولكنهم يقفون مسلوبي الارادة وكأنهم قد صدقوا ما أعلنه مسئول عربي قبل ذلك بأننا أمة لا حول لها ولا قوة! صحيح ان كل الأنظمة العربية قد أعلنت معارضتها للضربة الأميركية المتوقعة على العراق.. ولكن ماذا بعد؟! تعالوا فقط نتابع بعض الأخبار العربية التي ترافقت مع تقديم الادارة الأميركية مشروعها لمجلس الأمن لكي تحصل على ترخيص دولي لضرب العراق، لنعرف الى أي حد وصل الهوان بالأمة التي امتلكت كل عناصر النهضة والتقدم، وامتلكت معها القدرة على تبديد كل ذلك. من قطر.. نقلت وكالة الانباء الفرنسية تصريحات للكولونيل تيم سكوت قائد القوات الأميركية في قاعدة (العديد) يقول فيها: (ان في حالة توجيه ضربة الى العراق، فستكون القاعدة في حاجة الى شهرين على الأقل لتكون على أهبة الاستعداد للمشاركة في مثل هذه الحرب)! وأضاف الكولونيل الأميركي: (ان مدرج الطائرات جاهز للعمل في أي وقت، لكن المشاركة الفعلية في أي عمل عسكري من القاعدة تستلزم مباني اضافية وعددا آخر من الجنود وقد تحتاج الى ما بين شهرين وثلاثة شهور لتكون على أهبة الاستعداد تماما، اذا افترضنا ان التعليمات ستصدر الينا الليلة). وفي القاهرة.. أعلن قائد القوات المركزية تومي فرانكس ان العلاقات الأميركية مع (الحلفاء) جيدة، ووصف الانباء عن احتمال تعيينه حاكما على العراق بعد احتلاله بأنها تكهنات. وفي الوقت نفسه تم الاعلان عن انتقال 600 من كبار الضباط في القيادة المركزية التي ستكون مسئولة عن الحرب على العراق الى قاعدة (العديد) خلال الشهر المقبل لاجراء (تمارين!!).. وقد يبقى الضباط ـ بمن فيهم فرانكس ـ في قطر في انتظار اشارة من واشنطن لبدء الهجوم، الذي أعلن فرانكس انه جاهز تماما للقيام به!! ومن الأردن.. كانت محطة (سي. ان. ان) تذيع نبأ وجود آلاف من الجنود الأميركيين يتدربون على حرب الصحراء.. وذلك بعد انباء توالت طوال الشهور الماضية عن تدريبات مشتركة بين أميركا وأكثر من دولة عربية، مع التأكيد بالطبع على ان ذلك كان مقررا من قبل، وأنه لا علاقة له من قريب أو بعيد بما يجري على ساحة اعداد أميركا لاحتلال العراق! والكارثة ان يترافق ذلك مع أحاديث عن امكانية استفادة الولايات المتحدة الأميركية في حربها القادمة على العراق من الخبرات التي تملكها اسرائيل في هذا الشأن وليس فقط من مخازن الأسلحة الضخمة التي تحتفظ بها أميركا في اسرائيل. وفي هذا المجال فان الحديث يدور حول رغبة الولايات المتحدة في تقليل اشتباك جنودها على الأرض الى أقصى حد، ومع انها ستعتمد في عدوانها على العراق على الطائرات والصواريخ بعيدة المدى، فان احتلال العراق لن يتم الا باستخدام القوات البرية في حرب متوقعة داخل المدن، ومع عدم وجود قوة حقيقية عسكرية للمعارضة العراقية قادرة على ذلك، فان البديل الاسرائيلي يبدو مناسبا خاصة اذا كانت اسرائيل هي المستفيدة الرئيسية من ضرب العراق وتدميره سواء بالقضاء على قوة عسكرية واقتصادية لا تطمئن لوجودها في المنطقة، أو لانتهاز الفرصة لاستكمال مخططاتها ضد الشعب الفلسطيني بالابادة والتهجير أو فرض الحل الاسرائيلي بدون تحفظات. وربما يكون السكوت ـ بل الرضا ـ الأميركي على اقتحام القوات الاسرائيلية للمدن الفلسطينية وتدميرها، والسماح باستخدام الطائرات الأميركية في ذلك، بالمخالفات للقوانين الأميركية نفسها، واعتبار حرب الابادة الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني دفاعا عن النفس.. ربما يكون ذلك كله تدريبا على المهمة القادمة في العراق! ولعل شارون كان يتباحث في ذلك مع الادارة الأميركية في رحلته الأخيرة، ولعل ما قيل عن مساعدات جديدة لاسرائيل تبلغ عشرة مليارات دولار هو ثمن المهمة القادمة وليس ثمن السكوت فقط حين يبدأ العدوان على العراق! ومع ذلك، فدعونا نقول انه اذا كانت مشاركة اسرائيل في العدوان على العراق حتمية فيما يتعلق بالخدمات والمساعدات التي تقدمها للقوات الأميركية، فان مشاركة جنودها في الغزو المحتمل تبقى ـ حتى الآن ـ في مجال الاحتمالات التي تعرف واشنطن عواقبها الخطيرة عليها وعلى حلفائها في المنطقة. لكن السؤال الأهم يبقى عن الموقف العربي الرسمي، وهل يبقى في اطار ان الدول العربية تعارض ضرب العراق وكأن ذلك وحده يكفي لغسل دم الأيادي العربية من دم الشعب العراقي؟ اننا لا نريد ان نصدق تصريحات أكثر من مسئول أميركي طافوا بالعواصم العربية، وقابلوا المسئولين فيها، وخرجوا يؤكدون ان ما يسمعونه داخل الغرف المغلقة من هؤلاء المسئولين غير ما يقال خارجها، ولكن حين يكون اطلاق بعض المسئولين العرب لمقولة (ان العرب لا حول لهم ولا قوة) هو المدخل لأن تتحول أرض عربية الى قاعدة لتدمير بلد عربي واحتلال أرضه وقتل ابنائه، فان كل الاشارات الحمراء يجب ان ترفع في وجه هذا التوجه، وكل الجهود الرسمية والشعبية ينبغي ان تتحد لمنع هذه الكارثة التي سيدفع ثمنها العرب جميعا. ان الصمت هنا لا يجدي، ومصلحة الأمة العربية فوق كل اعتبار. واذا كانت الدول العربية غير قادرة على منع العدوان الأميركي، واذا كان صوتها غائبا في وقت يعلو فيه صوت المعارضة للسياسة الأميركية في العالم كله، فإن المشاركة في العدوان جريمة لن تغتفر، ونحن ندرك ان بعض الأطراف العربية تعرف ذلك وتراهن عليه، وتتصور أنها يمكن ان تحقق بعض المكاسب في ظل نظام جديد للمنطقة تحت الهيمنة الأميركية، وهو ـ للأسف الشديد ـ تصور جاهل بالحقيقة.. لا يعرف التاريخ ولا يقرأ الجغرافيا، ولا يدرك ان الأمة العربية ـ رغم كل النكسات والهزائم ـ قادرة على تخطي المحنة.. فهل يعيد هؤلاء حساباتهم قبل ساعة الحقيقة؟! ـ نائب رئيس تحرير «اخبار اليوم» المصرية

Email