استراحة البيان ـ جاء.. وذهب.. ولا أحد يعرف ! ـ يكتبها اليوم: محفوظ عبد الرحمن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 18 شعبان 1423 هـ الموافق 24 أكتوبر 2002 قال صديقي وهو يتحدث إن عبدالله السمان مات! واستوقفته مندهشا فلم أكن أعرف ذلك من قبل. أكد لي الخبر، سألته عن التفاصيل فهز كتفيه بما يعني انه لا يعرف تفاصيل. سألته متى كان هذا فقال إن ذلك حدث منذ أسبوع تقريبا قلت له انني كنت هنا ولم أكن مسافرا، ولكنني لم أقرأ نعيه في الصحف، وقال لي إن نعيه لم ينشر. بدا لي الأمر غريبا. لكنني اضطررت لترك صديقي دون أن أعرف الرد على اسئلتي الكثيرة. وبعد قليل نسيت أمر عبدالله السمان لدهشتي، فأنا من الذين يقفون امام الموت متأملا. فضلا أن عبدالله السمان كان زميلا في المدرسة ومصاحبا لي أثناء الدراسة الجامعية، وقريبا عن بعد على المستوى العائلي. ورغم كل هذا نسيت الأمر أو أظن انني نسيته حتى كان المساء وكان لدي موعد في أحد النوادي، وأنا لست من المترددين عادة على النوادي. ولذلك وقفت امام الباب حائرا. فوجدت شابا يقترب مني متمهلا: ـ أهلا يا «أونكل»! وأدركت من لقب (أونكل) هذا الذي أضفاه عليّ أنه قريب أو ابن أحد اصدقائي لكن الذاكرة - على يقظتها غالبا - لم تسعفني بمن هو الشاب. وتخلص من نداء فتاة تكره عادة لبس الثياب فلبست أقل ما تستطيع، وأخذ يسألني لماذا أتيت الى هنا، فأدركت أنه يعرف، ويعرف انني لست من المترددين على مثل هذه الأماكن. أخبرته بمقصدي. وقاطعنا مجموعة من الشابات والشبان أكدوا عليه الا ينسى موعد (البارتي) الليلة. ووسط هذا الهذيان قال لي الشاب: ـ تعرف طبعا ان الوالد توفي؟! وقطبت وجهي أمثل الحزن وأكدت له انني لم أعرف الخبر الا توا، فلم أكن قد ميزت الشاب بعد. ولكن في لحظة أدركت انه ابن عبدالله السمان. ولم يكن من الممكن التراجع عن جهلي بالخبر. فلو فعلت كان معنى ذلك انني جهلت الولد الذي عرفته منذ ان كان طفلا وادعيت انني سمعت الخبر الآن. ولأن عبدالله السمان (صديق) منذ نصف قرن كان لابد من تمثيل بعض الحزن، والاستعانة ببعض الأدعية التقليدية، وتقديم العزاء الى الشاب. وبالتأكيد كان هذا مجهودا كبيرا عليّ. لكن الشاب هونه بطريقة فذة. ودخل في موضوع آخر. ومرت بنا فتاة قالت له انها في انتظاره لينصرفا معا. وبدت لحظة انها زوجته. وكنت قد حضرت عرسه. فلما سألته عنها قال: ـ لا يا «أونكل» هذه ليست المدام. لقد طلقتها وانا الآن أعزب. واكتفيت بالحديث مع الشاب وذهبت الى ما كنت أسعى اليه. ولكن ما ان أتى صباح اليوم التالي حتى لمت نفسي لوما شديدا، فلقد كان عليّ ان أرتب زيارة لاسرته لأقدم لها العزاء، فلقد كان عبدالله السمان (صديقا) لنصف قرن، ولا يجهل أحد كيف اننا نشأنا معا، وأننا اتينا الى القاهرة معا، واننا كنا نسكن سويا في شقة واحدة. وانا حديث عهد بالمجاملات لذلك قد تجدني مبالغا. في البداية كنت أحس بالحزن أو الفرح، لكنني لا أشارك. فكانوا يتهمونني باللامبالاة. ومع تقدم السن وبعض الظروف رأيت انه من المهم المشاركة في الاحزان والأفراح. ورغم عذاب هذه المشاركة الا أنني حريص عليها حرص المبتدئ الشغوف بتحقيق فكرته. و(العزاء) بالنسبة لي لا يعني فقط المواساة في فقد انسان، بل تأكيد وجوده معنا. اننا نتحدث مثلا عن سعد الدين وهبة يوميا كما لو كان يعيش معنا. ضاع الحزن الذي صاحب صدمة الفقدان. وأصبح سعد الدين وهبة (شخصا) له سمات مختلفة عمن نتعامل معهم. هذا مجرد مثال. ومثال آخر لا انساه لطرافته كان بعد رحيل كاتب السيناريو سيد موسى بفترة. فلقد التقينا مجموعة من عارفيه بالصدفة في شارع رمسيس. وقفنا نتحدث عنه دون ترتيب ولما طالت الوقفة انتقلنا الى أحد المقاهي. وأخذنا نتحدث عن سيد حتى بعد منتصف الليل. وكنا في غالب الأمر نضحك فلقد كانت ذكرياتنا ضاحكة غالبا. ولم نجد حرجا في ان (يرثي) سيد موسى بالضحك فلقد كنا نؤمن ومازلنا انه موجود بيننا. وفي حيرتي حول ما يجب ان أفعله مع موضوع عبدالله السمان دق التليفون وسمعت صوت أحد أصدقاء الطفولة وهو يقول: ـ هل عرفت بخبر عبدالله السمان؟! قلت له انني عرفته أمس. وحكيت له ما حدث. وكان صديقي هو معاوني الأكبر في اداء الواجبات. فهو أخبر مني بهذه الأمور. ولذلك طلبت منه ان يفعل ما يجب. رتب الصديق القديم زيارة للاسرة يوم الخميس. ولعدم ثقته في معلوماتي شرح لي انه في مثل هذه الأحوال تستقبل الاسرة في بيتها من تخلف عن العزاء في أول خميس ويسمونه الخميس الكبير. ثم في الخميس التالي وهكذا، حتى الأربعين أي مرور أربعين يوما. وقال صاحبي: ـ وهذه كلها عادات فرعونية! ـ ولم أرد مناقشته. فلقد أردت ان أقول له هل كان يوم الخميس مقدسا عند الفراعنة، أم ان اختيار يوم الخميس آت من الجمعة اجازة، فهي على ما أعتقد عادة اسلامية. لكن صاحبي يعود بكل شيء الى زمن الفراعنة. ـ رسمت على وجهي امارات الحزن، ونحن نعبر من الباب وصوت شابة تعنف طفلتها رأتها كسرت (فازة) وهي تلعب وصوت الأم تهون عليها الأمر رغم انها صاحبة (الفازة). ـ استقبلتنا الاسرة بشغف شديد بدا ان سببه السؤال عن فيلم (حليم) غيرت الموضوع فورا، وقدمنا لهم العزاء، فضاع الشغف تحدثوا عن الجيران ومشاكلهم، وحكوا لنا احداثهم بالتفصيل. أتى الابن أخيرا سلم علينا واستأذن لان لديه موعدا مهماً، وألحت الابنة على امها ان تتعجل المحامي من اجل الميراث. ومال عليّ صديقي هامسا: ـ يبدو انه ليس هناك أحد حزين على عبدالله السمان! ومهما حدث بعد ذلك سيطرت كلماته على عقلي. لم يكن هناك انسان يسعد لموت عبدالله السمان فلم يكن به أي شر لكنه لم يكن هناك انسان يحزن لموته، فلم يكن به أي خير.. أو أي شيء. كان فاترا. دخل الحياة وخرج عنها دون ان يترك أثرا. كان استاذنا يحيى حقي يقول لي وانا أتجول معه في احياء القاهرة: ـ لا انسان الا ويترك اثرا. فأحرص على ان تترك أثرا طيبا! لكن عبدالله السمان عاش أكثر من ستين عاما دون ان يترك أي اثر كان يسكن معي وانا طالب في الجامعة. وحاولت ان اتذكر في أي كلية درس فلم اتذكر طلبت صديقي وسألته، فأكد لي انه كان يدرس في كلية الحقوق وانه يذكر ذلك جيدا لانه درس نفس الشيء ولكن في كلية أخرى. لكنني عندما قلت هذا لقريب له فيما بعد ضحك وقال انه تخرج في معهد الخدمة الاجتماعية. واستعصى ما قاله على ذاكرته. وعندما أغمضت عيني لأتذكر ملامح (الصديق) الذي عرفته نصف قرن لم استطع استعادة ملامحه. قال صديقي الذي يهوى التصوير انه راجع كل ما لديه من صور فلم يجد فيها صورة لعبدالله السمان. تساءلت: هل كان هناك شخص اسمه عبدالله السمان؟! وقفز صديقي صائحا: ـ والله هذا ما ذكرت فيه. الا يمكن ان عبدالله السمان من صنع خيالنا والا فماذا يدل على انه وجد؟ ورفض ان يعود للجلوس. وقال بين المزاح والجد: ـ سأذهب الى أكثر الشوارع زحاما وأخلع ملابسي كلها. أريد ان يتذكرني الناس ولو بالسوء. لا أريد ان أكون مثل عبدالله السمان!

Email