خط مباشر ـ بوش والتمرد الدولي ـ بقلم: أحمد عمرابي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 18 شعبان 1423 هـ الموافق 24 أكتوبر 2002 اذا تراجعت الولايات المتحدة أخيرا عن مشروعها الشرير لتدمير العراق ـ كما يلوح من مؤشرات متزايدة الدلالة ـ فإن بغداد لن تكون مدينة إلا لقوى اجنبية في مقدمتها فرنسا وروسيا. مؤشرات التراجع الاميركي دقيقة بدرجة مجهرية.. وربما تخطئها العين المجردة او غير المدربة لكنها مع ذلك باتت حقيقة ثابتة ذات دلالات مثيرة. ولعل اكبر المؤشرات وأعظمها دلالة ان الهدف الاستراتيجي الاميركي الاعظم وراء خطة غزو العراق تحول تدريجيا من «الاطاحة بنظام الرئيس صدام حسين» الى «نزع اسلحة العراق». لمدى شهور متصلة ظلت ادارة بوش تتعامل جهرا مع مسألة اسلحة الدمار الشامل كقضية ثانوية تارة وكمجرد وسيلة لتحقيق هدف اسقاط النظام العراقي تارة اخرى. وعلى مدى مساحة زمنية طويلة تدنت مرتبة اسلحة الدمار الشامل الى مجرد ذريعة. وبلغ الاستهتار السياسي الاميركي بهذه المسألة درجة التصريح بأن عمليات التفتيش عن هذه الاسلحة «لا تعني شيئا». الآن يبدو ان بوش توصل الى قناعة ما باسقاط بند «الاطاحة بالنظام» معلنا اولا ان واشنطن ليست معنية إلا بإزالة اسلحة الدمار الشامل وثانيا انها سوف تلتزم بالمنهج الدبلوماسي السلمي تجاه هذه المسألة الى آخر شوطه. واذا كان من الممكن الاستنتاج دون مبالغة ان ادارة بوش طرحت خيار الحرب جانبا فإنه ليس واضحا تماما ما اذا كان هذا التأجيل مؤقتا ام نهائيا، لكن السؤال يبقى مطروحا: لماذا قررت واشنطن اعادة النظر في حساباتها؟ لا نقلل من التحرك الذكي للدبلوماسية العراقية سواء على صعيد معارك الامم المتحدة او على الاصعدة الثنائية لكن سيكون قطعا من المبالغة غير المقبولة اذا قلنا ان هذا التحرك وحده هو الذي حمل بوش على زحزحة موقفه. هناك عوامل اخرى اعظم شأنا وأشد حسما تتمثل اجمالا في تلك المؤشرات المتنامية بقوة بأن عصر القطب الدولي الاوحد الذي افرزه زوال الثنائية القطبية في عصر الحرب الباردة البائد ربما اصبح الآن في حالة عد تنازلي. للمرة الاولى منذ الحرب الباردة تنهض فرنسا وقد تقمصت روحا ديغولية في تزامن عجيب مع نهوض روسيا وقد تقمصت روح ستالين، لأول مرة منذ بداية عقد التسعينيات تفاجأ الولايات المتحدة بمن يواجهها بكلمة «لا». هذه الكلمة التي كانت مفقودة في حرب الخليج الثانية وفي حرب كوسوفو وفي حرب أفغانستان الطالبانية التي انبثقت عن حملة ما بعد «احداث سبتمبر» في كل هذه الحروب دخلت القوى الدولية بما فيها فرنسا وروسيا «ائتلافا» دوليا من تأليف واخراج واشنطن.. دخلت اما خوفا وإما طمعا. وجاء المشروع الاميركي لغزو العراق لينسف بدعة «الائتلاف الدولي».. فقد افرز المشروع لدى عواصم القوى الدولية الاخرى ثمة تساؤلات محمومة منها: من يحكم العالم؟ الى أين تقودنا الولايات المتحدة؟ ما هي مصلحتنا في المشاركة في حروب اميركا؟ أطلق شرارة التساؤل جيرهارد شرويدر زعيم ألمانيا.. فانتشرت الشرارة من برلين الى باريس وموسكو. وباستكمال ادارة بوش اللمسات الاخيرة على خطة غزو العراق وعرضها على مجلس الامن الدولي لأخذ «مباركته» كما جرت العادة القديمة فوجئت واشنطن بكلمة «لا» من قوتين تملكان كما الولايات المتحدة نفسها حق «الفيتو». واشتعلت معركة دبلوماسية ضارية لا يزال أوارها يتعاظم حتى اليوم. ومحور المعركة هو ان ادارة بوش تريد استغلال مجلس الامن الدولي كمجرد غطاء يضفي شرعية دولية على فعل اميركي احادي بنيت معطياته بالكامل على اعتبارات السياسة الاميركية الدولية وأجندتها الثابتة المحكومة بالاجندة الصهيونية. لقد حاول بوش مناوأة المعارضة في مجلس الامن الدولي باستصدار قرار من الكونغرس يمنح ادارته تفويضا كاملا لشن الحرب على العراق «انطلاقا من اعتبارات الدفاع عن الامن القومي الاميركي» ولكن بينما فشل الرئيس الاميركي في ترعيب فرنسا وروسيا ومعهما الصين على صعيد المعركة الدبلوماسية في مجلس الامن فإن ما تراءى له كاجماع داخلي من خلال قرار الكونغرس نسفته عاصفة المظاهرات العاتية التي انتظمت الشارع في 24 مدينة اميركية. وانتقلت روح المظاهرات القوية الى صفحات الصحف الاميركية لتطرح شخصيات ذات وزن سؤالا هو الاول من نوعه: وماذا عن اسرائيل؟! لماذا لا تستهدف اسلحة الدمار الشامل لدى الدولة اليهودية كما يستهدف العراق؟ ولماذا يحاسب العراق على خرق الشرعية الدولية ولا تحاسب اسرائيل؟ وربما يكون هذا التساؤل الخطير الجريء هو القشة التي قصمت أخيرا ظهر الخطة لغزو العراق بفعل تراكمات التمرد الدولي المتعاظم بزعامة فرنسية وروسية ضد نظام القطب الدولي الأوحد.

Email