الاستشهاد .. بين الاختيار والاضطرار ـ بقلم: د. صابر فلحوط

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 18 شعبان 1423 هـ الموافق 24 أكتوبر 2002 تجتهد مراكز البحث والدراسات في حقل العلوم الاجتماعية والانسانية هذه الايام لتحديد الذرائع والعلل التي تدفع الشباب في ريعانه، إلى و ضع حد لحياته من خلال العمليات الاستشهادية والفدائية التي تزدحم بها الفضائيات نقلاً عن الساحة الفلسطينية بعد الانتفاضة الباسلة. ويتدرج سلم الأسباب، كما تراها المراكز الاميركية، والغربية عموماً، مسجلاً: 1ـ إقفال أبواب العيش الكريم أمام هذا الشباب المندفع صوب الموت! 2ـ الهروب من وحش اليأس والاحباط الذي يلاحقه في غابة الحياة المرعبة. 3ـ الاغراق في أحلام اليقظة التي تعوضه عما ينقصه في الحياة الدنيا بما يكفيه ويغنيه، ويحقق جميع امانيه، في الدار الآخرة!! 4ـ محصلة محكمة ونتائج مباشرة لثقافة الزهد والعزوف عما هو فان في هذه الحياة، من أجل ما هو خالد وسرمدي في الحياة الباقية. ويخلص أصحاب هذه النظريات التي تعلل وتفلسف، العمليات الاستشهادية إلى القول ان المعدة، والرغيف، والتوجيه السلفي هو الدافع بالاختيار والاضطرار معاً إلى ان يبيع الشباب عمره الغالي، بالوهم والسراب، والعبث!! ولقد فات هؤلاء المجتهدين في هذا الميدان، ان الانسان ليس معدة فقط، وأن المشاعر والقيم، والمفاهيم الانسانية والكرامة الوطنية والقومية، لا تخضع لمقاييس العرض والطلب، ولا لاقتصاد السوق أو المزادات المادية .. ذلك ان الواقع المشخص والذي يعيشه الناس في فلسطين والجولان، وجنوب لبنان على مدار الساعة، وكما عاشه آباؤنا وأجدادنا للمستعمر على اختلاف صنوفه وزحوفه، وأسلحته على مر تاريخهم الحافل والطويل، يؤكد: 1ـ ان معظم الاستشهاديين والمجاهدين هم من الشباب الذين لم تعبس أمامهم وجوه العيش الرغيد، ولو آثروا الهزيمة والسلامة على الفداء والعطاء لاستطاعوا إلى ذلك كل السبل. 2ـ ان هؤلاء الشباب الذين يمارسون الاستشهاد معظمهم من جيل ما بعد النكبة عام 1948، وقد ولدوا في خيام التشرد ومعسكرات القهر، والاذلال تحت تهديد سلاح عدو لا مثيل لبشاعته، وعنصريته في التاريخ. 3ـ ان الايمان بشرف الاستهشاد من أجل الأرض والعرض والكرامة والحق فضيلة يرضعها الجيل مع لبن الطفولة، وتنمو معه في المدرسة والجامعة والمجتمع، فإذا حول هذا الايمان إلى اقدام واع، وموقف شجاع، فإنه يحقق بذلك الانسجام بين الكلمة ورصيدها في مصرف الحقيقة والفعل.. 4ـ نتمنى على أي شعب محتلة أرضه على وجه هذا الكوكب، أن يؤمن بما يؤمن به الشباب المجاهد في فلسطين بخصوص خلود الشهداء في جنة عدن إلى جواره تعالى، لأن مثل هذا الايمان هو السلاح الاقتل، والامثل، والاقوى لمواجهة الصهيونية العنصرية والامبريالية العالمية واعداء الشعوب في العالم. من هنا فإن الشهادة اختيار واضطرار في آن، لأن الفدائي يقبل طواعية، وإيماناً، وانسجاماً مع ذاته، وعقيدته، وفهمه المعمق للحياتين الأولى والثانية، فيختار اللحظة المدوية التي تمكث في الارض لتعمرها، وتنفع الناس في تحرير أرضهم واستعادة حقوقهم والحفاظ على كرامتهم في وطنهم وأمتهم. والاستشهاد اضطرار لأنه يأتي نتيجة لا سبباً، فلولا الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ولولا ممارسة الامبريالية الاميركية القهر للشعوب من خلال تحالفها الاستراتيجي مع الصهيوينة وتقديمها كل أسباب الدعم والقوة، والمساندة بالسلاح والسياسة، والمال، فإن طاقات الجهاد والاستشهاد كان لابد ان تتحول إلى بناء الحضارة وتحقيق الكفاية والعدل والرفاهية التي هي غاية الانسانية وهدفها الاسمى. وعندما نستذكر باطلالة وامضة على التاريخ الانساني، فإننا نجد ان الغرب بمفهومه الأوروبي و الأميركي الواسع، كان الحاضنة للارهاب الاخر في العالم. فهل شباب الانتفاضة هم الذين صنعوا الغزو الروماني للمنطقة، وهل هم الذين فجروا حروب الفرنجة فيها، وهل الحرب العالمية الأولى والثانية من صنع أطفال الحجارة في فلسطين؟ وهل الاحتلال الغربي في مطالع القرن العشرين والذي توج بتفجيره القنبلة الصهيونية في القلب العربي، يكمن خلفه استشهاديون لا يعرفون طريقهم للحياة؟ كل هذه الأسئلة تعزز مقولة استمرار الفداء والجهاد والاستشهاد في المنطقة، والعالم، ما دام الاستعمار الاستيطاني العنصري في فلسطين يمارس القهر والقتل، والتدمير ضد شعبنا، مدعوماً ببركات وأسلحة دعاة الأمن والسلام في البيت الأبيض الذي يواصل حماقاته في الاستعداد لضرب العراق، وتهديد الوطن العربي والعالم أجمع بعظائم الأخطار. فهل يدرك الذين أدمنوا رؤية صور الموت المتسارع في الشارع الفلسطيني والتهديد المتغطرس للعراق الشقيق ان الأرض بدأت ترتج بالزلزال القادم من وراء الأطلسي وان الصحوة الغاضبة لاتخاذ القرار القومي الواحد ازاء الخطر الداهم يجب ألا تتأخر؟! ـ نائب رئيس اتحاد الصحفيين العرب

Email