قرار روسي مختلف أم «صفقة» جديدة حول العراق ؟! ـ بقلم: محمد مشموشي

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 13 شعبان 1423 هـ الموافق 19 أكتوبر 2002 في واشنطن كما في موسكو، ولكن أيضا في عواصم عربية عدة، يدور همس يكاد يكون مسموعا حول حقيقة الموقف الروسي من العدوان الأميركي المنتظر على العراق، بل وتحديدا حول طبيعة «الصفقة» التي يمكن أن يعقدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن مع «صديقه» الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش لتوفير تغطية في مجلس الأمن الدولي - ان لم يكن الآن، ففي وقت لاحق - لهذا العدوان. وفيما يقال في العلن، وينشر في الصحف وأجهزة الاعلام الأخرى، فان الادارة الأميركية لا تمانع في اجراء مساومة مع الكرملين حول ما تصفه ب «اليوم التالي» للعدوان تسهيلا لمثل تلك «الصفقة». بل إن وفدا أميركيا زار موسكو أخيرا أبلغ المسئولين فيها، وفي شركات النفط الروسية، بأن «النظام المقبل» في بغداد سيكون وفيا لكل الاتفاقات والعقود الموقعة بين الطرفين، بأرقامها التي يقال انها تصل الى خمسين مليار دولار، وبمدة سريانها التي ذكر انها تغطي عشرات السنين، فضلا عن الديون التي ما زالت لروسيا على العراق من أيام الاتحاد السوفياتي السابق. فهل هذه هي القضية بين موسكو وواشنطن، بل هل هي القضية فقط ؟!. تبدو المسألة في جزء منها كذلك، الا ان لها أبعاد أخرى أعمق. ومع أن الخلاف لا يتعلق بالمبادئ أو بالأخلاق، بل أساسا بالمصالح كما هي الحال بين الدول حيث لا صداقات دائمة بل مصالح دائمة، الا أن سياسة الغش ( عمليا، التركيع الممنهج ) التي تنفذها واشنطن مع روسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ثم بعد حرب افغانستان تحديدا، أدخلت الروس في ما يسمونه ب«التجربة المرة» التي أدت الى ما يسمونه أيضا «العقدة المرة» في العلاقات بين البلدين. فأية «تجربة مرة» تلك التي كانت، وأية «عقدة مرة» تلك التي تبدو الآن على السطح وربما تستمر لفترة قد تطول أو تقصر بحسب المساومات حولها ؟!. وبعدها، ما هي تأثيرات ذلك على التحفظات التي تبديها كل من فرنسا والصين، الى جانب روسيا، على الحرب الانفرادية التي تنوي ادارة بوش شنها ضد العراق ؟!. ولكن ماذا قدمت موسكو لواشنطن حتى الآن ؟!. بصرف النظر عما حدث بين البلدين قبل الحادي عشر من سبتمبر، يقول الروس أن بوتن كان أول رئيس دولة في العالم يتصل ببوش معزيا بضحايا العملية. وهو ـ يضيفون الى ذلك ـ لم يسمح بأن تستخدم القوات الأميركية قواعد انطلاق لها في آسيا الوسطى فقط، بل انه وافق على انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة حظر الصواريخ الباليستية للعام 72 وعلى توسيع حلف شمالي الأطلسي ليضم جمهوريات سوفياتية سابقة ( ليتوانيا ولاتفيا واستونيا ) اضافة الى أنه أقفل القواعد السوفياتية السابقة في كوبا وفييتنام. أكثر من ذلك، فهو لم يعترض حتى على تمركز قوات مسلحة أميركية في أوزبكستان وعلى تواجد مستشارين عسكريين لها في جمهورية جورجيا الخ.. ولا ينسى الروس طبعا «الهدية» التي قدمتها حكومتهم للولايات المتحدة بتخليها عن نظام حكم سلوبودان ميلوسفيتش في يوغوسلافيا، ولاحقا بتسليمه من سلطات بلاده وتقديمه للمحاكمة. وماذا نالت موسكو من واشنطن في المقابل ؟!. برغم الحصول على اعتراف أميركي ـ كان في مجمله رمزياـ بروسيا كبلد اقتصاد سوق يمكن للاقتصاد الأميركي ان يتعامل معه، وعلى قرض من بنك التصدير والاستيراد ب 300 مليون دولار لتطوير صناعاتها النفطية، فقد تدنت واقعيا الاستثمارات الأجنبية المباشرة في روسيا، ولم تتم أية اعادة جدولة لديونها ولا اعطاؤها فترة سماح، وتبدو روسيا الآن أقل قربا من عضوية منظمة التجارة العالمية فضلا عن أنها ترى في قرار بوش فرض رسوم جمركية على الصلب والحديد عملا عدائيا موجها ضدها. واجمالا، يقول الخبير الاستراتيجي القريب من الكرملين سيرجي ماركوف، التجربة مع الولايات المتحدة كانت مرة الى حد كبير. لكنه يضيف : «لقد علمتنا التجربة انه لا يمكن الثقة بالتفاهمات الأميركية السرية، فهم ببساطة يلجأون دائما الى ممارسة الغش». أما المعلق التلفزيوني المعروف، ميخائيل ليونتييف، فيضيف الى ذلك انه «عندما يتعلق الأمر بالالتزامات، ولا نتحدث هنا عن العرفان بالجميل، فهذا المفهوم غائب تماما عن الثقافة السياسية الأميركية». لكن «الشعرة التي قصمت ظهر البعير»، وفق التعبير المعروف، تبقى في القرار الأميركي الذي تحول الى حقيقة قبل أسابيع بوضع حجر الاساس لخط انابيب النفط من باكو ( في اذربيجان ) الى شيحان ( على البحر الأبيض المتوسط في تركيا ) والذي تعتبره موسكو عدوانا استراتيجيا عليها بالمعنيين السياسي والأمني الوطني، وكذلك على محاولتها الخروج من مأزقها الاقتصادي - الاجتماعي الراهن. فهذا الخط الذي سعت موسكو دائما لأن ينتهي في أراضيها، أو أقله لأن يمر فيها، تعرض بعد ثماني سنوات من الشد والجذب الى مؤامرة أميركية سافرة، بالتهديد تارة وبالاغراء تارة أخرى، وتم بنتيجتها اقناع البلدان المعنية ( اذربيجان وجورجيا وتركيا ) وشركات نفط أجنبية ( أميركية وفرنسية وبريطانية وسويدية وغيرها ) بدفع ثلاثة مليارات دولار لبنائه على امتداد ألفي كيلومتر.. وفقط - كما يقول الروس - للأضرار بأمن روسيا الوطني وباقتصادها وبدورها السياسي، لأن أحدا في تلك البلدان وتلك الشركات لا ينكر أن هذا الخط غير ذي جدوى تجاريا. وما حدث في ذلك اليوم من شهر سبتمبر العام 2002، أي يوم وضع حجر الأساس لما وصف بأنه «عقد القرن الحادي والعشرين» لبناء الخط، عبر علنا عن المؤامرة الأميركية على روسيا. اذ في ذلك اليوم، الثامن عشر من سبتمبر كان وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف يقف نيويورك، في خلال قمة تحمل عنوان «اوراسيا 2000»، ليعلن أمام المشاركين أن الهدف الحقيقي للمشروع هو «ابعاد روسيا عن المناطق التي تربطها بها مصالح تاريخية مشروعة» - المقصود هنا الجمهوريات السوفياتية السابقة -، مضيفا «ان موسكو لن تستطيع ان تقبل بذلك تحت أي ظرف». وعلى الجانب الآخر في باكو، وفي اليوم ذاته، كان رئيس جورجيا ادوارد شيفارنادزه يتحدث في الاحتفال بوضع حجر الأساس للخط، فيصف الولايات المتحدة بأنها «قائدة العالم»، وتركيا بأنها «قائدة اقليمية»، مشيدا بالمشروع الذي من شأنه كما قال ان «يدمج جورجيا واذربيجان في الفلك الأوروبي - الاطلسي». مع ذلك فلا شك في أن لروسيا مصالح سياسية، اضافة الى مصالحها الاقتصادية الحيوية، مع العراق ومع امتداده في بقية العالم العربي. ولا شك في أن موسكو - أو أقله بعض قواها السياسية من شيوعيين وقوميين وراديكاليين - تنظر بألم الى الفراغ الذي تركه غيابها كعاصمة للدولة العظمى الثانية في العالم على المسرح الدولي، وحتى على المسرح الروسي ذاته. بل هي، ربما، ما تزال تشعر بالحنين الى تلك الفترة برغم كل ما فيها من مثالب وعيوب. .. ولعل ذلك، برغم كل شيء، ما قد يلعب دورا في النهاية.. في طبيعة القرار، كما يتمنى العرب، او في طبيعة «الصفقة» وحجمها كما يتوقع بعض المعلقين الأميركيين !!. ـ كاتب لبناني

Email