عندما سقطت زهرة المدائن ! ـ بقلم: عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 13 شعبان 1423 هـ الموافق 19 أكتوبر 2002 القدس.. زهرة المدائن.. قرية السلام.. مدينة الصلاة.. بهية المساجد.. بقعة من الخضرة والنور منحها الله تسعة أعشار الجمال ووزع العشر الباقي على العالم كله.. ومنحها تسعة أعشار العذاب ووزع العشر الباقي على العالم كله.. بقدر الروعة كانت القسوة.. وبقدر الرحمة كانت الظلمة.. وبقدر الايمان كانت أحذية الغزاة الثقيلة. لقد ظلت القدس مدينة مغرية للموت في سبيل الله.. الشعارات الراقية كانت محفورة دائما على السيوف والمدافع.. وعرشها كان قائما باستمرار على أسنة رماح الحروب الدينية التي شنها أبناء النبي «إبراهيم» عليه السلام على بعضهم البعض.. فلكل منهم تذكار ومقام.. حائط المبكى.. كنيسة القيامة.. قبر المسيح.. قبة الصخرة.. المسجد الأقصى.. إن هذه الأماكن المقدسة كانت سببا لا ينتهي لاراقة الدماء.. وتواصل الشقاء.. واستمرار الآلام والأحزان والأشواك. إن ما تعاني منه القدس الآن ليس جديدا.. فقد سبق أن عاشته يوم كان الصليبيون يسيطرون عليها ويقيمون فيها ما أسموه «مملكة الرب».. وقد استمرت 88 سنة.. ثم زالت.. فدوام الحال من المحال هناك.. هذه حكمة التاريخ التي تفتح لنا طاقة نور تبدد عتمة «أرييل شارون» الذي كرر ما سبق أن أعلنه «مناحم بيجن» في يونيو عام 1980: القدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة اسرائيل.. وهو أيضا ما سبق أن نفذه «جودفري دو بويون» القائد الصليبي الذي دخلها واحتلها وسيطر عليها في يوم الجمعة 15 يوليو عام 1099 ميلادية. وقد تصور أنها ستدوم عاصمة موحدة وأبدية لدولة الصليب.. لكن.. جاء يوم جمعة آخر.. هو يوم الجمعة أول أكتوبر عام 1187 لتتحرر القدس وتعود الى أصحابها مرة أخرى.. وكان البطل في ذلك اليوم هو صلاح الدين. لقد دخل «دو بويون» الذي كان يسمي نفسه «عبدالمسيح» و«حامي الذخيرة المقدسة» القدس في «يوم الرب» على حد ما انتهى اليه الباحث الأمريكي «جيمس رستون» في كتابه المثير عن الحروب الصليبية: «مقاتلون في سبيل الله» الذي ترجمه الى العربية الدكتور «رضوان السيد».. و«يوم الرب» هو اليوم الذي كان المسيحيون في العصور الوسطى يعتقدون أن المسيح فدى فيه البشرية على الصليب.. كانت القدس وقتها مدينة اسلامية حصينة.. لها أسوار وأبواب وخندق مائي يحيط بها.. وقد استمر حصارها 5 أسابيع من 7 يونيو الى 15 يوليو 1099 وخلال تلك المدة نجح أحد فرسان الصليب وهو «ريموند أوف سانت جيل» في ردم الخندق المائي.. ثم بدأ في نصب السلالم الخشبية.. فاتحا أكثر من ثغرة في الأسوار.. أما نقطة الضعف فكانت البوابة الشرقية للمدينة المعروفة ببوابة دمشق والتي سماها الصليبيون فيما بعد بوابة ستيفين.. وقد اقتحمها «دو بويون» ليصبح أول ملك مسيحي في القدس. ولاشك أن «دو بويون» هو أشهر شخصية صليبية استخدمت الدين لتحقيق مكاسب سياسية.. فقد كان يزعم أن ضربة واحدة من سيفه كفيلة بقتل مئات المسلمين واليهود.. فسيفه كما كان يقول صنع من نيزك سقط من السماء ممزوجا بالبركة.. ولا يزال هذا السيف من مقتنيات كنيسة القيامة حتى اليوم.. وعندما مات كتب على قبره: «هنا يرقد النجم الساطع دوق جوفري.. من نشر الرعب في مصر وفر من أمامه العرب.. وبدد شمل مصر.. انتخب ليكون ملكا وأبى أن يتوج فهو «عبدالمسيح».. على كاهله ألقيت مهمة اعادة الحقوق لكنيسة السيد المسيح.. كان مثال الكاثوليكي الذي يتبع تعاليم الحق والمساواة المقدسة.. استحق كما القديسين تاجا على رأسه.. كان مرآة الجيش.. قوة الشعب.. وملاذ رجال الدين».. ولم يكن الرجل يستحق شيئا من ذلك فقد كان في الحقيقة سفاحا محترفا بلا قلب يعرف الرحمة. فطوال يومين كاملين بعد سقوط القدس انصرف الصليبيون بتعليمات منه لذبح كل من رأوه وليس منهم.. وكانت جثث القتلى من المسلمين مشقوقة.. لما شاع من أن المسلمين كانوا يخفون ذهبا في أجسادهم.. وبلغت أعداد المذبوحين بالمدينة نحو 40 ألفا من الرجال والنساء والأطفال.. أما كنيسة القيامة.. كنيسة الذخيرة المقدسة.. أكثر الكنائس قداسة في العالم فقد تحولت الى بركة من الدم.. ووجد الصليبيون أن اليهود تجمعوا في كنسهم (معبدهم) وقد هيأوا أنفسهم للموت.. ولم يتردد فرسان الصليب في احراق المعبد بمن فيه.. ثم انصرفوا للرقص.. وارتفعت أصواتهم بالأناشيد الدينية. بعد القتل بدأت عمليات النهب.. نهبوا مسجد «عمر بن الخطاب» المجاور لكنيسة القيامة.. ثم أحرقوه.. ودمروا قبر «إبراهيم» عليه السلام.. لقد فعلوا كل ذلك براحة وثقة.. وكأنهم يتقربون به الى الله.. ويسجل أحد المشاركين في الذبح هو «ريموند دو أجيلار» في مذكراته: إنه «في الهيكل وموقع سليمان كان بوسع الرجال الغوص في الدماء الى ركبهم.. وقد كان ذلك عملا عظيما وجزءا من عدالة الله.. أن يمتلئ المكان بدماء الكفرة لأنه عانى طويلا من أعمالهم الفاجرة». وما أن انتهت مذبحة اليوم الأول حتى نزع الفرسان أسلحتهم وثيابهم وغسلوا الدماء التي غمست دروعهم وأجسادهم وارتدوا أردية التوبة وذهبوا للصلاة في كنيسة القيامة.. وقاد بطرك القدس مسيرة احتفالية نحو جبل الهيكل.. حيث أنشد الجميع نشيدا شعائريا مرفوعا للرب بصوت مملوء بالبهجة.. وما ان انتهت الصلاة حتى عادت المذابح.. وبضراوة.. وسجلت الأرقام انتقاما واضحا من النساء.. إن «جيبرت دو نوجنت» المؤرخ الأشهر للحملة الصليبية الأولى يقول: «وما أضر الفرنج بالنساء اللواتي وجدوهن في معسكر العدو باستثناء أنهم استلوا سيوفهم وبقروا بطونهن».. لكن ذلك كله كان أضعف الايمان.. فعندما دخل صلاح الدين القدس بعد 88 سنة كانت الصورة مؤلمة للغاية. لقد تفقد صلاح الدين أسوار القدس طوال خمسة أيام وفي اليوم السادس بدأ الهجوم وقد قدر عدد المدافعين عن المدينة بعشرة آلاف مقاتل كانوا يزعمون أن طاقتهم الايمانية تجعل الواحد منهم يواجه مائة مسلم.. فراحوا ينفخون في الأبواق.. وينشدون الأناشيد الدينية.. وبدأ المسلمون ضرب الأسوار بالمناجيق (جمع منجنيق).. وآلة تشبه القوس لكنها أضخم وأقوى ترمي الحجارة بدلا من النبال.. وفي الوقت نفسه كان المهندسون يحفرون تحت السور ليسقط أو يحدثون فيه ثقوبا لتدخل منها النيران.. وبعد يومين استطاعوا هدم أجزاء من بوابة «ستيفين» أو بوابة دمشق وهي البوابة نفسها التي دخل منها الصليبيون. كان قائد جيوش الصليبيين في القدس هو «باليان أوف إبلين» وقد شعر أنه لا معنى للمقاومة فطلب حلا سلميا بالمفاوضات وكان مستعدا لتسليم المدينة مقابل العفو عن سكانها.. لكن صلاح الدين كان يريد الثأر لأجداد جنوده الذين غرقت القدس في دمائهم.. كما أنه لم يشأ أن يحصل على مدينة مستسلمة.. كان يريدها مهزومة.. كان يريدها عنوة لا صلحا.. ليس نتيجة تسوية بل بانتصار ساحق.. وقد أقسم على ذلك.. لكن «إبلين» هدد بحرق وتخريب المسجد الأقصى وقبة الصخرة وإشعال النار في كل المقدسات الاسلامية.. وقتل 5 آلاف مسلم رهينة.. فقال له صلاح الدين: «سأكون رحيما مع قومك.. وأحفظ في الوقت نفسه قسمي.. تستسلمون كأنما أخذت المدينة عنوة.. وسأترككم تأخذون معكم ممتلكاتكم وثرواتكم.. أما الذين يستطيعون أن يفتدوا أنفسهم فسأتركهم يذهبون مقابل مبلغ معلوم.. وأما الذين لا يستطيعون شراء حريتهم فسيظلون عبيدا عندنا».. واتفق على أن تكون الفدية نحو 10 دنانير عن الرجل و5 دنانير عن المرأة.. وكان عددهم نحو 20 ألف شخص. يعترف الباحث الأمريكي «جيمس رستون» في كتابه الذي صدر مؤخرا: إنه على عكس ما فعله الصليبيون سنة 1099 ما كانت هناك أحداث قتل وفوضى.. وقد أقفلت أبواب كنيسة القيامة.. وكان بين مستشاري صلاح الدين متطرفون أرادوا تخريبها.. وكانت وجهة نظرهم أنه لو خربت الكنيسة وهدمت قبتها ونشبت قبورها وحرثت أرضها ضاعت حجة الصليبيين في العودة الى احتلال القدس من جديد.. لكن.. لم تجد هذه الفكرة آذانا صاغية.. وانتصر العقلاء الذين كانوا يرون أن هدم الكنيسة.. أقدس مكان عند المسيحيين سيزيد من كراهيتهم للاسلام والمسلمين.. ويزيد من رغبتهم في العودة للانتقام.. وكان رأي صلاح الدين: إن المسلم الصالح هو الذي يحترم الديانات الأخرى وأماكنها المقدسة. ووجد الفاتحون أن مسجد قبة الصخرة قد تحول الى كنيسة.. وأخفوها بالرخام.. فلم تعد ظاهرة.. وبنوا عليها قبة صغيرة.. نقشوها برسوم للحيوانات ومنها الخنزير.. وكان أول ما فعله صلاح الدين إعادة قبة الصخرة الى ما كانت عليه.. وأنزل عنها الصليب المعدني الضخم المذهب وأرسل الى الخليفة في بغداد وكان صلاح الدين لا يزال يدين له بالولاء.. أما المسجد الأقصى فكان قد تحول الى مقر اداري واصطبل لخيل فرسان المعبد.. وقام المسلمون بتنظيفه ورشوه بماء الورد الذي جلبته معها من دمشق شقيقة صلاح الدين.. وهيأوه بذلك لاقامة الصلوات فيه من جديد.. وكان المسلمون قد وجدوا أن محراب الجامع قد تحول الى مستراح ومكان للغائط.. إن ذلك بالضبط ما فعله فرسان «نابليون بونابرت» عندما دخل الأزهر الشريف لقمع ثورة القاهرة.. وكأنها عادة غربية للتعامل مع المقدسات الاسلامية.. وقد اضطر جنود صلاح الدين الى ازالة الجدران الحجرية التي بنيت من حول المسجد الأقصى.. وتنظيفه أيضا وتعريضه للنور والهواء. وأمر صلاح الدين برصفه ببلاط كتب عليه اسمه.. وكان نص ما كتب عليه: «بسم الله الرحمن الرحيم أمر بإصلاح هذا المحراب المبارك والمسجد الأقصى الذي أسس على التقوى عبد الله وسلطانه الملك الناصر صلاح الدين بعد أن فتح الله على يديه المدينة في شهر رجب سنة 583 (هجرية) ويسأل السلطان الله سبحانه رحمته ورضاه وأن يغفر له ذنوبه وخطاياه برحمته وعفوه». وجرت إزالة الصور والتماثيل من المسجد بما في ذلك صور الخنازير.. وجلب إليه منبر حلبي من الخشب الجميل كان قد صنع في عام 1168 بأمر من الخليفة نور الدين زنكي منقولا من دمشق.. ووضع المسلمون المصاحف.. وانتشرت رائحة البخور.. وبدأ المؤذنون ينادون للصلاة من على سطح المسجد بدلا من قرع الأجراس وتصاعدت من جديد أصوات القراء الجميلة بسور القرآن الكريم. كان قد مضى أسبوع على فتح القدس عندما تدفق عليها الوجوه والأعيان والأمراء والشيوخ من سائر أنحاء مملكة صلاح الدين في مصر والشام والعراق.. وكان الجميع ينتظرون قرار صلاح الدين بشأن من سيلقي خطبة الجمعة الأولى بالمسجد الأقصى بعد استعادته.. ذلك لأن خطيب الجمعة في هذه المناسبة السياسية.. التاريخية يحوطه تشريف كبير من جانب السلطان.. وهو ما جعل العلماء بالقدس والقادمين اليها يتنافسون للفوز بهذا التقدير.. بل إن بعضهم قدم ما يشبه المسودة للخطبة آملين أن يقع الاختيار عليهم.. لكن صلاح الدين صرف نظره عن الشيوخ وعمد الى اختيار شاب في الثانية والثلاثين من العمر.. معروف بذكائه ولباقته الخطابية هو محيي الدين ابن الزكي.. كان قاضيا في حلب.. وعينه قاضيا في دمشق. صعد محيي الدين الى المنبر بالجبة السوداء التي أهداها له الخليفة العباسي في بغداد.. وراح يشيد بذلك النصر التاريخي في بلاغة راقية.. مازجا البشرى بالحمد لله والشكر له على النصر.. مستحضرا الآيات القرآنية والأشعار والتاريخ النبوي.. قائلا: «.. إياكم أن يستذلكم الشيطان.. فيخيل اليكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وبخيولكم الجياد وبجلدكم في موقع الجلاد.. والله وما النصر إلا من عند الله.. إن الله عزيز حكيم..».. ثم شرح أهمية القدس في الاسلام وذكر مستمعيه بقداسة المدينة إذ أن النبي وجه المسلمين إليها في الصلاة في أول الاسلام فكانت أولى القبلتين.. وشبه المدينة المقدسة بالإبل الضالة التي أسيء اليها من جانب الغزاة لما يقرب من مئة سنة حتى استعيدت بفضل الله وتوفيقه: «أبشروا برضوان الله.. وتطهير البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه.. ثم أوضح الموقف الاسلامي من المسيح.. النبي.. المشرف.. والمحبب الى الله.. ثم تحدث عن الجهاد »فهو أفضل عبادتكم وأشرف عادتكم.. انصروا الله ينصركم.. واذكروا الله يذكركم.. اشكروا الله يزيدكم».. وأنهى خطبته بالثناء على صلاح الدين.. قائلا: «سيفك القاطع وشهابك اللامع والمحامي عن دينك المدافع.. جامع كلمة الايمان.. صلاح الدنيا والدين.. سلطان الاسلام والمسلمين.. مطهر البيت المقدس.. محيي دولة أمير المؤمنين». استغرق جلاء الصليبيين عن القدس زهاء أربعين يوما.. وعلى كل باب من أبواب المدينة وقف أمير يستوفي من الخارجين شروط الحرية.. واستطاع البعض الهروب عبر الأسوار بالحبال.. واختبأ البعض الآخر في صناديق البضائع.. وتخفى فريق ثالث في ملابس عسكريين مسلمين.. ولكن غالبية الصليبيين اضطروا لبيع ما يملكونه من أجل دفع الفدية.. وجرد هؤلاء الكنائس من الأقمشة الثمينة والأشياء القيمة لاستعمالها في الفداء.. على أن بعض رجال الدين في الكنائس جمعوا لأنفسهم ما فيها من ثروات مثل البطريك «إيراكليوس» الذي يصفه مؤرخو الحملات الصليبية بالمثال الأسوأ.. فقد استلب لنفسه خزائن كنيسته وجرد جدرانها من صفائح الذهب.. ورغم ذلك كله بقى نحو 5 آلاف شخص عاجزين عن دفع الفدية.. أما المسيحيون الأرثوذكس فقد طلبوا من صلاح الدين أن يبقوا في المدينة فاذن لهم بذلك ولم يدفعوا فدية.. ولم يبق صلاح الدين زوجات الأمراء والملوك في الأسر.. فقد كان باعتراف المؤرخين الغربيين معروفا بالشفقة على النساء. ويقول هؤلاء المؤرخون أيضا: لقد سلك هو وجنوده سلوكا مثاليا في القدس مع غير المسلمين.. وبسبب حمايته لكنيسة القيامة وباقي المقدسات المسيحية أصبح مثالا لتسامحه مع أنصار الأديان الأخرى.. وقد اعتبرت أفعاله نموذجا على كيفية سلوك المسلم الصالح.. فبسبب عفوه ورحمته تجاه أعدائه سيظل مشهورا الى الأبد باللطف والتسامح والحكمة وقبل ذلك الجرأة والشجاعة والشهامة. ـ كاتب مصري

Email