لوجه الله .. أم لحساب أميركا ؟! ـ بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 7 شعبان 1423 هـ الموافق 13 أكتوبر 2002 في الوقت الذي يسود الصمت في الشارع العربي، وتبدو الجماهير وكأنها قد فقدت القدرة والرغبة في التعبير عن غضبها بفعل عوامل كثيرة منها الادراك بأن الأنظمة العربية قد وصلت الى حالة من العجز لا تقوى معها على فعل شيء مهما كانت الضغوط، ومنها أن سنوات القهر قد سلبت الحيوية من الشارع السياسي، ومنها رعب الأنظمة من حركة الجماهير ورهانها النهائي على (الحل الأميركي) الذي أعطته 99% من أوراق الضغط التي تملكها وأعطته معها مئة في المئة من القرار المستقل القادر على التعامل مع الواقع الصعب والتحديات الهائلة. حالة العجز الرسمي والصمت الشعبي التي تسود العالم العربي، تقابلها حالة مختلفة في أوروبا التي تتخذ شعوبها موقفا مناهضا للعدوان الأميركي المرتقب على العراق لأسباب عديدة منها كراهية الحرب التي عانوا منها طوال القرن الماضي أكثر من غيرهم، ومنها ادانتهم لمحاولة التفرد الأميركي بحكم العالم بكل مايمثله ذلك من تهديد للمصالح الأوروبية، ومنها الخوف من سيطرة أميركية كاملة على منابع البترول تعطي أميركا ورقة هائلة للضغط في حرب اقتصادية تدور رحاها وتريد أميركا أن تكون نتائجها انعكاسا لقوتها العسكرية المتفوقة على الجميع. واذا كانت حكومة المستشار الألماني شرويدر قد اتخذت الموقف الأكثر تطرفا في مناهضة السياسة الأميركية بمعارضتها الحاسمة للعدوان على العراق ورفضها المشاركة فيه حتى لو نجحت الولايات المتحدة في استصدار قرار من مجلس الأمن لتأييدها.. فان فرنسا مازالت ـ بحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن ـ هي الصوت المؤثر مع روسيا في التحرك الدولي لمنع العدوان الأميركي، ومازالت الدولتان تعارضان السياسة الأميركية وتقاومان ضغوط واشنطن لاسقاط هذه المعارضة. وقد عكست نتائج الانتخابات الألمانية تأييد الشعب لسياسة الحكومة الألمانية وكان ذلك ضربة للادارة الأميركية التي ألقت بكل ثقلها لاسقاط المستشار الألماني في هذه الانتخابات. ويتمتع شيراك بتأييد كبير لسياسته المستقلة، بينما على الجانب الآخر يواجه رئيس الوزراء البريطاني بلير المتاعب حتى داخل حزبه من المعارضين لموقف (التابع الذليل) الذي يتخذه في تأييده لكل سياسات واشنطن رغم معارضة الشعب البريطاني الذي انطلق في أضخم مظاهرة شعبية شهدتها بريطانيا منذ نصف قرن تندد بالسياسة الأميركية وتدين موقف بلير وترفض الحرب التي ستقتل الملايين من أجل السيطرة على البترول! ومن هنا تبدو المهمة المطلوبة ـ عربيا واسلاميا ـ هي بناء أقوى تحالف لمعارضة العدوان الأميركي (والاسرائيلي طبعا) الموجه ضد الأمتين العربية والاسلامية. ومن هنا ـ وفي ظل العجز العربي الرسمي ـ يبدو التحرك الشعبي أمرا ضروريا لمواصلة التحرك الهائل في الشارع الأوروبي ضد الحرب، ولتشديد الضغط على الحكومات الأوروبية لتتمسك من تناهض العدوانية الأميركية منها بموقفها، ولمحاولة تعديل المواقف السيئة مثل موقف رئيس الحكومة البريطانية بلير ورئيس الحكومة الايطالية العنصري بيرلسكوني الذي يواجه حركة شعبية متنامية ضد سياساته المؤيدة للموقف الأميركي في قضية العراق. وعلى الجانب الآخر يصبح طبيعيا أن تتركز جهود واشنطن على تخريب كل ذلك، وألا تكتفي بالضغوط السياسية والاقتصادية على الحكومات الأوروبية، بل تحاول الوصول الى الرأى العام هناك لتعديل موقفه المناهض للحرب، وذلك بتضخيم الخطر العراقي المزعوم (بلير زعم أن العراق قادر على ضرب بريطانيا)! أو باعادة انتاج الأسطوانة الأميركية عن الارهاب وربطه بالعرب والمسلمين، أو بضرب أي محاولة لبناء التحالف العربي الاسلامي الشعبي مع شعوب أوروبا لمنع الحرب وادانة العدوان الأميركي ـ الاسرائيلي. وفي هذا الاطار ينبغي أن نضع بعد الأحداث التي تحيطها الشبهات، وما يرافقها من تحركات اعلامية لا تبدو بعيدة عن هذه المخططات التي بدأت من قبل أحداث 11 سبتمبر وتصاعدت بعده ومعها آلاف من علامات الاستفهام. فما معنى أن يكون الموقف الفرنسي هو العامل الأساسي في محاولة منع العدوان الأميركي على العراق ووقف اندفاع واشنطن نحو تدمير العراق واحتلال منابع البترول واعادة رسم خريطة المنطقة.. ثم نفاجأ بانفجار ناقلة النفط الفرنسية ليمبورج قبالة ساحل اليمن الشقيق في حادث نفت صنعاء أن يكون مدبرا فيما قالت المصادر الفرنسية انه عمل ارهابي، فاذا ببيان يخرج من لندن (!!) ويذيعه من يسمي نفسه زعيم جماعة (أنصار الشريعة) يعلن فيه تبني منظمة اسلامية يمنية اسماها (جيش عدن ابين الاسلامي) للعملية!! ويبرر الموقف بأن ناقلة البترول الفرنسية لم تكن المستهدفة بل فرقاطة أميركية موجودة في المنطقة ثم يضيف: لكن لا مشكلة.. فالكفر كله ملة واحدة!! يحدث ذلك في نفس اليوم الذي كان البرلمان الفرنسي يشهد واحدة من أعنف جلساته أجمعت فيها كل الأحزاب الفرنسية على معارضة السياسة الأميركية تجاه العراق، وعلى انتقاد نية الولايات المتحدة شن حرب ضده، وطالبت فيها بعض الأحزاب باستخدام فرنسا (الفيتو) ضد مشروع القرار الأميركي الذي تحاول به واشنطن انتزاع موافقة عالمية على عدوانها المرتقب!! ومع ذلك فالمجاهد الذي منحته الأجهزة البريطانية المأوى والحماية منذ سنوات ليمارس (جهاده) ضد الدول العربية والاسلامية يقول لنا: لا مشكلة.. فالكفر كله واحد! بل ألف مشكلة يا سيدي.. فحماية العراق والأمة العربية من العدوان الأميركي المرتقب، ووقف حرب الابادة الاسرائيلية ـ الأميركية ضد الشعب الفلسطيني هي وحدها المدى الذي ينبغي أن يصطف الجميع حوله. ومئات الألوف الذين خرجوا يتظاهرون في شوارع لندن ضد الحرب ليسوا أعداء لنا بل حلفاء، ومئات الألوف الذين خرجوا في يوم واحد يتظاهرون في مئة مدينة ايطالية ضد الحرب هم معنا في معركة واحدة، وهي ليست معركة ضد الكفر بل معركة ضد العدوان الأميركي ـ الاسرائيلي ومن أجل الحرية وكرامة الانسان. واذا صح أن الهجوم على ناقلة البترول الفرنسية كان مدبرا فهو جريمة في حق العرب والمسلمين ـ وليس جهادا في سبيل الله، بل جهاد في صف أميركا ليساعدها على الخروج من أزمتها وتصعيد عدوانها على العرب والمسلمين. وتزداد الشبهات حين تدخل قناة (الجزيرة) التلفزيونية وعلى الخط في الوقت المناسب (!!) فتبث واحدا من سلسلة تسجيلاتها مع زعماء (القاعدة).. وهذه المرة كان التسجيل مع أيمن الظواهري الذي يقال إنه الرجل الثاني في التنظيم ليكرر التهديدات ضد الأميركان (وهذا مفهوم) ولكنه يضيف هنا التهديد لألمانيا وفرنسا مؤكدا أنه (اذا كانت الرسائل غير كافية فنحن مستعدون ـ بعون الله ـ لزيادتها). لماذا فرنسا وألمانيا الآن بالذات؟ وهل الرسائل السابقة هي قتل السائحين الفرنسيين في باكستان، وقتل السائحين الألمان في تونس؟ وهل الرسائل الاضافية هي ماحدث على سواحل اليمن؟! ان هذا ليس جهادا في سبيل الله، بل هو خدمة للمصالح الأميركية حتى لو كان أصحابه لا يدرون مايفعلون. الجهاد في سبيل الله خاضه ابناؤنا في جنوب لبنان ونصرهم الله بعد تضحيات جسيمة، والجهاد في سبيل الله يجري على أرض فلسطين في مواجهة السفاحين الاسرائيليين المدعومين من أميركا. والجهاد في سبيل الله أن نبني القوة اللازمة لمواجهة العدوان على الأرض العربية، وأن نقيم أوسع تحالف اسلامي، وأن نسعى الى أكبر دعم عالمي لكفاحنا العادل في مواجهة امبراطورية الشر الكبرى التي تقودها الادارة اليمينية في واشنطن الى صدام مع الانسانية كلها. لقد نجحت أجهزة الدعاية الأميركية بمعونة من فضائيات وصحف عربية واسلامية ـ في أن تجعل (ابن لادن) هو وجه الاسلام والمعبر عنه لدى الرأى العام الغربي ليمتد الطريق للحرب (الصليبية) التي أعلنها الرئيس الأميركي ضد العرب والمسلمين باعتبارهم المسئولين عن ارهاب ابن لادن. ونجحت أجهزة الدعاية الأميركية ـ بمساعدة عربية للأسف الشديد ـ في أن تطمس الصفحات القديمة التي تقول إن أميركا ـ وليس العرب أو المسلمين ـ هي المسئولة عن خلق هذه الظاهرة.. هي التي جندت الشباب العربي المسلم لـ (الجهاد) في افغانستان، حينما كان الجهاد هناك فريضة أميركية تحقق مصالح واشنطن ضد السوفييت، وهي التي دربتهم ومولتهم، وهي التي ضغطت على الحكومات العربية والاسلامية لتسهيل المهمة، وهي التي أرسلت هؤلاء (المجاهدين) بعد نهاية مهمتهم الأميركية الى أوطانهم ليعيثوا فيها ارهابا، وهي التي وفرت لهم الملجأ والمأوى حين كانت الحكومات العربية والاسلامية تطاردهم، وهي الآن تجعلهم الوجه المعبر عن العرب والمسلمين لكي تبرر حملتها الصليبية الجديدة.. وهكذا أعيد انتاج (ابن لادن) ليصبح الخيار المطروح هو: مع ابن لادن أم مع أميركا؟ وهكذا خرجت تسجيلات مشبوهة يظهر فيها من قيل انهم قادة لتنظيم (القاعدة) يوزعون التهديدات على العالم كله وهم يرتدون الكوفية الفلسطينية بينما الانتفاضة تقدم الشهداء الحقيقيين وتواجه ـ وحدها ـ معركة كرامة العرب وحقوقهم المهدرة. وهكذا تحتفي الفضائيات العربية الآن بتسجيلات مشبوهة تهدد بنسف المصالح الفرنسية والألمانية لأن للدولتين موقفا مناهضا للعدوان الأميركي على الأمة العربية!! ويخرج من يتبنى نسف ناقلة البترول الفرنسية باعتباره جهادا في سبيل الله، ومن يدعونا لمحاربة العالم كله لأن.. الكفر كله ملة واحدة!! و.. اذا لم يكن مثل هذا (الجنون) موجودا، فكيف ستبرر الولايات المتحدة جرائمها ضد العرب والمسلمين.. ماسبق منها وماسيأتي! ـ نائب رئيس تحرير «اخبار اليوم» المصرية

Email