قراءة جديدة في وثيقة قديمة ـ بقلم: محمد مشموشي

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 6 شعبان 1423 هـ الموافق 12 أكتوبر 2002 الوثيقة تعود الى العام 1996، وهي تحت عنوان يحمل دلالات «وقفة نظيفة: استراتيجية جديدة لتأمين الوضع (ٌٍفمْ مو هَيْكم ُْن ٌّهمفْ مَ ء : ًفمْق َفمٌك ء). وضعها لـ «معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة ـ القدس، واشنطن» عدد من الباحثين الأميركيين والاسرائيليين من بينهم، بل وفي مقدمتهم، شخصيتان تتوليان الآن موقعين بالغي الأهمية في دائرة صنع القرار لدى الادارة الأميركية الحالية، هما ريتشارد بيرل رئيس المكتب السياسي في وزارة الدفاع والمعتبر أحد أهم المفكرين الاستراتيجيين في الادارة، ودوغلاس فيث نائب وزير الدفاع والذي يحتل المنصب الثالث في هيكلية الكونغرس. أما الغرض من الوثيقة، يومها، فكان تقديم النصح لرئيس وزراء اسرائيل الجديد في ذلك الحين بنيامين نتانياهو حول الخطوات الأولى له بعد تسلمه الحكم. وفي حين أن نتانياهو نفذ، بصورة حرفية غالبا، ما ورد في الوثيقة، فان واضعيها ـ كما قال عكيفا ألدار في صحيفة «هآرتس» أخيرا ـ لم يكونوا يظنون ان ورقة عملهم هذه، بما فيها من خطط اسرائيلية بينها السعي لاعادة العرش الهاشمي الى العراق، ستلقي الضوء بعد ست سنوات على السياسات التي تنتهجها الدولة العظمى الوحيدة في العالم (الولايات المتحدة) في المنطقة. أكثر من ذلك، فالوثيقة تتحدث صراحة عن الغاء عملية التسوية الشاملة للصراع العربي ـ الاسرائيلي التي بدأت في مؤتمر مدريد، والعودة الى احتلال المناطق الفلسطينية التي انسحبت منها اسرائيل جزئيا أو كليا، وتطويق سوريا من تركيا (عبر تحالف تل أبيب مع أنقرة) ومن العراق (عبر اعادة العرش الهاشمي اليه) ومن الأردن (عبر مساعدته اقتصاديا لتخليصه من الاعتماد على العراق) ومن لبنان (عبر استخدام القوى المسيحية المعارضة). وباختصار فهي، كما قال ألدار في مقاله يوم الأربعاء الماضي، تجعل من فلسطين اسرائيل ومن الأردن فلسطين ومن العراق مملكة هاشمية. ولا يبدو، من زاوية الوضع على الأرض منذ ذلك التاريخ ومن السياسات المتبعة سواء من قبل واشنطن او من قبل تل ابيب، انها مجرد نصائح أو أفكار أو حبر على ورق. انها خطة استراتيجية موضوعة في التنفيذ الفعلي، وان يكن بصورة تدريجية تبطئ الخطى حينا وتسرعها حينا آخر. في الوثيقة، التي تحمل بين سطورها اشارة شظش ، أي نص، لاستخدامها في خطابات نتانياهو، أكثر من تفسير للسياسات التي انتهجها رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق في الفترة التي تولى فيها الحكم، وأكثر من تفسير لسياسات الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش من القضية الفلسطينية ومن العالم العربي، وطبعا لسياسات حليفه ارييل شارون، ليس بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ فقط وانما قبلها ايضا. بل ان الوثيقة الموجهة لليكودي نتانياهو، والتي وصفت الصهيونية العمالية (صهيونية حزب العمل) بأنها شكلت معضلة كبيرة للحركة الصهيونية على مدى 70 عاما، ورفضت العملية السلمية (تضعها الوثيقة بين قوسين تشكيكا فيها) لأنها قامت على نظرية الشرق الأوسط الجديد التي لا معنى لها، تبدو الآن في حال أفضل بكثير مما كانت قبل ست سنوات. لماذا؟، لأن ايديولوجية الحزبين الرئيسيين في الدولة العبرية ـ الليكود والعمل ـ باتت ايديولوجية واحدة نظريا وعمليا، على مدى العامين الماضيين، في مواجهة كل من القضية الفلسطينية والعالم العربي. بعض العناوين، في الوثيقة القديمة، قد تكون كافية لتوضيح حقيقة السياسات الجديدة: أولا ـ في رؤية جديدة للسلام: 1 ـ ان نظرية «الأرض مقابل السلام» وضعت اسرائيل في موقع تراجعي ثقافي، اقتصادي، دبلوماسي، وعسكري. على الحكومة (الاسرائيلية) الجديدة ان تتبنى القيم والتقاليد الغربية، وعلى مثل هذه الرؤية، التي ستلقى قبولا جيدا في الولايات المتحدة الأميركية، ان تقوم على السلام مقابل السلام ، السلام من خلال القوة ، والاعتماد على النفس عبر ميزان القوة. 2 ـ ينبغي تبني استراتيجة جديدة لاستعادة الامساك بالمبادرة. فنحن، في اسرائيل، وقد سعينا طيلة اربع سنوات لسلام يقوم على شرق أوسط جديد، لا نستطيع أن نلعب خارجيا دور الأبرياء في عالم ليس بريئا.. فالتضارب المعنوي بين العمل على اقامة دولة يهودية والرغبة بازالتها عبر تجارة الأرض مقابل السلام لن يضمن السلام الآن. ان دعوانا حول الأرض ـ تلك التي حفظناها أملا لألفي سنة ـ هي دعوى مشروعة ونبيلة، والوصول اليها ليس في قدرتنا وحدنا بغض النظر عما يمكن أن نفعله احاديا من أجل صنع السلام. اذن، فالاساس الصلب للمستقبل يقوم فقط على القبول العربي غير المشروط بحقوقنا، وبخاصة نظرا لمساحات الأرض التي يمتلكونها، من خلال السلام مقابل السلام. 3 ـ على اسرائيل أن تستمر في المفاوضات، ولكن باعتبارها وسيلة لا نهاية، من اجل المحافظة على مثالياتها (الغربية واليهودية) وتأكيد صمودها الوطني. وبذلك فقط يمكنها تحدي الدول البوليسية، تحقيق الالتزام بالاتفاقات، والاصرار على الحدود الدنيا من المحاسبة. هل فعل نتانياهو، في فترة حكمه، سوى أنه التزم تلك النصيحة وبالحرف تقريبا؟! ، وهل يعطي شارون منذ وصوله الى السلطة، قبل عامين، الا الدليل تلو الدليل على أنه يطبق تلك السياسة التي وصل بها في الآونة الأخيرة الى حد اعلانه موت اتفاق أوسلو رسميا وبصورة كاملة ونهائية، اضافة الى تدميره السلطة الفلسطينية وبنيتها التحتية، ولكن هذه المرة بموافقة من حزب العمل الاسرائيلي ومن الادارة الأميركية؟. ثانيا ـ في توفير الأمن على الحدود الشمالية: 1 ـ تنطلق الوثيقة من أن سوريا تتحدى اسرائيل من الأراضي اللبنانية. وأن الرؤية الفاعلة التي يمكن ان يتحمس لها الأميركيون هي ان تمسك اسرائيل بالمبادرة الاستراتيجية على حدودها الشمالية عبر الاشتباك مع كل من حزب الله وسوريا وايران. 2 ـ شل السلوك السوري من خلال اعادة تأكيد ان الأراضي السورية ليست محصنة من عواقب الهجمات التي تنطلق من لبنان ضد اسرائيل. وذلك عبر ضرب الأهداف العسكرية السورية في لبنان، واذا لم يكن ذلك كافيا، عبر ضرب أهداف مختارة في الأراضي السورية نفسها. 3 ـ استغلال هذا الوضع لاعادة تذكير العالم بممارسات سوريا في حقل الأرهاب وفي انتاج وتطوير أسلحة الدمار الشامل، وبأنها تواصل احتلال لبنان خلافا لاتفاق الطائف في العام 1989 بما يشكل استعمارا مباشرا له، وبأن وادي البقاع تحول في مجال انتاج وتوزيع المخدرات الى ما يشبه وادي سيليكون بالنسبة لانتاج وتوزيع اجهزة وبرامج الكمبيوتر الخ.. 4 ـ بالنظر لطبيعة النظام السوري، يصبح طبيعيا وحتى أخلاقيا تخلي اسرائيل عن شعار السلام الشامل وانتقالها الى مرحلة احتواء سوريا ولفت النظر الى أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها ورفض صيغة الأرض في مقابل السلام بالنسبة لمرتفعات الجولان. .. ومرة أخرى فلم تفعل حكومة نتانياهو، وكذلك حكومة شارون الحالية، ودائما بموافقة واشنطن، سوى تجسيد النصائح في الوثيقة سياسات مطبقة بحرفيتها تقريبا. استهداف المواقع السورية في الأراضي اللبنانية لم يتوقف الا بعد نجاح المقاومة اللبنانية في طرد القوات الأسرائيلية من الجنوب، أما الحملة على سوريا في لبنان ـ بما في ذلك استخدام القوى المسيحية المعارضة لهذا الغرض ـ فلا تزال مستمرة وآخر وجوهها قانون محاسبة سوريا للعام 2002 الذي يناقشه الكونغرس منذ أسابيع. ثالثا ـ في العودة الى استراتيجية ميزان القوى التقليدي: 1 ـ على اسرائيل ان تصوغ بيئتها الاستراتيجية بالتعاون مع تركيا والاردن، من خلال اضعاف واحتواء وحتى صد سوريا. 2 ـ هذا الجهد يمكن ان يتركز على العمل من اجل اسقاط صدام حسين من السلطة (وهو في حد ذاته هدف استراتيجي لاسرائيل) كوسيلة لضرب وافشال طموحات سوريا الأقليمية. 3 ـ ان المحور الطبيعي الذي يهدد دمشق هو الذي يمكن تشكيله من اسرائيل من ناحية، ومن العراق وتركيا من ناحية ثانية، ومن الأردن في الوسط، والذي يقطع عمليا صلات سوريا بالجزيرة العربية. ان من شأن مثل هذا المحور، الذي ينبغي على اسرائيل ان تعمل له، أن يشكل المقدمة لاعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وبالتالي لتهديد وحدة الاراضي السورية. 4 ـ لأن مستقبل العراق يؤثر جوهريا على الميزان الاستراتيجي في الشرق الأوسط، فسيكون مفهوما ان لأسرائيل مصلحة في دعم الهاشميين الذين يسعون لاعادة صياغة العراق واستعادة الحكم فيه. في ظل ذلك، سيكون مهما (بالنسبة لنتانياهو يومها) ان يقوم بزيارة الأردن كرئيس لوزراء اسرائيل حتى قبل أن يزور واشنطن، وان يدعم الملك حسين من خلال اجراءات أمنية ملموسة ومن خلال ممارسة نفوذه لدى الادارة الأميركية لمساعدة الأردن اقتصاديا... واشغال سوريا، عن ذلك كله، باستخدام عناصر لبنانية معارضة في الاخلال بالسيطرة السورية على لبنان. رابعا ـ تغيير طبيعة العلاقات مع الفلسطينيين: تتحدث الوثيقة في هذا المجال عن فرصة لدى اسرائيل لأقامة علاقة جديدة بينها وبين الفلسطينيين، من خلال العودة الى حماية شوارعها عبر ملاحقة ساخنة في المناطق التي تخضع لسيطرتهم، اعتمادا على ان الأميركيين سيؤيدون مثل هذا المسلك العادل. (اعادة احتلال المناطق الفلسطينية والملاحقة الساخنة لرجال المقاومة ولأفراد السلطة على امتداد العامين الماضيين) في هذا الصدد، وبدعوى ان الاتفاقات تحتاج الى تطبيق على الجانبين معا، لا بد من اقفال بيت الشرق في القدس وانهاء العمليات التي يقوم بها جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني في المدينة. على الطريق، يمكن للولايات المتحدة واسرائيل ان تنشئا لجنة مراقبة مشتركة للبحث دوريا في ما اذا كانت منظمة التحرير تلبي الحدود الدنيا مما هو مطلوب منها في مجال تنفيذ الاتفاقات وامتلاك السلطة وتحمل المسئولية وحقوق الأنسان والمحاسبة. (موضوع اصلاح السلطة والتخلي عن رئيسها ياسر عرفات، المطروح منذ شهور من قبل كل من اسرائيل والولايات المتحدة) خامسا ـ بدء علاقة أميركية ـ اسرائيلية جديدة: في الوثيقة، في هذا الاطار، أكثر من مؤشر على أن ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في السياسة الأميركية لا يختلف بشيء عما قبلها، خصوصا في ما يتعلق بتدخل الولايات المتحدة لحل المشكلات الناجمة عن عملية التسوية وعن مبدأ الارض في مقابل السلام ، ولكن اساسا في ما يتعلق باغراء الأنظمة العربية للمشاركة فيها سواء بالمال او باعتراف اسرائيل بأخطائها او بتوفير مدخل لبعض هذه الأنظمة في الحصول على الأسلحة الأميركية المتطورة. لكن فيها، اكثر من ذلك، نصيحة لاسرائيل باعتماد تكتيك الخروج من دائرة المساعدة المادية الأميركية عبر ما يسمى بـ «الاستقلال المالي الاسرائيلي عنها»، وللدخول في تعاون وثيق مع الولايات المتحدة في مشروع الدفاع المضاد للصواريخ. مثل هذا التكتيك، تقول الوثيقة، ليس من شأنه فقط توسيع قاعدة الدعم لاسرائيل بين أعضاء الكونغرس الذين ربما لا يعرفون الكثير عنها بل سيكون عونا لأسرائيل في جهودها لنقل السفارة الأميركية من تل ابيب الى القدس. (هل من قبيل التضخيم الظن بأن قرار الكونغرس الأخير حول نقل السفارة الى القدس، برغم توقيع بوش عليه مع بعض التحفظات، هو احدى نتائج هذه السياسة؟! ) الأهم، أن الوثيقة تختتم بعنوان فرعي عن تجاوز الصراع العربي ـ الاسرائيلي تقول فيه بصراحة تامة ان اسرائيل ذات توازن اقتصادي، وحرة، وقوية، وصحية داخليا، لن تكون مضطرة للتعاطي بالاسلوب ذاته مستقبلا مع الصراع العربي ـ الاسرائيلي، بل ستكون قادرة على تجاوزه. ما يبقى هو أن الوثيقة قديمة لأنها عمرها ست سنوات، وأنها موجهة الى الحكومة في اسرائيل بطلب من معهد دراسات له مركزان في القدس وفي واشنطن، الا ان ما تنفذه كل من اسرائيل والولايات لا يبدو أنه يخرج ولو شعرة واحدة عما ورد فيها. وما يبقى بعدها هو أنه ربما لم يقرأها أحد من العرب عندما صدرت في العام 1996، أو أن أحدا منهم ربما لم يلحظ ان من بين واضعيها مخططين أساسيين لسياسة الادارة الأميركية الحالية، أو ان ما فعله نتانياهو في فترة توليه السلطة كان تطبيقا حرفيا لها. هل نقرأ الآن، لنفهم ما يحدث على الأقل، ان لم يكن لمحاولة وقف العواصف التي بدأت تهب فعلا على المنطقة؟!. ـ كاتب لبناني

Email