شارون .. وشاتيون ! ـ بقلم: عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 6 شعبان 1423 هـ الموافق 12 أكتوبر 2002 في تلك البقعة العتيقة المتدينة تشم رائحة البخور والعطور والخطر.. وتبوح الأصابع والعيون بالعتاب والترقب والتحدي.. في تلك البقعة يحشر المؤمنون برسالات السماء الثلاث أنفسهم وقد التهبت أعصابهم وأصبحت جاهزة للانفلات في أي وقت.. هنا تسمع أجراس كنيسة القيامة وهي تختلط بنداء المؤذنين للصلاة في جامع عمر بن الخطاب القريب منها.. وعلى الأرض التي مشى عليها عيسى عليه السلام صعد محمد رسول الله الى السماء عند قبة الصخرة الملاصقة للمسجد الأقصى الذي ينوح اليهود عند جداره الغربي ليدسوا أدعيتهم بين حجارته وقد تسرب اليهم اعتقاد يصعب التنازل عنه أنه حائط المبكى.. آخر ما تبقى من الهيكل.. ولا تزيد هذه البقعة عن ربع كيلو متر مربع.. لكنها شربت من الدماء والأحزان ما يكفي لأن يفيض أكثر أنهار العالم بخلا وجفافا. هذه البقعة الخانقة الضيقة هي القدس التي يتخيلها ويقصدها المسلمون والمسيحيون واليهود.. لا أكثر.. ولا أقل.. وقد كانت مشاعرهم العميقة تجاهها هي التي جعلت غريزة القتال تسخن وتفور في دمائهم على مدى قرون طويلة.. وجعلت تجار الحروب وسماسرة السياسة يستغلونها لتظل السيوف لامعة.. والمدافع ملتهبة.. والأعصاب مشدودة.. والعيون شاخصة للسماء طالبة العون والمدد.. فالكل يحارب باسم الله.. والكل يقاتل في سبيله.. والكل ينتظر دعمه وتأييده.. وفي الفترات التي ساد فيها السلام والهدوء كانت النار كامنة تحت رماد في انتظار من ينفخ فيها ويؤججها. إن العالم اليوم يستعيد ذاكرة الحروب الصليبية.. ذلك الجنون الذي أطلقه البابا أوربان الثاني باسم الدين في عام 1095 فالصحف ومحطات التليفزيون لا تكف ـ هذه الايام ـ عن إهانة الاسلام ووصفه بما لا يجوز.. وبما لا يليق.. الكراهية والعدوانية والرجعية والعبودية.. وهي تحرض على نبذ المسلمين وقتالهم وفرض الوصاية عليهم حتى في داخل بلادهم.. إن ذلك بمثابة تمهيد الجو والأرض أمام الطائرات لتضرب وتدمر.. والمدرعات لتغزو وتسيطر.. والقوى الاقتصادية لتنهب وتغرف.. ولو كانت الحروب الصليبية قد استهدفت القدس شعارا لتقيم ما أسمته مملكة أورشليم فإنها كانت في الحقيقة حملات سياسية منظمة للسيطرة على المنطقة وفرض إرادة مستعمرين أوروبيين عليها.. والتحكم في محطات التجارة الدولية الواقعة فيها.. ولو كانت الحروب الجديدة تنطلق تحت شعار مواجهة الإرهاب الإسلامي فإنها في الحقيقة تكرر السيناريو القديم.. شعار ديني يغطي أطماع اقتصادية.. هي في الحقيقة تحول المنطقة مرة أخرى الى ميدان ضرب نار يسمح لها بالسيطرة على مواردها ومواقعها والانطلاق منها الى ما هو أوسع وأرحب.. عبور البحر المتوسط الى أوروبا.. عبور المحيط الهندي الى جنوب شرقي آسيا.. ولو كانت اسرائيل وراءها نفوذها الاعلامي والسياسي هي التي تحرض على الحروب الدينية هذه المرة فإن هذه الحروب لن تجري في القدس كما جرت من قبل أيام الصليبيين القدامى.. ستجري خارجها.. لتبعد العرب عنها.. فهم سينشغلون بهذه الحروب.. ويبتعدون عن القدس التي وجدتها اسرائيل فرصة لاعلانها عاصمة موحدة وأبدية لها.. وكأن القدس قد سقطت هذه المرة بلا قتال.. سقطت بمجرد دق طبول الحرب في المنطقة.. كأن اسرائيل هي أول من نال جائزة الحرب قبل أن تبدأ. وبين الحروب الصليبية القديمة والجديدة مئات من السنين لم تنقطع خلالها ذكرى ما جرى والحلم في تكراره.. وكانت هناك إشارات ظاهرة تؤكد ذلك.. ففي 11 ديسمبر عام 1917 عندما دخل الجنرال أدموند اللنبي مدينة القدس من باب يافا ليتقبل استسلام الأتراك الذين تركوا ورائهم 400 سنة من الحكم تحدثت الصحف الأوروبية كثيرا عن ذاك الدخول باعتباره الحرب الصليبية الأخيرة.. على حد ما كتب الباحث الأمريكي جيمس رستون في كتابه الهام الذي بدأنا عرضه في الأسبوع الماضي مقاتلون في سبيل الله وقد ترجمه الدكتور رضوان السيد.. وهو يضيف: وفي يوليو عام 1920 عندما استولى الجنرال الفرنسي هنري جورو على دمشق مضى الى قبر صلاح الدين الواقع في المسجد الكبير وخاطبه قائلا: ها قد عدنا يا صلاح الدين.. إن وجودي هنا يعني انتصار للصليب على الهلال.. وعلى مدى القرون الماضية ظلت قلعة الشقيف التي بناها الصليبيون في جنوب لبنان موقعا استراتيجيا.. ونقطة ارتكاز في كل صراع يدور في الشرق الأوسط.. لذلك تغير المسيطرون عليها عدة مرات.. في عام 1982 حاصرها أرييل شارون تماما كما فعل صلاح الدين قبل تسعة قرون.. وفي عام 2000 أخلى الاسرائيليون القلعة كما فعل الصليبيون في عام 1187. وفي فلسطين المعاصرة فإن باب الوادي الذي يربط بين سهل الرملة ومدينة القدس قد اجتازه موشى ديان في عام 1967 وهو الطريق نفسه الذي سلكه ريتشارد الأول «قلب الأسد» في حملته الصليبية وكانت عام 1192. ومنذ عامين تقريبا عادت سيرة الحروب الصليبية للظهور مرة أخرى عندما أصدر البابا يوحنا بولس الثاني في ربيع عام 2000 بيان اعتذار عن سائر خطايا الكنيسة الكاثوليكية التي ارتكبت باسم الدين طوال الألفي سنة الماضية.. ووصف البابا البيان بأنه نوع من التطهر التاريخي.. وخص بالذكر الحروب الصليبية والمجازر التي ارتكبتها في حق المسلمين.. لكن بعد مرور 15 شهرا على بيان البابا جاءت سيرة الحروب الصليبية على لسان الرئيس الاميركي جورج بوش في صدد الانتقام لضحايا هجمات 11 سبتمبر.. وإن سارع مستشاريه بالاعتذار عن تلك الهفوة التي وصفت بأنها زلة لسان. وفي أعماقهم ووجدانهم وذاكرتهم يؤمن العرب بأن الاسرائيليين سيلقون نفس مصير الصليبيين.. سيرغمون على الخروج من فلسطين.. ولو كان العرب متشائمون في الحاضر فإنهم متفائلون بما سيحمله المستقبل القريب أو البعيد.. فقد استغرق الأمر ثمانين سنة حتى طردوا الصليبيين بينما لم يمض على وجود الاسرائيليين في فلسطين غير نصف قرن وقليل.. ويعرف العرب أن مشكلتهم اليوم هي نفسها مشكلتهم في بداية الحملات الصليبية.. إنهم غير منظمين.. ويسود صفوفهم الانقسام والتشرذم.. وإذا كان من الضروري ظهور شخصية مثل صلاح الدين فإن عدة قادة عرب كانوا يطمحون لانتزاع هذا الدور.. جمال عبدالناصر.. وكانت محاولته جادة ومقنعة رغم قسوة النتائج.. وصدام حسين الذي كان فاقدا للبوصلة.. فمرة تصور أن الطريق يبدأ بإيران.. ومرة تصور أنه يمر بالكويت.. وفي كل الأحوال لم يكن هناك وجها لشبه بينه وبين صلاح الدين سوى أنه ولد في البلدة نفسها تكريت في كردستان.. وعندما انهارت محادثات كامب ديفيد الفلسطينية في صيف عام 2000 خرج الناس في غزة يهتفون لياسر عرفات الذي لم يتنازل رافعين رايات الفرح بظهور صلاح الدين الفلسطيني.. وفي تلك الفترة ذكر الكاتب الاسرائيلي عاموس أوز في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز: أن شبح صلاح الدين يخيم على الشرق الأوسط.. وعندما وقعت الانتفاضة الأخيرة على أثر زيارة أرييل شارون للمسجد الأقصى ظهرت مجموعات من الفتيات أطلقت على نفسها اسم كتائب صلاح الدين اجتاحت الأزقة الضيقة في القدس الشرقية تمردا وغضبا واحتجاجا. إن افتقاد صلاح الدين كافتقاد البدر في ليلة ظلماء.. كالبحث عن قشة يتعلق بها العرب في تلك الأمواج المتلاطمة الهائجة.. كالجائع الذي يحلم برغيف خبز ساخن.. لكن صلاح الدين يصعب استنساخه إلا في شعارات المظاهرات وأبيات الشعراء.. فالعرب في حالة مخزية من التمزق.. وفي أعماقهم رغبة لقتال بعضهم البعض.. وينتظرون قنبلة نووية من السماء تفجر أعداءهم وهم منشغلون بفتاوى زواج المتعة.. وفقه مصافحة النساء. إنها الحالة نفسها التي كان عليها العرب قبل أن يصبح صلاح الدين سلطانا على سوريا ومصر.. وقد جرت الوحدة بين الدولتين بقوة السلاح.. وفي الوقت نفسه كانت هناك اتفاقيات للهدنة بينه وبين الصليبيين سمحت بعدم التعرض لقوافل التجارة بين القاهرة ودمشق.. أما شرارة الجهاد فكانت لحظة أن اعتدى الصليبيون على قافلة مصرية في شتاء 1187 ميلادية.. كانت تحمل الذهب والفضة والذخائر والحرير والتوابل وأخت صلاح الدين.. وظلت آمنة حتى وصلت الى ناحية الكرك.. فهاجمها فرسان المعبد واستولوا على خيراتها.. وأسروا من فيها.. وغضب صلاح الدين وقرر إعلان الجهاد. توغل جيش المسلمين في نهر الأردن وقد شعر بالاستفزاز.. كان عدده يزيد عن 7 آلاف فارس عندما هاجموا فرسان الصليب في منطقة تسمى عين الأقحوانة وقتلوهم انتقاما لشهداء القافلة وغنموا أسلحتهم وخيولهم وهزوا ثقتهم في أنفسهم.. كان صلاح الدين في شرقي الجليل عندما وصلته أنباء الانتصار.. جاءته الأنباء في صورة شعرية صاغها أكبر أبنائه الأفضل الذي شارك في المعركة.. شبه الأفضل الفوز في عين الاقحوانة باقتحام قلوب العذارى رائعات الجمال عسيرات المنال اللاتي لا يستطيع الفوز بهن غير أولئك الرجال الذين يستطيعون دفع مهورهن الغالية.. وهو يبلغ روائع هذا الفتح لوالده سيد الغزاة الذي سمح لنفسه أن يشرب الكأس بدلا منه بعد أن فاز بذلك بحد سيفه. اتجه صلاح الدين بقواته الرئيسية شمالا لينضم الى الفرسان المنتصرين في الاقحوانة.. وهناك انهمرت عليه كتائب العرب والأكراد من القاهرة وحلب والموصل حتى ارتفع عدد المقاتلين الى 25 ألفا.. وبينما كان صلاح الدين يجمع قواته في تلك البقعة كانت نذر السوء تسيطر على عواصم الصليبيين الأوروبية.. فقد ترك خسوف كامل للقمر لندن في ظلام دامس.. وشملت الاضطرابات الفلكية الكواكب الخمس السيارة.. واقترن كوكبا الشمس والقمر ببرج الميزان مما جعل الفلكيون يتوقعون كوارث ومذابح وحروب مروعة.. ورأى الملك ريتشارد الأول «قلب الأسد» حلما مزعجا.. رأى نسرا محلقا فوق معسكره يجمع بين براثنه سبعة سهام وقوس ويصيح: الويل لك يا أورشليم.. والمثير للدهشة أن الفلكيين هذه الأيام يؤكدون: إن الشمس والقمر الآن في برج الميزان مما يعني وجود كوارث متلاحقة ستصيب المنطقة.. ولن تنجو منها قبل الصيف المقبل.. تقريبا.. إن كل شئ يذكرنا بما كان حتى خطوط النجوم وحركة الكواكب. بعد شهرين على واقعة الاقحوانة عبر جيش المسلمين نهر الأردن جنوب بحيرة طبرية وهو يرفع صوته بشعار الله أكبر.. وكان الجيش من الضخامة بحيث أن غبار الخيل غطى عين الشمس.. وشعر الصليبيون أنهم لن يغامروا بمنازلته.. فدخل طبرية دون مجهود.. وصودر الذهب والفضة بكميات كبيرة وغنمت المواشي والخيول.. وعاد صلاح الدين الى مصحفه.. تاركا الكونتيسة أيشيفيا زوجة الملك جي محتمية بقلعة المدينة مع حراسها.. بل أنه ترك رسولها يخرج من طبرية ليصل برسالة استغاثة الى زوجها.. وكان رأي زوجها انتظار صلاح الدين في قلعة عكا.. لكنه لم يملك القدرة على ذلك.. فقد كان صلاح الدين ينتظر في حطين.. وحطين التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه قرية صغيرة غنية بالماء مرتفعة كثيرا عن الأرض لها هضبتان أشبه بالقرنين.. وقد وضع المسلمون بينهما حطبا جافا أشعلوا فيه النار بمجرد اقتراب الأعداء.. لعلهم يتذكرون الجحيم الذي ينتظرهم في الآخرة أيضا.. ولم يجد فرسان الصليب أمامهم سوى الصلاة وانتظار معجزة.. توقعوا بإيمان يقترب من اليقين أن يظهر لهم القديسين بازغين من الغمام ليقاتلوا المسلمين ويجهزون عليهم في دقائق.. لكن لم تكن في السماء غمامة واحدة.. وبدت أن معجزة الخلاص لن تحدث فانهاروا جميعا.. وصرخ قائد في جنوده: من استطاع منكم النجاة فلينج فإن المعركة قد حسمت بل أننا فقدنا الفرصة في الهرب. كان يقود المعركة من الجانب الآخر ملكان هما جي وشاتيون وقد جلبا الى صلاح الدين وهو في خيمته المنصوبة على شاطئ البحر.. كان السلطان يجلس متربعا على ديوان مرتفع مغطى بالسجاد محاطا برايات جيوشه.. عرض الرجلان عليه وقد بدا متعبين ممزقي الثياب.. وأشار السلطان الى أن يجلسا الى جواره.. وأشار الى أحد الحجاب فأحضر كأسا مذهبا مملوء بماء الورد سلمه للسلطان الذي أعطاه بدوره للملك جي فتجرعه بسرعة ثم أعطى ما تبقى منه للملك شاتيون فغضب السلطان قائلا: لم آذن له في شربة ماء حتى لا يوجب ذلك أمانا له.. فقد كانت التقاليد الاسلامية تمنح الأمان للأسير بمجرد عرض الماء والطعام عليه.. وعندها التفت صلاح الدين الى شاتيون قائلا: اشرب فلن تشرب ثانية.. إن شاتيون هو الذي أمر بالاعتداء على القوافل التجارية بين القاهرة ودمشق وأسر شقيقة صلاح الدين وحاول الاغارة على مكة والمدينة ونقض معاهدات الصلح.. وأقسم صلاح الدين على أن يقتل هذا الشرير بنفسه.. وخاطب صلاح الدين شاتيون قائلا: كم مرة أقسمت على الوفاء ثم نقضت العهد؟.. كم مرة وقعت اتفاقا لم تنفذه؟.. وتمتم شاتيون مجيبا: هكذا تفعل الملوك دائما.. واستطرد السلطان: لو أنك أسرتني كما أسرتك يا شاتيون ماذا كنت تفعل؟.. أجاب شاتيون بصراحة: لو أعانني الله وأسرتك لسارعت بقطع رأسك.. فقال صلاح الدين ساخطا: خنزير! أنت في يدي وتجيب بهذه الصفاقة؟.. وبهزة من يده أمر بصرف الأسيرين.. ثم ركب فرسه وراح يتفقد جنوده. عاد صلاح الدين وطلب إحضار شاتيون بمفرده.. وفاجأة بالقول: ها أنا انتصرت لمحمد صلى الله عليه وسلم وقد كنت دائم السخرية منه.. وأنا أعرض عليك الاعتذار له والدخول في دينه ليغفر لك الله ذنوبك ونبقى نحن على حياتك.. لكن شاتيون رفض.. فأخذ السلطان خنجره المعقوف وضرب به ذراع شاتيون فاصلا يده عن كتفه.. وسارع العبيد لقطع رأسه ووضعه أمام السلطان.. ثم جئ بالملك جي وهو يرتعد وقد وطن نفسه على الموت فطمأنه السلطان قائلا: إن هذا تجاوز حده فجرى عليه ما جرى فسارع جي بالركوع أمامه فطلب منه القيام ثم عرض عليه كأسا آخر من الجلاب.. وبصورة أو بأخرى أشعر كلما جاءت سيرة شاتيون أنني أجد أمامي صورة شارون.. ظلت صيحات الله أكبر تتردد من قرية الى قرية.. ومن مدينة الى مدينة.. حتى لاحت بشائر تحرير القدس من جديد.. لكن.. ما الذي فعلوه بزهرة المدائن؟.. الإجابة تستحق الانتظار. ـ كاتب مصري

Email