الأطماع المائية في الاستراتيجية الصهيونية ـ بقلم: رياض أبو ملحم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 4 شعبان 1423 هـ الموافق 10 أكتوبر 2002 لم تكن اسرائيل في حاجة الى دليل جديد لإثبات انها تلعب دور «بلطجي» المنطقة، بامتياز، فالاعتداءات التي شنتها على جميع الدول العربية المحيطة بفلسطين على مدى نصف القرن الماضي، وقبل ذلك اغتصاب الوطن الفلسطيني وتهجير شعبه، تؤكد طبيعة هذا الدور وتوضح خطورة نتائجه وتأثيراته المدمرة على امن وسلام المنطقة بكاملها. ومع ذلك، فإن التهديدات التي وجهها أرييل شارون الى لبنان بسبب محاولته الافادة من بعض مياهه، التي يذهب معظمها الى الدولة العبرية من دون اي وجه حق، تكشف عن رغبة متزايدة في الاستيلاء على ثروات المنطقة المائية والنفطية بعدما اطلقت الولايات المتحدة يد الحكومة الاسرائيلية لخوض تجربة جديدة من تجارب التوسع والهيمنة وتحدي الشرعية الدولية. علما ان الملف المائي، في شكل محدد، تظل له خصوصيته وحساباته الشديدتين في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وقد سعت اسرائيل دائماً الى جعل حدودها المائية مطابقة للحدود السياسية لـ «الوطن القومي اليهودي»، مستغلة عجز الدول العربية وافتقادها القدرة على خوض أي شكل من اشكال المواجهة، دفاعاً عن حقوقها وأراضيها. فالقيادة الاسرائيلية، بصرف النظر عن اشخاصها وانتماءاتهم الحزبية متضامنة حول ضرورة تنفيذ ما عجز الزعماء الصهاينة المؤسسون عن تحقيقه، بالقوة أو بالخديعة، لا سيما ما يتعلق بالاستيلاء على مصادر المياه في أراضي الدول العربية المحيطة بفلسطين او اقتسامها مع اصحابها اذا تعذرت عملية الاستيلاء الكلي. ومن هنا فإن موضوع اقتسام المياه يأتي بنداً رئيسياً، بل وشرطاً لازماً، في مختلف المشاريع والاقتراحات الاسرائيلية المقدمة، الى جانب ما تم الاستيلاء عليه، كلياً أو جزئياً. كان هدف الآباء المؤسسين للدولة العبرية توسيع حدود الدولة التي يريدون تأسيسها لتشمل الجزء الأكبر من جنوب لبنان ومرتفعات الجولان السورية، وهي المناطق الغنية بالمصادر المائية. كما أبدوا حرصاً شديداً على تثبيت الاستيطان اليهودي، في المراحل الأولى التمهيدية من تنفيذ مشروعهم بإنشاء وطن قومي لليهود، بالقرب من مصادر المياه الرئيسية في فلسطين، لا سيما بحيرة طبريا (الخزان المائي الرئيسي في اسرائيل) ومنابع نهر الأردن. الأطماع الإسرائيلية ومن الوثائق التاريخية المهمة التي تكشف حقيقة الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية، عندما كانت الدولة العبرية لا تزال وعداً بريطانياً، رسالة وجهها الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا في عام 1919، لعرضها على «مؤتمر السلام» الذي عقد في باريس آنذاك. وجاء في هذه الرسالة «ان اقتطاع أي جزء حيوي لحياة فلسطين الاقتصادية من الأرض في الشمال، سيؤدي الى شعور دائم بالمرارة العميقة في قلوب اليهود. ان مستقبل فلسطين الاقتصادي كله يعتمد على ما يتيسر لهذا البلد من المياه الضرورية للري والطاقة الكهربائية. وأهم مصادر هذه المياه هي منحدرات جبل حرمون (الشيخ) ومنابع نهر الأردن ونهر الليطاني في لبنان. لهذه الأسباب نرى من الضروري ان تضم حدود فلسطين الشمالية وادي الليطاني الى عمق 25 ميلاً فوق منعطفه، ومنحدرات جبل حرمون الغربية والجنوبية، لضمان السيطرة على منابع الأردن، وإتاحة إعادة تحريج هذه المناطق...». إن الترابط وثيق بين ثلاثة محاور في المشروع الصهيوني الأساسي لإنشاء دولة اسرائيل. ـ الاول، الهجرة اليهودية الجماعية من مختلف دول العالم الى فلسطين، خصوصا من الدول التي يتشكل منها الاتحاد السوفييتي، ودول اوروبا الشرقية. ـ الثاني، التوسع الاستيطاني في الاراضي الفلسطينية واراضي الدول العربية المجاورة، بعد طرد سكانها الاصليين منها. ـ والثالث، الاستيلاء على المصادر المائية التي تؤمن حاجات المستوطنين وتمكن من تنفيذ المشاريع الزراعية والصناعية المقررة، وكذلك سد حاجات الدولة، المتوسعة باستمرار من الطاقة الكهربائية. واذا كانت الحركة الصهيونية فشلت، منذ مطلع القرن الماضي وحتى قيام الدولة اليهودية في عام 1948 في حمل الدول النافذة «آنذاك» على تبني خريطتها الكاملة لهذه الدولة، التي تشمل جنوب لبنان ومرتفعات الجولان السورية وبعض اجزاء من الضفة الغربية لنهر الاردن وصولاً الى خليج العقبة «مشروع قدمته الحركة الصهيونية الى مؤتمر السلام في باريس، فبراير 1919»، إلا ان اسرائيل استطاعت ان تستولي على هذه المناطق كلها في الحروب التي شنتها على الدول العربية لاحقا: يونيو 1967، ثم عام 1978 في اتجاه لبنان «الشريط الحدودي»، واخيراً وليس آخراً غزو العاصمة اللبنانية بيروت عام 1982 ومع ان الدولة العبرية اجبرت على الانسحاب من معظم المناطق التي احتلتها، باستثناء هضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، لكنها لاتزال تفرض سيطرتها على المصادر المائية الرئيسية التي تتغذى منها، وبذلك تكون هذه الدولة «القسرية» حققت هدفاً رئيسياً من اهدافها، المعلنة والمضمرة، وان يكن فاتها ـ حتى الآن ـ تحقيق دولتها الكبرى «من الفرات الى النيل ارضك يا اسرائيل» كما ظل يقودها الحلم الصهيوني منذ ما يزيد على مئة عام، وان تكن لاتزال تحاول استبدال الاحتلال المباشر بالهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وهو ما نخوض معاركه حالياً. المياه اللبنانية كانت فكرة السيطرة على المياه في جنوب لبنان احد ابرز التوجهات التوسعية للحركة الصهيونية منذ مطلع القرن الماضي، وقد حاولت الحركة «في المذكرة التي قدمتها الى مؤتمر السلام في باريس عام 1919» مد حدود فلسطين «التي كانت تلقت وعداً بريطانياً بها» شمالاً، بحيث تبدأ من نقطة على البحر الابيض المتوسط بالقرب من مدينة صيدا «عاصمة الجنوب اللبناني» وتستمر الى منابع المياه في سفوح سلسلة جبال لبنان حتى جسر القرعون في البقاع الغربي، وبعد ان تقرر وضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي وفلسطين تحت الانتداب البريطاني «بموجب القسمة الفرنسية ـ البريطانية» لـ «تركة الرجل المريض: الدولة العثمانية» حاييم حايين وايزمن محاولاته مع السلطات الفرنسية وحاول اقناع الجنرال غورو بالموافقة على مد حدود فلسطين الى الضفة الجنوبية لنهر الليطاني، لكنه لم يوفق الى ذلك. ثم اصدرت الحركة الصهيونية مذكرة جديدة 6 ديسمبر 1919 جاء فيها: «ان الحقيقة الاساسية فيما يتعلق بحدود فلسطين هي انه لابد من ادخال المياه، الضرورية وتوليد القوة الكهربائية، ضمن هذه الحدود، وذلك يشمل ـ طبعا ـ نهر الليطاني ومنابع نهر الاردن وثلوج جبل الشيخ». وفي 12 مايو 1951 «ايبان» لصحيفة «الجيروزاليم بوست» الاسرائيلية بقوله: «لا نفكر بجدية في النيل والفرات لكننا نكرس كل اهتمامنا لنهر الاردن ومنابعه في الشمال». وصرح القائد العام الاسرائيلي في حرب 1948 ينعال الون، رداً على رئيس الحكومة الاسرائيلية ديفيد بن غوريون: «لو لم يصدر بن غوريون أمراً بوقف اطلاق النار لكانت جيوشنا احتلت نهر الليطاني في الشمال وصحراء سيناء في الجنوب، وايضاً حررت كل وطننا». وفي عام 1964 نشرت جمعية اصدقاء الشرق الاوسط الاميركية في واشنطن تقريراً عن مشكلة مياه نهر الاردن قالت فيه «ان الحكومة الاسرائيلية، عندما أعلنت عام 1954 عن مشروع المهندس الأميركي جون كوثون ضمن مشاريعها الانمائية، لحظت جر مياه الليطاني الذي ينبع ويجري ويصب في الاراضي اللبناني». وعلى اثر حرب يونيو 1967 صرح رئيس الحكومة الاسرائيلية ـ آنذاك ـ ليفي اشكول لصحيفة «لوموند» الفرنسية (8 سبتمبر 1967) بقوله: «لا يمكننا ونحن في أمس الحاجة الى المياه ان نرى مياه الليطاني تذهب هدراً في البحر، لقد أصبحت القنوات جاهزة في اسرائيل لاستقبال هذه المياه واستعمالها». ومن الواضح ان تصريحات اشكول جاءت في أعقاب استيلاء القوات الاسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية، الغنية جداً بالمياه، حيث تنبع منها أهم روافد نهر الاردن الشمالية، ويعتبر جبل الشيخ الذي بلغ ارتفاعه 2814 متراً، المصدر الرئيسي للمياه، إذ يتراوح المعدل السنوي لما يهطل عليه من أمطار وثلوج ما بين ألف وخمسمئة وألف وسبعمئة ملم يغور معظمها في الأرض ثم يتفجر ينابيع عديدة وغزيرة في مواقع مختلفة من الهضبة. ووفقاً لدراسة سورية رسمية فإن الخطط والمشاريع التي نفذتها اسرائيل في المرتفعات المحتلة أتاحت لها استغلال: ـ 3130 مليون متر مكعب من المياه في جنوب هضبة الجولان. ـ 6 ملايين متر مكعب في المنطقة الوسطى. ـ 870 ملايين متر مكعب في المنطقة الشمالية. فرصة الاستيلاء المباشر لكن الاطماع الاسرائيلية كانت تتجاوز ذلك بكثير، ولهذا ظلت الانظار مركزة على المياه اللبنانية بانتظار فرصة مماثلة لعدوان الخامس من يونيو للاستيلاء عليها. وقد جاءت هذه الفرصة عبر عملية اجتياح الجنوب اللبناني عام 1978 التي أطلق عليها «عملية الليطاني» وهي تسمية ذات دلالة واضحة، إذ تمكنت القوات الاسرائيلية من جعل نهر الليطاني وهو نهر لبناني مئة بالمئة، تحت سيطرتها الكاملة، ما مكن اسرائيل لاحقاً من استغلال كميات كبيرة من مياهه عبر وسائل متعددة. أما الفرصة الثانية فقد جاءت في أعقاب الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، حيث ثبّتت اسرائيل خطوط ما سمي بـ «الحزام الأمني» خلف منابع نهر الحاصباني لتستولي على مياهه بالكامل، وقد ظلت تستغلها لما يقرب من 24 عاماً. ونهر الليطاني هو أطول الأنهار اللبنانية وأكبرها، إذ تبلغ طاقة تصريفه نحو730 مليون متر مكعب سنوياً، ويبلغ طوله 160 كلم، وهو ينبع ويجري ويصب في البحر ضمن الأراضي اللبنانية. وبما ان اسرائيل لا تملك أية حجة قانونية تسمح لها بأن تصبح شريكة في مياه الليطاني (كما تفعل بالنسبة لنهر الحاصباني ونبع الوزاني) فقد ركز المسئولون الاسرائيليون على ذريعة مفادها ان مياه الليطاني تذهب هدراً الى البحر، إما لأنها تفيض عن حاجة لبنان، وإما لأن السلطات اللبنانية لا تحسن استغلالها. لذلك عرضت اسرائيل عبر عدد من الوسطاء والمؤيدين لها، شراء 400 مليون متر مكعب من مياه الليطاني بحجة ان هذه الكمية لا يحتاجها لبنان، وقد اضطرت الحكومة اللبنانية الى توجيه مذكرة 10 مارس 1990 الى الامم المتحدة وجامعة الدول العربية، عرضت فيها المطامع الاسرائيلية من المياه اللبنانية. ان فشل اسرائيل في تكريس نفسها «شريكة» في مياه الليطاني دفعها الى التعويض عن ذلك بالاستيلاء الكامل على مياه نبع الوزاني، الذي يشكل رافداً رئيسياً من روافد نهر الحاصباني، وهو بدوره يعتبر احد الروافد الرئيسية لنهر الاردن الذي يصب في بحيرة طبريا. الحاصباني والوزاني ينبع نهر الحاصباني من لبنان «عند سفوح جبل الشيخ، قرب بلدة حاصبيا» ويجري في الاراضي اللبنانية مسافة 21 كم، وقبل خروجه من الاراضي اللبنانية بعدة كيلومترات تصب فيه مياه نبع الوزاني، ويقدر معدل التصريف السنوي للحاصباني بنحو 153 مليون متر مكعب منها 57 مليون متر مكعب تشكلها مياه الوزاني. والمثير للاستغراب في وضع الوزاني بالذات ان لبنان لا يستفيد إلا من بنسبة بسيطة من مياهه لاتزيد على 7 ملايين متر مكعب سنويا، وهو يحاول ان يرفع هذه الكمية بمعدل ثلاثة او اربعة ملايين اخرى للتمكن من تزويد 15 قرية جنوبية بمياه الشفة، في حين ان حصته الفعلية تتجاوز هذا الرقم بكثير، بيد ان اسرائيل التي وضعت يدها على النبع بالقوة واستغلته طوال فترة احتلالها لجنوب لبنان «من عام 1978 الى عام 2000»، هددت بشن حرب جديدة على لبنان ان هو واصل تنفيذ مشروعه الرامي الى ري قراه العطشى، وفي الوقت الذي كان من المفترض ان تتحرك الامم المتحدة فوراً لمواجهة التهديدات الاسرائيلية، وتمكين لبنان من استغلال الكمية التي يحتاجها من مياهه، بادرت الولايات المتحدة الى ارسال خبير الشئون المائية في وزارة الخارجية ريتشارد لاوسن الى لبنان لاجراء كشف على مشروع جر المياه الذي تنفذه السلطات اللبنانية المختصة ومع ان حق لبنان في مياهه بدا واضحا، إلا ان المبعوث الاميركي حاول ان يعالج المسألة بالاسلوب السياسي التقليدي الذي يرضي اسرائيل، اي يطلب التريث في تنفيذ المشروع اللبناني الى ان يتم استرضاء الحكومة الاسرائيلية او التفاوض معها على الاقل، إلا ان الحكومة اللبنانية رفضت هذا الطلب واصرت على مواصلة تنفيذ المشروع. ومع ان التهديدات الاسرائيلية هدأت مؤقتا، ربما لتجنب التشويش على الخطط الاميركية المتعلقة بغزو العراق، وفقا للعديد من المؤشرات إلا ان الخطر الاسرائيلي سيظل قائماً طالما بقيت الدولة العبرية تعتبر نفسها «بلطجي» المنطقة من دون منازع. ـ كاتب لبناني

Email