«حربجية» واشنطن والبحث عن قضية مقدسة ـ بقلم: د. محمد خالد الأزعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاربعاء 3 شعبان 1423 هـ الموافق 9 أكتوبر 2002 الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير منحا نفسيهما مؤخرا وظيفة تضاف الى مقاميهما الرفيعين، هي تزعم طاقم الداعين الى ما يصفانه بالحملة الدولية للحرب على العراق. وبذلك تخلى الرجلان عن مكانتهما المفترضة دستوريا، التي تحتم على كل منهما أن يوازن بدقة وتجرد بين خطابي أنصار الحملة ومعارضيها، ثم إتخاذ القرار بناء على تقدير أي الخطابين أكثر إقناعا وغيرة على المصالح الذاتية لبلديهما إن لم تكن على السلم والأمن الدوليين. نحن هنا إزاء نموذج معاكس لتسلسل الاجراءات في قضية بالغة الحساسية والخطورة.. فقد حزم صناع القرار في واشنطن ولندن أمرهم وحسموا خيارهم أولا، ثم راحوا يدعون له ويروجون مستخدمين كل ما أتاحت لهم مقدراتهم من أدوات التعبئة والحشد على الصعيدين الداخلي والخارجي. يحدث هذا الآن في قلعتي الديمقراطية الليبرالية.. ومع ذلك يقال بلا حياء بأن الحملة العتيدة إنما يراد بها التخلص من نظام ديكتاتوري ودفع العراق الى رحاب الحرية والديمقراطية! والواقع أن «حربجية» واشنطن ولندن يواجهون معارضة قوية في الداخل والخارج وعلى المستويين الرسمي والشعبي معا، ففي واشنطن، أعلن ربع أعضاء مجلس الشيوخ رفضهم لأسلوب الرئيس بوش وأركان إدارته في معالجة القضية العراقية. وقالوا إنهم وكثيرين غيرهم ممن يؤثرون الصمت في هذه المرحلة، غير راضين عن إعفاء الرئيس من مراجعة الكونجرس والأمم المتحدة في مسألة قرار الحرب. ويتهم نبهاء أميركيون البيت الأبيض بأنه يريد الخروج للحرب لإبعاد الأنظار عن المشاكل الحقيقية للبلاد. بل ويتساءل بعضهم «لماذا لا يتغير النظام عندنا أولا، لتتخلص أميركا من الفضائح والفساد المستشري في حياتها الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية؟..» ويفسر آخرون الحملة بأنها «تود سفك الدماء من أجل النفط..». وفي لندن، لم يأنف برلمانيون حاليون وقدامى وحقوقيون عدول من وصف رئيس وزرائهم المتنمر بأنه تابع ذليل للسيد الأميركي، بما لا يتناسب وكرامة شعبه، وقد تظاهر مئات الألوف للإعراب عن رفضهم لشن الحرب على العراق، رافعين شعارات تندد بدعاتها في النظامين البريطاني والأميركي، مذكرين بخيبة العالم في التصدي للارهاب الاسرائيلي في فلسطين. ولا يحظى خطاب بوش - بلير تجاه القضية العراقية بأية صدقية في العالم العربي، هذا دون الحديث عما يواجه به هذا الخطاب من سخرية واستهزاء في الرحاب الأوروبية والآسيوية والأفريقية والأميركية اللاتينية. وقد أثبتت استطلاعات الرأي أن ما بين 70 الى 80 في المئة من الألمان والايطاليين والفرنسيين، النواة القوية للاتحاد الأوروبي، لا يصدقون أن العراق يشكل خطرا على السلم والأمن الدوليين. ومن المفهوم بالطبع أن اسرائيل بمواقفها المحرضة على الحرب تمثل أستثناء من هذا الاتجاه العام. ومع ذلك فإن أرجحية فريق المعارضين لا تكفي أبدا للاطمئنان الى أن العدوان على العراق لن يقع. فالنخب التي ربطت مصالحها الحالية والمستقبلية بهذه الحرب، لديها دوما ما تتذرع به للمضي قدما في مخططاتها، وآخر ما تفتق عنه ذهن «حربجية» واشنطن بالذات هو رمي النظام العراقي بتهمة «تهديد الأمن القومي الأميركي». والارتقاء بأسباب الحرب الى هذا المستوى يعني أنها باتت ضرورة حياة وكينونة بالنسبة للأميركيين جميعهم في عقر دارهم. وأهم من ذلك، أن خطابا من هذا القبيل من شأنه اغلاق السبل الأخرى للتسوية، وبالتداعي حشر المعارضين في زاوية ضيقة جدا ونبذ خياراتهم السلمية البديلة. ليس بعد استشعار تهديد الأمن القومي لأية دولة في هذا العالم إلا تحسس القوة العسكرية، فإذا أنست نخبة الحكم أن موازين القوى بالمعنى الشامل تميل لصالحها، فإنها تصبح في أقرب نقطة من قرار الحرب. قياسا على هذه النظرية - وهي قاعدة مستقاة من تجارب نشوب الحروب - فإن إثارة إدارة بوش لهذا التهديد داخل مسار التدافع مع بغداد، يشي بوقوع العدوان الأميركي لا محالة إن لم تحدث معجزة تعكس الاتجاه. بصيغة أخرى، فإن الحديث عن وجود تهديد للأمن القومي لا يفضي الى قرار الحرب بشكل تلقائي، بل لابد من حسابات لاحقة يأتي في طليعتها التأكد من أن ميزان القوى يسمح باستخدام السلاح لازاحة هذا التهديد (حقيقيا كان أم مفتعلا). هناك عشرات الحالات التنافسية أو حتى الصراعية في المجال الدولي، التي لم يلجأ أطرافها للحرب نزولا عند هذه الحسابات، كان النظام السوفييتي الشيوعي، مثلا، يشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي. لكن قوة الردع السوفييتية حالت دون استخدام أدوات الحرب الساخنة ضد ذلك التهديد، فكانت الحرب الباردة الحالة مع العراق، ومثيلات لهاآتيات دون ريب، مختلفة تماما. لأن حربجية واشنطن ولندن وتل أبيب مطمئنون الى قوتهم المقارنة، الأمر الذي لا يجدون معه حرجا في الخروج العاجل الى ساحة الحرب الساخنة. وما عليهم فقط سوى محاولة إضفاء مسحة أخلاقية وحقوقية وإنسانية على نواياهم اللعينة، وهذا جانب تتولاه الآلة الاعلامية الدبلوماسية الجبارة، وكثير من الضغوط متعددة الأنماط. يعالج حربجية واشنطن المسألة العراقية وأيديهم على الزناد. وهم يثيرون بكلام كبير قضية الأمن القومي، بهدف استدراج الرأي العام بعيدا عن معارضيهم. ثم إنهم بهذا التكتيك يضعون هؤلاء المعارضين في دائرة الاتهام بالخيانة الوطنية. فمن ذا الذي يجرؤ على التشكيك في غاية مقدسة لحماية الأمن القومي، بدون المجازفة بسمعته الأخلاقية والسياسية وسلامة نواياه؟! مثل هذا الخطاب المسموم بامكانه أن يعكر بحر الرأي العام. ولهذا قد تنجح خدعة ائتلاف الشر المكون من أصحاب المجمع الصناعي العسكري والصهاينة والقوى المسيحية اليمينية ولصوص البورصات ومزوري حسابات الشركات العملاقة.. وعندها يشتعل أوار العدوان على العراق. وسوف تسيل دماء زكية كثيرة وتهدر موارد، قبل أن تكتشف هذه اللعبة الدنيئة التي يشارك فيها حفنة من الأشرار ويكرسونها لمصالحهم الخاصة جدا. ـ كاتب فلسطيني - القاهرة

Email