اليمن بعيون إيرانية ـ بقلم: محمد صادق الحسيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاحد 29 رجب 1423 هـ الموافق 6 أكتوبر 2002 قلت له: أين اليمن اليوم مما يحصل في العالم من حولها؟ قال لي: ان اليمن سبق لها ان اختارت مبكراً ـ أي منذ ثورة سبتمبر المجيدة ـ خط الاعتدال والوسطية والتسامح، وها هي الاحداث تثبت ان خياراتنا المبكرة كانت بالاتجاه الصحيح. قلت له: إذن فاليمن اليوم تفخر بهويتها التاريخية وتعتز بانتمائها إلى خط التعايش بين المدارس والمذاهب الفكرية والدينية والسياسية تحت سقف الاسلام الحنيف والعروبة الملتزمة. قال لي: بالتأكيد ولذلك فقد أعلنتها صراحة بأني مع المقاومة في لبنان وفلسطين كما مع دعوات السلام العادل في الشرق الأوسط كما مع تجنيب المنطقة خطر حروب جديدة كما ضد اعتبار ايران المسلمة والصديقة في محور الشر وكما ضد كافة اشكال التطرف والارهاب من أية جهة جاء وأيضاً ضد استخدام الدين لأهداف سياسية وضد ارهاب الدولة المنظم الذي تقوده الدولة الاسرائيلية ضد شعب فلسطين واهلنا المكافحين من أجل الحرية والاستقلال في فلسطين المحتلة. هكذا كان جوهر حديثنا الخاص مع الرئيس علي عبدالله صالح في صنعاء الذي تجاوب أيضاً وبكل حماس مع فكرة ضرورة تفعيل وتنشيط الحوار بين العرب وأشقائهم الايرانيين وضرورة مصارحة بعضهم البعض بما يجول في خواطرهم وبما يعدونه لمستقبلهم وضرورة بناء جسور ثقة قوية وراسخة فيما بينهم بما يؤهلهم لاستعادة موقع يستأهلونه في ركب الحضارة الانسانية ودور يليق بهم كأمة اسلامية في المعادلة الدولية. ان تكون يمنياً حقيقياً هذه الأيام يعني ان تلعب دوراً نشطاً في اعادة صياغة الهوية التاريخية لليمن بقوالب «عصرية» أو «معاصرة» بما من شأنه ابعاد اليمن الموحد الجديد عن الاستقطاب الكاذب بين «الارهاب» العربي!! و«الحرب على الارهاب» الاميركية!! وان تكون يمنياً فاعلاً في المعادلات الاقليمية والمعادلة الدولية يعني ان تخرج من دورة الاسترخاء والانطواء «المحلية» التي حرمت اليمن بما هي قوة تاريخية وحضارية من تجديد جلدها وضخ دماء جديدة في أوعية مجتمعها المدني وتركيبة الوطن والدولة والنسيج العام للنظام السياسي والعمل الحزبي. هذا ما يتداوله اليوم بعض رموز الوطن اليمني الجديد الموحد والمتأهب لاستيعاب التحديات العالمية الجديدة من أبناء النخبة المثقفة واساتذة الادب والشعر والتاريخ والحضارة. في «مقيل» الشاعر والاديب العربي اليمني الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح قرأ علينا الشاعر والأديب المرموق أحمد المعلمي قصيدة نقدية لحال العرب اليوم اثارت اعجاب الحاضرين نوه فيها إلى ضرورة خروج النظام العربي من حالة اللاوزن واللامكان التي يعيشها في مسيرة التحولات العالمية، كما قرأ علينا شاعر سعودي لماح قصيدة طالب فيها بقراءة الفاتحة على «النظام العربي» وهو يتفرج على ضياع القدس وفلسطين واستباحة بلاد العرب والمسلمين المرتقبة في احوال الطقس القادمة. لكن المقالح تساءل بشفقة ونوع من رقيق من الحزن على من تقع المسئولية فيما نحن فيه من حالة اللا توازن؟ محملاً القوى الحية في المجتمع المدني إلى جانب صناع القرار الحكوميين في ترك الساحة ليعبث بها من لا يريد التنمية والتقدم والاصلاح الحقيقي للبلاد والعباد على امتداد الوطن العربي الكبير والاسلامي الأكبر. غير ان تعاطي الرأي والرأي الآخر في اليمن الجديد لا سيما بعد تداعيات 11 سبتمبر، يوحي بقرب انبعاث نهضة سياسية وفكرية يمنية جديدة تحمل في طياتها هذه المرة التحرر الاقتصادي الملموس وعدم الاكتفاء بالتحرر النظري وعالم الشعارات الجميل والبراق. الزائر لليمن اليوم يشعر تماماً بان توقًا وشوقاً شديدين يجتاحا النخبة اليمنية لاعادة صياغة دور اليمن وهويتها التاريخية اللذين ساهما في صناعة النمور الآسيوية الشهيرة انطلاقاً من حضرموت والمكلا في الزمن القديم. وعندما عرضنا عليهم فكرة الحوار العربي الايراني وضرورة تفعيل وتنشيط التعاون بين الكتلة العربية وكتلة الجوار الاسلامي المتمثلة بإيران نموذجاً اجمعت النخبة كما رجالات مطبخ صناعة القرار اليمني بأنها قد اختارت انحيازها لايران بوضوح في اصطفاف محور الخير والشر الحقيقيين، وانه لن يثنيها أحد من الاتجاه شرقاً مهما تكثفت الضغوط لأن هذا قرار يمني مستقل يخدم الأمن القومي اليمني قبل كل شيء. غير ان بعضهم أضاف مع بعض العتب الرقيق: اذا كانت قلوبنا تغار على ايران الاسلامية وشقيقاتها من دول الشرق الآسيوي الأخرى فإننا نأمل ألا تكون قلوب تلك الدول على الحجر أو انها بدأت تحن إلى «قبلة» أخرى. بالمقابل فقد نقلت لهم ما اعتبرته قلقاً ايرانياً بخصوص احتمال ان تكون بعض النخب العربية ومجمل صناع القرار العربي قد اختاروا «قبلة» أخرى سواء بالقناعة والاعتقاد أو «مكرها أخاك لا بطل»، ولكن في كل الأحوال فقد كانت الحاجة واضحة إلى ضرورة قيام منتدى مفتوح للحوار بين العرب واخوانهم الايرانيين لا يكتفي بالامور السياسية والاعلامية والثقافية بل ويمتدح وبقوة ميادين اكثر فعالية مثل الاقتصاد والتجارة والتنمية البشرية شريطة الا تبقى على السطح من قشرة المجتمع المدني والدولة بل ان يمتد عميقاً إلى أوعية طبقات الشعب المختلفة. اليمن إذن وباختصار شديد تشعر بأن الوقت قد حان لانبعاث ونهضة داخلية تكنس عنها غبار سنين الاحتكاك والاستقطاب والدعة والاسترخاء معاً وانها في ذلك ليست خالية الوفاض لا من حيث ما تملكه من خزائن عميقة وغنية في التراث ولا من حيث ما تملكه من صداقات وتحالفات وائتلافات جديدة ولو فعلت وأعطيت حظها من التجربة وفرصتها في الامتحان قد ترفعها إلى شامخ مجدها الغابر فعلاً وعملاً وليس فقط شعراً وشعاراً. ومن طريف الصدف ان يخبرني الصديق القديم والمناضل العنيد عبدالقادر باجمال رئيس الوزراء الحالي بأنه قرأ في كتاب سلطان لحج في غابر الأزمان بأنه قد قنن لبعض التشريعات الاسلامية ودون بحوثاً عميقة في احوال «المجتمع المدني» بطريقة علمية مثيرة، مما زادني اعتقاداً وثقة بأن في اليمن جواهر ثمينة أغلى من العقيق اليماني الفاخر وتجارب يمكن الاستفادة منها قد تكون أغلى من تجاربنا الراهنة، وقلت في نفسي وأنا أودع هذا الصديق المصمم على المضي في «جسوريته» على «المعاصرة» وعلى «الأصالة» معاً، بأن لليمن دوراً تستأهله اكثر مما هي عليه أو فيه الآن شرط ان تتكاتف أصوات وسواعد اليمنيين باتجاه مسح الغبار عن جواهر اليمن المادية والمعنوية الكامنة في تاريخها وفي جغرافيتها. بين يمن الممالك العظيمة بالأمس ويمن المستقبل الواعد خيط رفيع لكنه متين هو الهوية التاريخية الحرة والمستقلة لشعب التسامح الديني والوسطية الفكرية والاعتدال السياسي. واليمن على ما يبدو مصممة اليوم اكثر من أي وقت مضى على الدفاع عن هذا الخط بوحدة ووفاق متميزين. ـ أمين عام منتدى الحوار العربي الايراني

Email