في انتظار صلاح الدين ـ بقلم : عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

السبت 28 رجب 1423 هـ الموافق 5 أكتوبر 2002 عرفت الأزمنة العربية كلها بضيقها واتساعها.. بذكائها وسخفها.. بارتفاعها وانحدارها.. بعافيتها ومرضها.. بجنانها وهمجيتها.. بجاهليتها وإسلامها.. بانتصاراتها وهزائمها.. بمآثرها وصغائرها.. وبخطاياها وتقواها.. بصرامتها وفوضاها.. بجناتها التي تجري من تحتها الانهار وصحاريها التي تعيش على الموت والجفاف.. بازدهار علومها وبراعة معمارها وسماحة عقلها.. وبضيق افقها وقسوة مشاعرها وعناد اصرارها على مصادرة مفكريها ومبدعيها ومثقفيها وكأنهم حيوانات برية ضالة. إن التاريخ ليس علم الاشياء الميتة وانما هو علم الخبرة البيضاء الخالصة التي تنفع في الأيام السوداء الحالكة.. ومن ثم فإن الذين لا يقرءونه محكوم عليهم بالدوران حول أنفسهم والبقاء في أماكنهم وتكرار اخطائهم كل يوم ثلاث مرات.. قبل الأكل أو بعده. وعندما نقول اننا نعرف الأمة العربية بكل تناقضاتها وانقلاباتها الحادة فهذا أننا نقرأ ما جرى لتفسير مايجري.. نقرأ الماضي للتفاهم مع الحاضر.. فلا نحزن أكثر ممايجب.. ولا نتشاءم أكثر من اللازم.. ولا نجد أنفسنا بالحق والباطل حتى صرنا لا نشعر بضربات السوط ولم نعد نتأثر بشدة الألم.. فقد تحول الوجع الى ادمان.. صرنا نستعذبه وننتظر جرعاته. وربما كان هذا التشخيص هو ماأغراني بقراءة كتاب «مقاتلون في سبيل الله» للباحث الاميركي الشهير جيمس رستون «الابن» وترجمة الدكتور رضوان السيد «أستاذ التاريخ الإسلامي» يروي فيه «عبر نحو 550 صفحة» قصة الحروب «أو الحملات أو الحركات» الصليبية التي امتدت على مدى قرنين من الزمن.. وأطلقت موجات جنونية من العنف والكراهية لم يكن لها مثيل من قبل.. خاصة وانها تغطت باردية مقدسة.. تحرير قبر السيد المسيح من أيدي المسلمين.. واسترداد مملكة القدس.. وغيرها من تلك الأهداف التي بدت نبيلة ومغرية لملايين من فقراء أوروبا الذين هدتهم صراعات الحروب الاهلية الدموية.. لكنهم كانوا كمن يستجيرون من النار بالرمضاء.. فقد انتهت الحروب الصليبية بعودة رجل واحد لكل سبع نساء أوروبيات.. وهي كارثة إنسانية لم تصل اليها الحروب العالمية التي اشتعلت فيما بعد. لقد كانت هناك خمس حملات صليبية رئيسية.. بدأت في عام 1059 حققت الأولى فقط نجاحا ملحوظا.. فقد تمكن الصليبيون خلالها من احتلال القدس التي غمرت شوارعها وأزقتها دماء المسلمين واليهود.. أما الحملات الاخرى فقد كان مصيرها بالفشل.. ومانجحت الحملة الأولى الا لأن العرب كانوا منقسمين.. مشتتين.. متفرقين.. ضائعين.. وعندما توحد المصريون والسوريون فشلت الحملة الصليبية الثالثة التي امتدت بين عامي 1187 و1192 وكانت أكبر تجمع عسكري عرفته العصور الوسطى.. وقد أوصلت هذه الحملة نيران الصراع الديني الى منتهاه وان دفعت في الوقت نفسه الى مسرح العمليات شخصيتين يندر أن تتكررا في التاريخ هما صلاح الدين الأيوبي ملك مصر والشام والجزيرة العربية والعراق وريتشارد الأول ملك انجلترا الملقب: قلب الأسد. لقد صدر الكتاب منذ عامين.. قبل هجمات سبتمبر على نيويورك وواشنطن وماترتب عليها من حملات كراهية منظمة ومتعمدة للعرب والمسلمين تحرض على ضرب بلادهم بالقوة العسكرية.. وقد وصفها الرئيس جورج بوش بانها حروب صليبية ثم سارع وأعلن ان ذلك «زلة لسان».. لكن.. مؤلف الكتاب يرى ان المبارزة المقدسة الكبرى التي جرت في العصور الوسطى لا تزال اصدائها تتردد في السياسة المعاصرة في الشرق الأوسط.. قال ذلك قبل أن تحدث هجمات سبتمبر.. وهو مايعني ان الحبة اصبحت قبة.. والظلال أصبحت سواد.. ورد الفعل التاريخي اصبح فعلا معاصرا. ان صلاح الدين يبقى حتى اليوم نموذجا للبطولة في كافة انحاء العالم الاسلامي فهو الذي وحد العرب وقهر الصليبيين واعاد القدس ورمى الغزاة الأوروبيين خارج الاراضي العربية.. وفي كفاح العرب المعاصرين من أجل عروبة فلسطين يظل صلاح الدين رمزا للأمل والتفاؤل.. ومثالا يتجاوز حدود الأسطورة.. وكأنه لا يزال على قيد الحياة.. أو كأنه يختبئ في كهف بعيد وفي انتظار أن يعود.. ولذلك فإن الناس في القاهرة أو دمشق أو عمان أو القدس الشرقية يتحدثون عنه بضمير الحاضر.. لا بضمير المستقبل.. وعلى منابر المساجد في تلك العواصم يكرر خطباء الجمعة دعائهم الى الله ان يجئ رجلا مثله يحرر القدس مرة اخرى. وفي دمشق وعلى مقربة من باب السوق القديمة.. سوق الحميدية ينتصب تمثال يجسد بطولته.. كأنه يبارك المدينة المدفون فيها.. داخل صحن الجامع الأموي.. وكان حافظ الأسد يضع في مكتبه لوحة لمعركة حطين اشهر معارك صلاح الدين يغطي بها جدارا بكامله. وكان الرئيس يحب أن يقود ضيوفه الكبار من السياسيين الغربيين لتأمل اللوحة.. كأنما يريد القول لهم ان «صلاح دين» اخر لابد أن يظهر وان معركة «حطين اخرى» لابد واقعة.. وعندما امتلأت القاهرة بملايين المشيعين لجمال عبدالناصر «في سبتمبر عام 1970» وعندما امتلأت دمشق بألوف المشيعين لجثمان الرئيس حافظ الأسد «في يونيو عام 2000» فإن عربا كثيرين ولا شك كانوا يستدعون من ذاكرة التاريخ الحية في عقولهم وضمائرهم كيف كانت جنازة صلاح الدين في مارس عام 1193. ولا يحظى صلاح الدين بالتبجيل لمواهبه العسكرية وبراعته السياسية فحسب وانما يحظى به أيضا لتواضعه وايمانه وتصوفه وتقواه وضبطه لنفسه.. فقد كان لا يؤمن بتعدد الزوجات.. ولم يكن في حريمه جارية واحدة.. ومنع عادة خصى الغلمان ليكونوا خدما في القصور السلطانية.. وكان يقوم بتحضير العقاقير والاعشاب الطبية لاهله بنفسه.. وكان يقرأ أربع ساعات يوميا حتى وقت الحروب.. وكان يؤمن بنظرية أهل الخبرة لا أهل الثقة.. وكان يقول لرجاله ومساعديه: «إن كراهيتنا للآخرين تقتلنا نحن دون أن تصيبهم هم بأذى».. وكان يضيف: «إن الذي عاش حياة مثل التي عشتها لا يمكن ان يكون متعصبا أبدا». في بداية القرن الثاني عشر الميلادي.. وفي مدينة يطلق عليها توفين تقع في شمال أرمينيا.. على مقربة من جورجيا كانت تعيش عائلة كردية معروفة يسيطر عليها رجل لقبه نجم الدين.. كان صديق نجم الدين الحميم شخصا يدعى بهروز يشتهر بالذكاء والود والبشاشة وعشق الحياة ورغبة لا تموت في القتال.. والنساء.. وكان من سوء حظه ان حاكم المدينة فاجأه في الفراش مع زوجته.. فسارع بالقبض عليه.. وخصيه.. وسلبه وماله وأرضه وطرده من توفين. شعر نجم الدين بالذل أصاب صاحب عمره فقرر الخروج معه.. ورجلا الى بغداد.. عاصمة الخلافة العباسية في ذلك الزمان.. وقصدا بلاط الخليفة المتقى لأمر الله - الذي كان يسيطر على الجزء الواقع في شرق المتوسط من العالم الاسلامي - وكشف له مواهبهما الإدارية والعلمية.. لكن بهروز «الخصى» كان وافر الحظ أكثر من صديقه نجم الدين.. فقد صار مربيا لأولاد الخليفة ومرافقا له في لعب الشطرنج والكرة.. وأصبح مركزا من مراكز النفوذ في الدولة.. وكافأة الخليفة بمنحه اقطاعية في تكريت على نهر دجلة ولكنه فوض امرتها لصديقه نجم الدين الذين استقر هو واسرته هناك.. وهناك أيضا أنجب ابنه يوسف.. وكان ذلك عام 1137 ميلادية.. ويوسف هو نفسه صلاح الدين.. وكان ميلاده بعد 40 سنة من احتلال القدس في الحملة الصليبية الأولى وتقسيم العالم الاسلامي واحتلال اجزاء منه.. لكن في ليلة مولده تشاجر عمه شيركوه مع قائد الحرس في تكريت.. جاءته امرأة باكية شاكية أن قائد الحرس أهانها فاستلب شيركوه رمحه وطعنه به في قلبه.. ووصل الخبر الى بهروز.. صاحب الاقطاعية وهو في بغداد فاشتد غضبه وامر بطرد شيركوه وأخيه نجم الدين من تكريت. خرجت أسرة صلاح الدين مطرودة من تكريت في ليلة مولده فشعر أبوه بأنه اشارة نحس.. لكن.. فيما بعد كان ذلك بعيدا عن الصحة تماما.. ان حياة الصبي كانت في بعض جوانبها تشبه حياة يوسف النبي الذي سمى على اسمه.. شفاء وهناء.. هبوط وصعود.. هزيمة وانتصار.. حزن وفرح.. فراق ولقاء.. رحيل واستقرار.. فبعد ان خرجت عائلته من تكريت مضت الى الموصل.. وكان يحكمها قائد عربي قوي اسمه عماد الدين زنكي.. بذل جهود جبارة في وقف زحف الصليبيين الذين طمعوا فيما هو أبعد من فلسطين.. لكن.. المشكلة ان كل الامارات الاسلامية كانت ممزقة متخاصمة متقاتلة لا تريد ان تهدأ أو تتوحد أو تنتبه الى الخطر الخارجي الذي يهددها.. فالشام ضد العراق.. وطرابلس ضد حمص.. والقدس لا تطيق دمشق.. والسنيون الحاكمون في العراق يخاصمون الشيعة المسيطرين على مصر. انضم نجم الدين وشيركوه الى ضباط السلطان زنكي.. تولى نجم الدين امرة قلعة بعلبك في سهل البقاع «لبنان» بينما صار شيركوه رئيس أركان الجيش.. وأغلب الظن انهما لعبا دورا عسكريا بارزا ومؤثرا.. فقد استردت جيوشهم مدينة الرها في شمال بلاد ما بين النهرين.. فكانت أول أرض يستردها المسلمون من الصليبيين.. وهو ماسبب صدمة حادة في أوروبا.. فهب الراهب برنارد أوف كليرفو يدعو لحملة صليبية جديدة.. وكان ملك فرنسا لويس السادس أول من استجاب وشجعته على ذلك زوجته الملكة اليانور.. ولكن في عام 1146 وقبل وصول الحملة الجديدة الى الاراضي المقدسة مات زنكي وخلفه ابنه نور الدين وكان أكثر قوة وأشد صلابة فواجه الصليبيين على أبواب دمشق ومنعهم عنها وحماها من شرورهم.. فكانت نهاية الحملة الصليبية الثانية. نشأ يوسف في بعلبك ودمشق في بلاط الخليفة نور الدين زنكي.. كان هش البنية.. حاد الذكاء.. وافر التقوى.. شديد التواضع.. وقد شارك أقرانه الفتيان في بداية اللهو وصحبة النساء.. لكنه سرعان ما شعر بسخافة مايفعل في تلك الظروف المؤلمة التي كانت تسود بلاده وخطر الصليبيين الذي يهددها.. فأعرض عن وجوه الاغراء.. وتمنى ان يغير حياته كاملة.. وبدا باسمه.. فأصبح منذ تلك اللحظة: صلاح الدين.. وفيما بعد كتب يقول: إن الله يهدى الذين يجاهدون أنفسهم ويفيض عليهم من مدده ويهديهم الى سبيله. في عام 1163 صار واضحا للخليفة نور الدين أن صد خطر الصليبيين لا يكفي.. فالدفاع ليس دائما مأمون العواقب.. والخطوة الضرورية القادمة يجب ان تكون توحيد العالم العربي لمواجهة الاحتلال الأوروبي المصر على البقاء والسيطرة تحت راية الصليب والشعارات الدينية التي تخفي ورائها اطماع سياسية شرسة وعنيدة.. قرر نور الدين ضم مصر اليه.. كانت الدولة الفاطمية الشيعية قد وهنت وضعفت وتفسخت.. فأرسل شيركوه ليتولى هذه المهمة.. وطلب من صلاح الدين وكان قد بلغ السادسة والعشرين أن يرافقه ويكون قائدا لمقدمة جيوشه.. وفي عام 1164 دخل صلاح الدين القاهرة.. لكنه سرعان مااضطر الى الانسحاب منها بعد أسابيع قليلة عندما سارع الصليبيون بنجدة الفاطميين.. فلم يكن بوسعهم تقبل توحد سوريا ومصر في مواجهتهم.. وقد بلغ حرص المملكة الصليبية على عدم تمكين نور الدين من دخول مصر أن كل بارون صليبي كان يتردد في مساعدة المصريين كان مهددا بفقد 10 بالمائة من دخله السنوي.. ولذلك فقد فشلت محاولتان أخريان لنور الدين أيضا.. على أنه في المحاولة الخامسة يوم 8 يناير عام 1169 نجح شيركوه في دخول القاهرة منتصرا وأعلن نفسه ملكا على مصر.. ثم مالبث أن توفى بعد شهرين.. وقيل وقتها انه مات مسموما.. ولكي لا تحدث نكسة سارع نور الدين بتعيين صلاح الدين خلفا لعمه في مصر.. ولم يكن تعيين الجندي الشاب بسبب قوته وكفايته بل بسبب ضعفه وصغر سنه وقلة تجربته.. فقد كان نور الدين لا يريد منافسا قويا له في القاهرة.. وكان واثقا من أن الشاب المؤدب الخجول لن يتمرد عليه.. لكن.. فيما بعد ثبت انه كان لا يجيد الحكم على الرجال. في البداية كان صلاح الدين ينفذ أوامر نور الدين.. وكان أول أوامره ازالة المذهب الشيعي من مصر بحزم وبدون رحمة واحلال المذهب السني محله.. وعندما نجح صلاح الدين في مهمته تصرف بايحاء من اسمه الاصلي: يوسف فطلب من نور الدين ان يسمح له باستقدام والده نجم الدين واسرته «ليكتمل السرور به ويتم الحبور».. تماما كما فعل النبي يوسف الذي استدعى اخوته بعد ان استقر به المقام في مصر وقال لهم «ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين» وهي الآية التي تقابل زوار القاهرة بمجرد هبوطهم مطار القاهرة.. ووصل نجم الدين يوسف الى القاهرة في ربيع 1170 فاستقبله ابنه بكل مظاهر التكريم.. وعرض عليه ان يتنازل له عن السلطة لكن الأب قال: «ياولدي مااختارك الله لهذا الأمر الا لأنك كفء له».. لكن الأب لم يبق في قصر ابنه أكثر من عامين.. فقد سقط عن فرسه عند باب النصر.. ومات. ولم يتوقف الصليبيون عن الهجوم على مصر واستمر ذلك طوال خمس سنوات «1169 - 1174» لزعزعة سيطرة صلاح الدين عليها لكنهم لم ينجحوا.. على انه خلال تلك الفترة توترت العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين.. فقد توقف صلاح الدين عن تنفيذ أوامر نور الدين بعد ان منحه حكم مصر شعورا بالقوة يعتاده من يحكمها.. فكان ان قرر نور الدين معاقبته واعد جيشا قويا لدخول القاهرة واسقاط صلاح الدين.. لكن شيئا من ذلك لم يحدث فقد توفى في 15 مايو من عام 1174 تاركا السلطة لولده الصالح اسماعيل الذي لم يكن عمره يزيد عن 11 سنة.. وبعد سنة على وفاة نور الدين خرج صلاح الدين على رأس جيشه فاستولى على الشام وأعلن نفسه سلطانا على مصر وسوريا.. وكان عمره 38 سنة.. وأحاطت مملكته بمملكة الصليبيين احاطه السوار بالمعصم. لقد توحدت مصر وسوريا سياسيا ومذهبيا وامتدت الوحدة الى العراق وتطلعت الى فلسطين.. الأرض المقدسة التي خرجت منها النيران التي تحرقنا حتى اليوم.. كان لابد من استعادة فلسطين.. مهما كان الثمن.. فهي اذا لم تكن عربية فهي شوكة أجنبية.. واذا لم تكن مسالمة فالمنطقة كلها ساخنة.. فكيف حقق صلاح الدين المعجزة؟.. الاجابة قصة مثيرة تستحق الانتظار والانبهار. ـ كاتب مصري

Email