أفكار حول «عسكرة» الانتفاضة ـ بقلم: د. محمد خالد الأزعر

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 26 رجب 1423 هـ الموافق 3 أكتوبر 2002 لا توجد صلة خطية مباشرة بين استخدام بعض قوى انتفاضة الأقصى للسلاح، بما في ذلك العمليات الاستشهادية، وبين زيادة جرعة الارهاب الاسرائيلي أو نقصانها بحق المنتفضين. قوات الجيش والشرطة الاسرائيلية خاضت في دماء أبناء الضفة وغزة والقدس قبل أن تتبلور معالم الانتفاضة أو تشق طريقها بين أنماط النضال المدنية والعسكرية معا. في اليوم الأول للانتفاضة أسقط الرصاص الاسرائيلي 7 شهداء في باحة الأقصى، وفي اليوم الثاني والثالث سقط 13 شهيدا وزهاء 1000 جريح ومصاب من فلسطيني 48، بدون أية مراعاة الى أن الأخيرين يحملون الجنسية أو المواطنة الاسرائيلية. وفي بعض المستشفيات تم تسجيل الأخيرين تحت بند «مصابي العدو».. يومذاك لم يكن فلسطينيو 48 قد قاموا بتنظيم أية عملية استشهادية ضد اسرائيل! وفي الشهادات الدولية المحايدة، ثبت أن اسرائيل انتهجت «العنف المفرط» ضد المدنيين العزل، وطلب الى حكومتها أن تكف أيدي قواتها عنهم منذ الاسابيع الأولى لاندلاع الانتفاضة. وكان ذلك العنف أو الارهاب المفرط، دليلا على النوايا المبيتة بهدف إجبار الفلسطينيين، قيادة وشعبا، على الاستسلام للإملاءات الاسرائيلية بعد تذكيرهم بموازين القوى التي يفترض ألا تجعلهم أندادا لاسرائيل، لا في ميدان المواجهة ولا في قاعات التفاوض. لكن الذي حدث هو أن هذا العنف ولد رد فعل فلسطينياً من صنوه وعلى شاكلته. ولأن رد الفعل الفلسطيني العنيف لا يملك موضوعيا الأدوات ذاتها التي بحوزة اسرائيل، فقد جاءت العمليات الاستشهادية والغارات المسلحة بمثابة المعادل الابداعي في هذا الاطار. عندما تواتر رد الفعل الفلسطيني على هذا النحو واتسع نطاقه وأضحى مؤثرا، قيل إنه المسئول عن الارهاب الاسرائيلي ضد المنتفضين، وتم نسيان أو تجاهل الفعل الاسرائيلي الافتتاحي. وأهم من هذا التلاعب في الأسباب والنتائج وتوزيع المسئوليات بين الجاني والضحية، ان منتقدي عسكرة الانتفاضة ينحرفون عن الحقيقة الأكبر حول ما يجري في الديار الفلسطينية، وهي وجود الاحتلال الاسرائيلي ذاته في هذه الديار منذ 35 عاما متوالية، وفي رواية أكثر جذرية منذ 54 عاما، والاحتلال كما يعرف أي عاقل هو بالأساس عمل عدواني يستحق المقاومة بكل الوسائل ويستدعيها استدعاء. ولا يلزم المرجفون في قضية عسكرة الانتفاضة جانب التحليل المنطقي عندما يقومون ببعض المقارنات. فمن ناحية، لا يصح القياس ما بين انتفاضة الثمانينيات والانتفاضة الراهنة، باعتبار أن الثانية جنحت الى العنف بصورة أكثر وضوحا. فلكي تجوز مقارنة كهذه لابد من أخذ مجموعة من المعطيات المحيطة بكل منهما بعين النظر والتدبر. لقد أعاد الاحتلال الاسرائيلي انتشار قواته بعيدا عن متناول حجارة الفلسطينيين وتظاهراتهم، واحتجاجاتهم ومسيراتهم وكافة أنماط مقاومتهم المدنية.. نتيحة لواقع ما بعد أوسلو وتوابعه، لم يعد من الممكن الاضطلاع بعصيان مدني أو سياسة عدم تعاون مع الوجود الاسرائيلي على نحو يوجع هذا الوجود ويعكر عليه حياته. ولعله من المؤسف حقا أن يكون عكس ذلك هو الصحيح. فاسرائيل تعاقب الفلسطينيين باغلاق أبواب العمل أمامهم، بما يوقعهم تحت طائلة البطالة والفقر.. هذه مجرد غيض من فيض الأمثلة الدالة على اختلاف ساحة المواجهة بين الانتفاضتين. على أن أبرز ما تغفله القراءات في هذه الناحية، وجود ما يقرب من اربعين ألف بندقية في حوزة القوى الفلسطينية متعددة الأسماء والوظائف التي نجمت عن قيام سلطة الحكم الذاتي. وليس من العدل أن يطالب كل هؤلاء المسلحين بضبط النفس وهم يرون إخوانهم وذويهم وبني شعبهم يسحقون بالبطش الاسرائيلي ولا يفعلون شيئا لهم!.. المثير أن معسكر اسرائيل ومحازبيها - الاميركيين بالذات - كان يأمل أن توجه بنادق رجال السلطة الى الداخل الفلسطيني. ولو أن ذلك حدث، لما احتج هذا المعسكر على السلاح الفلسطيني. والمراد بهذا أن العسكرة الفلسطينية مرفوضة إذا ما قصدت الاحتلال الاسرائيلي ورموزه فقط. ومن ناحية ثانية، يوغل الرافضون لعسكرة الانتفاضة في الطوباوية، حين يستحضرون تجارب اللاعنف، ويوعزون الى النضال الفلسطيني بالاقتداء بها. فالنموذج الهندي على زمن المهاتما غاندي بعيد الى اقصى الحدود عن احتمال المرور والنجاح في الحالة الفلسطينية. ومن يفترض غير هذا يخادع نفسه قبل أن يضلل الآخرين. إن الخلاف بين النموذجين الهندي والفلسطيني يتعلق بكل شيء تقريبا، الزمان والمجال الجغرافي وطبيعة الاستعمار ونوعيته والتركيب والمعادلات السكانية وحدود الصراع ومجالاته وابعاده.. ثم إن تجارب اللاعنف الأحدث عهدا، كتلك التي عرفتها بعض دول شرق أوروبا، لا تتعلق بقضية الاستعمار والتحرير، وإنما بمسألة التحول الديمقراطي وتغيير الخيارات الأيديولوجية. وهذه كانت محفوفة ومحفوزة بتحول أشمل في النظام الدولي ليس هنا مقام الاستطراد اليه. ومن ناحية ثالثة، فإن أنصار النضال المدني الصرف لا يطرقون بطرحهم بابا جديدا تم اكتشافه فلسطينيا على أيديهم. فثمة تجربة غنية للفلسطينيين وسوابق لا حصر لها مع هذا الباب، من عشرينيات القرن الماضي الى ثمانيناته وتسعيناته. ويكفي التذكير بسنوات الانتفاضة الأولى الستة(1987 ـ 1993) التي لم تحرر شبرا من أرضهم. أما عن إخفاق المداخل القانونية وضغوط الرأي العام العالمي في معالجة مأساتهم فحدث ولا حرج. وبين ما يدفع به هذا الفريق أن عنف الانتفاضة منح الاسرائيليين مبررات لامتطاء صهوة قوتهم وجبروتهم بلا حدود، ما يتوجب معه التوقف عن هذا العنف لدرء هذه المبررات. غير أن هذه المحاجة تتناقض وحقيقتين: الأولى، ان اسرائيل هي الطرف المبادر للعنف على ما أشرنا أعلاه. الثانية، أن قوى العنف وما يسمى بعسكرة الانتفاضة عرضت التوقف عن أسلوبها اذا ما تحولت اسرائيل عن ارهابها الدموي ضد الشعب الفلسطيني. الأمر الذي لم تستجب له الأخيرة، وعمدت الى إفساده، فهي تُملي ولا يُملى عليها! والشاهد، أنه ليس ثمة دليل على أن مفهوم ردع الارهاب الاسرائيلي بالعنف الفلسطيني، وبخاصة النمط التضحوي الاستشهادي منه، فد فشل عمليا. فلا أحد يعرف الى أين كان سيذهب الاسرائيليون في ارهابهم ودمويتهم بدون وجود هذا الرادع. ـ كاتب فلسطيني

Email