تجربة المبدع واحدة، جوهرها واحد، سواء كان روائيا أو شاعرا أو نحاتا أو رساما أو سينمائيا أو مسرحيا، اكتشفت ذلك وأنا أقرأ تجارب الآخرين، وهذا نوع من الكتابات أفضل، خاصة عندما يكون لمبدعين كبار، خلال الايام الماضية انهيت قراءة نص جميل (بعنوان (فيلليني) صادر ضمن سلسلة مخصصة لكتابات كبار السينمائيين عنوانها الفن السابع، تصدر عن وزارة الثقافة السورية، فيلليني المخرج الايطالي الأشهر لم يكتب النص، انما هو حصيلة لقاءات مطولة مع الصحفية الالمانية شارلوت شاندلر، على امتداد أربعة عشر عاما، تمت في روما، بدأت في عام ثمانين من القرن الماضي، واستمرت الى الايام السابقة على وفاته عام ثلاثة وتسعين، صداقة عميقة، ولقاءات طبيعية توفرت خلالها الحميمية، في المطاعم، في المقاهي، في السيارة، في البيت، ترجمها الى العربية عازف حديفة، ترجمة جميلة، رصينة وسهلة. تقول شارلوت شاندلر ان واقع فيلليني يتجاوز حتى احلامه، لقد عبر عن هذه الاحلام في أفلامه التي تعد تراثا غنيا. كان يقول ان أهم موضوع في حياته هو (الاحلام التي هي الحقيقة الوحيدة) انه يتساءل، هل تنتهي الاحلام؟ من تلك الاحلام استمد خصوصية فنه، ويقول انه حل الكثير من المشكلات الفنية خلال أحلامه، وما قاله حقيقي، فعندما ينشغل المبدع بموضوعه، خاصة اذ تواجهه مشاكل فنية، أو تقنية فإنه يفكر معظم الوقت فيه، سألت يوما نجيب محفوظ عما اذا كان واجه مشاكل فنية في رواياته وتم حلها خلال الاحلام. وقال انه كان ينام والمشكلة تشغله تماما، وبعد استيقاظ يفاجأ بالحل، وهذا حدث معي أيضا. عندما بدأ فيلليني لقاءاته مع الصحفية قال لها (يجب ان تدوني مقدارا كبيرا من كلمات، حتى أتمكن من مراجعتك اذا رغبت في معرفة شيء من مشاعري في وقت ما، ان البحث عن حقائق الحياة أسهل من تذكر المشاعر، والإنسان لا يتذكر حياته حسب ترتيبها الزمني، فالنحو الذي سارت عليه هو الأهم، أو هو الأهم في الظاهر، نحن لا نتحكم في ذكرياتنا، بل ان ذكرياتنا هي التي تملكنا).. وهذا حقيقي تماما، فالعقل الواعي والباطن يرشحان الذكريات، مايبقى منها، ومايفنى مايتواري، الإنسان لا يختار الذكريات التي يحتفظ بها، بل الذكريات هي التي تختار نفسها، تستجيب أحيانا لمؤثرات خارجية فتطفو على السطح، وتظل دفينة رغم محاولات الإنسان استعادتها. يقول فيليني: (ان تكون وحدك، معناه ان تكون نفسك بكل معنى الكلمة، لأنك تكون حرا في أن تتطور ليس بحسب انقباضات الاخرين، الوحدة شيء خاص، والقدرة على ان تكون وحدك أمر أكثر ندرة. ولقد غبطت دائما أولئك الذين يمتلكون طاقات روحية. لأن الطاقات الروحية تمنحك استقلالا، تمنحك حرية يقول الناس انهم يفتقرون اليها، ولكنهم في الواقع يخشونها، الناس يخشون الوحدة أكثر من أي شيء في الحياة، إذا تركوا وحدهم بضع دقائق فإنهم يبحثون عن شخص ما. أي شخص. بغية سد الفراغ، انهم يخشون الصمت، الصمت وانت وحدك مع أفكارك، مع المناجاة الداخلية التي لا تنتهي)... قد يبدو في كلمات فيلليني بعض التناقض ولكنه متسق في الواقع، كلما تقدم الإنسان في العمر يكون أكثر ميلا الى الوحدة، ربما لأن تجاربه المتراكمة واستعادتها تغنيه عن الاخرين، خاصة عندما يكون المبدع مشغولا بانجاز عمل فني، لا شيء يرضى الإنسان ويشعره بالثراء مثل انهماكه في العمل، يقول فيلليني في موضع اخر أن أجمل أوقاته وأحبها الى نفسه عندما يكون مشغولا بانجاز عمل فني، وهذا صحيح تماما، عندما أكون منهمكا في كتابة عمل أدبي، فإنني أفضل التفرغ تماما له، واكون في أسعد وأمتع حالاتي النفسية والجسدية، وعندما تفرض ظروف الحياة الانقطاع عن هذا العمل لفترة تطول أو تقصر يختل توازني النفسي، اصبح مضطربا، سريع الانفعال، ردود افعالي مفاجئة، للأسف، ضاعت من العمر حقب طويلة، كان ممكنا ان نكتب فيها، ان نبدع قصصا لم تكتب، انني اتحدث بصيغة الجمع، لأن الادباء العرب جميعا بمن فيهم نجيب محفوظ (حتى حصوله على جائزة نوبل) لا يمكنهم التفرغ للكتابة، عائد كتبهم لا يكفي لتغطية نفقات حيواتهم، ولذلك يعيش معظم الأدباء العرب واقعا مزدوجا، يعملون في وظائف ومهن ينفقون منها على الأدب أو الفن، ولم أعرف الا عددا محدودا جدا متفرغاً تماما لابداعه، لذلك أتفهم تماما مايقوله فيلليني: (كل يوم لا عمل فيه يوم ضائع، ولذلك فإن صناعة الأفلام بالنسبة لي هي مثل ممارسة الحب، إن أسعد اللحظات عندي هي عندما أعمل فيلما، ومع أن العمل يستحوذ علي بالكلية، ويستهلك وقتي وأفكاري وطاقتي كلها، فإنني أشعر بأني أكثر حرية مني في أي وقت اخر، اشعر بالعافية حتى لو لم يغمض لي جفن، وما استمتع به عادة في الحياة، يزداد استمتاعي به لأنني أكون في ذروة النشاط الذهني، الطعام يغدو أطيب، والعاطفة تغدو أفضل. في أوقات الاخراج أكون مفعما بالحياة الى أقصى حد، أكون في ذروة الرجولة، تفاجئني طاقة خاصة تجعلني قادرا على القيام بكل الأدوار، والمشاركة في كل أعمال الفيلم من غير أن أتعب أبدا، ومهما تأخر وقت التصوير ليلا فإني لا أكاد استطيع الانتظار الى اليوم التالي).. كإن فيلليني يعبر عني، في الأوقات التي انشط فيها للكتابة اتمنى لو نمت عددا أقل من الساعات، لا شيء يثير حسرتي وألمي مثل التوقف عن الكتابة في ساعة متأخرة من الليل لاضطراري الذهاب الى الفراش لانني ملزم بالاستيقاظ مبكرا للذهاب الى الوظيفة، الى العمل الذي يضمن لي راتبا ثابتا يمكنني من حماية ما اسميه بالدائرة الحمراء، منطقة الابداع الادبي، والعمل بالصحافة بالنسبة لي وظيفة، رغم خصوصية المهنة، ان حلمي بالتفرغ التام للكتابة الأدبية يلازمني منذ أيام الصبا وحتى الآن بينما يدنو عمري من الستين. يتحدث فيلليني باقتدار عن الذاكرة، كيف يستعيد بعض صور الطفولة قبل تعلمه الألفاظ. لذلك يتذكر بالصور، وتبدو له أيام المدرسة متشابهة، فالسنة مثل اليوم، والشهر مثل السنة، ويؤكد على أهمية الاحلام في حياته. (إن بعض أحسن أفكاري تخطر لي وأنا نائم، وهي أحسنها لأنها صور وليست كلمات. وحين أفيق، أحاول أن أرسمها دون ابطاء قبل ان تبهت وتتلاشى، وأحيانا تخطر اليّ الافكار ثانية، ولكن لا تخطر عادة بالصورة ذاتها تماما. ولأن الكثير من أفكاري وافتني في الأحلام، ولم أعرف كيف أو لماذا وافت فإن قواي الخلاقة ظلت متوقفة على شيء لم أتحكم فيه، ان الموهبة الغامضة كنز عظيم، ولكن هناك خوف دائما من أن تذهب، مثلما جاءت مكتنفة بالغموض)... الخوف من فقدان الموهبة يزعج جميع المبدعين، الخشية من جفاف ينابيع الافكار والمشاعر، الرغبة في الكتابة، الرغبة في الرسم، في النحت، الرغبة في الابداع تشبه الرغبة العاطفية، وأحيانا يصاب المبدع بعفة ابداعية، تكون لديه الافكار ولكنه غير قادر على الفعل، وقد حدثني نجيب محفوظ عن حالة توقفه عن الكتابة منذ عام اثنين وخمسين، وشبهها بالعجز العاطفي، وهذه الفترة من التوقف التي انتهت عام تسعة وخمسين بظهور (أولاد حارتنا) من أشد المراحل غموضا في مسيرة نجيب محفوظ. غير ان المؤكد صحة هذا الشعور الذي عبر عنه فيلليني ويعرفه كل مبدع، الخوف من التوقف المفاجئ أو عدم القدرة على الاستمرار، ان الموهبة حالة ما تزال غامضة، وجفاف ينابيعها حالة أشد غموضا، ومن بين الادباء الذين عرفتهم، لم يعلن عن توقفه وجفاف غصنه الا أديب واحد فقط، وهو يحيى حقي، أحد أعظم امراء النثر العربي في القرن العشرين، وهناك احباء يتحولون الى حالات مزعجة بعد توقفهم واصرارهم على الظهور الاعلامي المكثف، ويساعد هؤلاء في السنوات الأخيرة تعدد وسائل الاعلام المرئي والمسموع، خاصة الفضائيات، حيث يظهرون للحديث في كل شيء، السياسة والفن وشتى أمور الحياة، وتبحث عن جديدهم فلا تجد. ارتباط فيلليني بمدينة روما، يذكرني بارتباط نجيب محفوظ بالقاهرة القديمة، وعلاقتي بها أيضا، جاء فيلليني الى روما من الريف الايطالي ولم يولد بها. (لحظة رأيت روما أول مرة، امتلأ قلبي رهبة، وفي الوقت ذاته شعرت بأنني جئت الى بيتي، عرفت أن روما هي المكان الذي قدر لي أن أعيش فيه، وعلي أن أعيش فيه، فإليها كنت أنتمي، وكان خالي مريضا جدا بحيث لم أتمكن من التعرف اليه، الا انه هو وخالتي أهدياني شيئا هدف للمرة الأولى في حياتي).. الهدف هو روما، التي اصبحت محورا لاعمال فيلليني، ومستقرا له يكره الابتعاد عنها، واذا سافر يخشى حدوث مكروه لها، يعود ملهوفا، قلقا، فيجد كل شيء كما عهده، يؤكد ارتباط فيلليني بروما حاجة المبدع الى أسس محسوسة يرتبط بها وتكون مصدرا لأفكاره، من هذه العناصر المكان. (مهما غادرتها وعدت اليها، فإن روما تبدو لي عند كل عودة أروع منها في أي وقت مضى، لقد أحببت دائما أن أقطن في الأماكن القديمة، فإذا سكنت في مكان جديد يهرم، ويشعرك بالهرم، واذا سكنت في محلة قديمة لا يمكن ان ترى اي علامة على انها تقدم لقد اعطتها القرون مظهرها ولا يمكن تبين التبدلات التي تحدثها عقود قليلة).. يقول انه منذ ان جاء الى روما اصبحت مقره الدائم، لقد ولد في لحظة حضوره اليها، ويعتبر ذلك يوم ميلاده الحقيقي، ولا أتذكر ذلك التاريخ الذي جاء فيه الى روما لاحتفل به، وهنا يكشف فيلليني عن بعض من حقائق الحياة في يسر وسهولة وعمق. (هكذا الحياة على الأغلب، فحين تمر بنا أوقات مهمة لا نميزها، ولا حتى نلاحظها، نكون منشغلين باللحظة التي نحياها، ولا ندرك الا حين ننظر الى الوراء أهمية تلك اللحظة في حياتنا).. تلك بعض الأفكار التي وجدت انها تعبر عني، طبعا لم أعرض لتفاصيل حياة فيلليني، ولا لعلاقته الرائعة بزوجته، ولا تفاصيل اعماله الفنية التي تحدث عنها باستفاضة، لكنني اثرت محاورة بعض المواد التي توصل اليها ويمكن اعتبارها دستورا للحياة، حياته وحياتنا.