ابجديات، بقلم: عائشة ابراهيم سلطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

التناقض والازدواجية مثل الديكتاتورية لا تنمو في فراغ، ولا يمكن اعتبارها حالة فرد، انها حالة مجتمع، يتعاون ويتفق ضمناً على أن تتستر فئاته، ونخبه المختلفة على «سوءات» بعضها البعض بما يحقق ثبات المصالح لضمان المزيد من الأرباح. وفي كل الأزمان والمجتمعات، لم يسلم السياسي من النقد اللاذع، ومنذ ان جرت انهار الفلسفة على أرض اليونان، وجميع الفلاسفة يعتبرون السياسي رجلاً غير صالح! بمعنى انه رجل اللاثبات في كل المواقف والدوائر عدا دائرة المصلحة، ومن هنا كانت جملة تشرشل الشهيرة: «في السياسة لا توجد صداقات دائمة، ولكن توجد مصالح دائمة». ولذلك لا يثق الناس عادة بأهل السياسة، مع انهم يقتاتون اخبارهم ووجوههم صباح مساء، وأهل السياسة أنفسهم لا يثقون ببعضهم البعض خاصة حينما يكونون محترفين يلعبون السياسة وفق أصولها، تماماً كما تلعبها اليوم الولايات المتحدة مع العالم العربي، وشارون مع الفلسطينيين وعرفات مع امريكا، وأمريكا مع بغداد، ونحن جميعاً مع نخبنا السياسية والثقافية. ولأن السياسة عالم لا ينتهي من المصالح والأقنعة، ولأن كل ذلك مؤسس بعلم وقواعد تأخذ أسماء ذات وقع كالدبلوماسية، والمصالح القومية العليا، والأمن القومي ومبادئ على شاكلة (اذا لم تستطع ان تغلبهم فانضم اليهم).. الخ فإن السياسة أو فن الممكن أصبح مقبولاً ولأهله كل الاعذار سلفاً، طالما اللعب بالأوراق المتاحة هو القانون السائد. لكن اللامقبول ان ينافس أهل الثقافة والعلم أهل السياسة، فيتحولون بقدرة قادر الى كائنات تستعير من السياسة كل أصول البراجماتية المتاحة، وكل الديكتاتورية، والاحتماء خلف سواتر المصالح والتحالفات الضمنية. لقد بدأت نخب ثقافية كثيرة في العالم العربي ومنذ فترة طويلة تتخلى عن مثالياتها وايمانها بقيم سادت طويلاً، وملأ المثقفون الفضاء زعيقاً وهم يحضون الناس على التمسك بها، ويعظونهم بشكل مؤثر، لم يكن ذلك في عهود مارتن لوثر أو كالفن في القرون الوسطى، لقد كان ذلك في ستينيات هذا القرن. وفجأة اختفى الصوت الزاعق بالمواعظ، ودخل أغلب المثقفين سبات الوعي والايمان، وبدا واضحاً ان صوت المنافع والحسابات الخاصة قد غدا الاقوى والاكثر وضوحاً. ولم يعترف احد ـ بما فيهم المثقف طبعاً ـ ان دورة الوعي قد تجمدت تماماً، وان حالة اغلب المثقفين قد انكشفت امام الجميع، فتضامن المجتمع مع مثقفيه على حالة قاتلة من السكوت والتغاضي كل عن تناقضات الآخر، ودخلا معا ذات الماراثون وذات النفق المظلم حيث مثاليات الستينيات لا مكان لها. المشكلة اليوم ان هذا المجتمع انتبه فجأة ليكتشف ان لا ضوء في نهاية النفق ولا نهاية للماراثون، وانه فقد الكثير من قواه دون نتيجة، من هنا بدأ يبحث عن حاملي الشارات لاعلان نهاية السباق، وكان المثقف العربي هو المعني بهذه المهمة، لكن الفاجعة ان المثقف تعالى على مهمته وألقى الشارة وركض منذ زمن في اتجاه آخر! اليوم يبحث المجتمع عن مثقفيه لكبح جماح العربة، واعادتها لقضبانها، فالكل قد فقد الفرامل، الا ان جزءاً كبيراً من هؤلاء المثقفين قد تحولوا الى مافيا مصالح وديكتاتوريين، ولم يعد لهم تأثير يذكر، سوى زعيق مبحوح، وأصوات لا توقف أية قافلة تسير بغير هدى. فمن يضبط البوصلة مجدداً؟!

Email