تقع مدينة (مشهد) شرق (ايران).. وهي مدينة شيعية (مقدسة) مثل (النجف) و(كربلاء) في (العراق).. ففي (مشهد) توجد (مراقد) بعض (أهل البيت).. وأشهرها ضريح الامام (علي بن موسى الرضا.. وهو مايجعل المدينة مزارا دينيا لكل من يريد التوبة والبركة والتقرب الى الله.. وان كان ذلك لا يمنع بعض النساء من البحث عن زوج في الزحام.. ولو على طريقة زواج (المتعة) المباحة هناك. لكن قرب (مشهد) من حدود الطريق البري المؤدي الى (أفغانستان) وضعها في موقف لا تحسد عليه.. فالمخدرات والممنوعات تهرب الى الداخل تحت الخطوط الحدودية الوهمية.. والموبقات أصبحت تجارة رائجة.. وفي أحياء الصفيح والخيش والكرتون ـ حيث يعيش ربع السكان الذين يزيدون قليلا على المليوني نسمة ـ تنتشر الجريمة المنظمة وعلى رأسها الدعارة التي وضعت المدينة المقدسة في حرج شديد أمام العالم كله مؤخرا. كانت (مشهد) طوال الأسابيع هدفا صريحا لـ (الميديا) من اربع انحاء العالم بعد سلسلة الجرائم المروعة التي هزت المدينة والتي راح ضحيتها 16 امرأة من (نساء الليل).. قتلهن رجل واحد تصور نفسه مبعوث السماء لتطهير الأرض من الرذيلة.. هو (سعيد حنائي).. ليذكر الناس بـ (سعيد) آخر هو (سعيد امامي) المسئول عن سلسلة اغتيالات المثقفين والسياسيين والليبراليين غير المتشددين.. والذي أعلن من جانبه بعد القبض عليه انه مبعوث السماء لتطهير الأرض من المفكرين المارقين الذي يعطلون تنفيذ مشيئة الله.. وهكذا اكتملت الصورة في (ايران).. من التطوع الشخصي للتخلص من عقول (الرجال) المفتوحة الى التطوع الشخصي للتخلص من أجساد (النساء) الملوثة. (سعيد حنائي) عامل بناء عمره 40 سنة.. ولد في أسرة محافظة.. والده كان معلما للقرآن.. وأمه لا تزال تلقى الدروس الدينية في مسجد يسمى (همساية).. وهو لم يكمل تعليمه.. ولم يتجاوز الشهادة (الابتدائية).. وقد خدم في المخابرات الايرانية مثله مثل (سعيد امامي).. وهو ما ألقى على السلطة الدينية في (ايران) بتهمة الاشتراك في تصفية (العاهرات) تصفية جماعية.. بعد أن ثبت تورطها في تصفية المثقفين والسياسيين والصحفيين والمعارضين لها تصفية جماعية أيضا. كانت أولى جرائم (العاهرات) في 29 يوليو عام ألفين.. ففي الساعة التاسعة من ليل ذلك اليوم اتصل شخص مجهول بمركز الشرطة في المدينة ليبلغ عن وجود جثة فتاة عمرها 29 عاما.. قتلت بأسلوب غريب.. وهو خنقها بـ (الشادور) أو الزي الشرعي الايراني الأسود.. ثم لفت به.. وفيما بعد اتضح ان الشخص المجهول الذي أبلغ الشرطة هو القاتل نفسه الذي كان يقف مع الشرطة.. ويفتش معهم على الأدلة الجنائية.. بل وكان يتطوع للركوب في سيارة (الاسعاف) التي تحمل جثة الضحية إلى (المشرحة) ثم الى (المقبرة).. ولم يكن يعود الى بيته الا بعد أن يطمئن أنها قد دفنت تحت الارض وأصبحت جزءا من الثرى. ولم تمر ثلاثة أيام الا وتكرر نفس المشهد.. وبنفس التفاصيل.. وبعد ثلاثة أيام أخرى كانت هناك ضحية ثالثة.. ثم رابعة.. وخامسة.. وسادسة.. ثم توقفت عملية القتل عدة شهور.. وعادت لتكرر نفسها دون أي اختلاف أو تغير الا في شخصية الضحية.. وكانت جريمته الأخيرة في 23 (يوليو) الماضي.. قبل ثلاثة أيام من القبض عليه.. وقبل 6 أيام من الذكرى السنوية لجريمته الأولى. لم يكن هناك اعتداء جنسي على الضحايا وهو ما ضاعف الاهتمام بهذه الجرائم وورط أطرافا سياسية ودينية في مناقشتها والاختلاف حولها.. ولو كان هناك دافع جنسي لما توقف المجتمع الإيراني الذي يفور بالتيارات المتصارعة عند الجرائم كما سبق أن حدث في (طهران) بعد أن تعرضت الى سلسلة جرائم لقتل النساء ارتكبها سفاح وصف بـ (خفاش الليل).. وكان يغتصب النساء قبل قتلهن.. وقد أعدم قبل نحو عامين في احدى الساحات العامة.. وكان كل ماأثاره هو مخاوف النساء في العاصمة. قبل القبض على (سعيد حنائي) وصفته الصحافة بـ (العنكبوت).. فهو يمد خيوطه الناعمة بهدوء وسلاسة حول الضحية.. وينجح في جعلها تستسلم له.. وتمشى وراءه الى مصيرها المجهول.. وكان يخرج بسيارته (نصف النقل) ـ التي يستخدمها في حمل مواد البناء ـ الى أماكن تجمع (العاهرات) الفقيرات بالقرب من الطرق المفتوحة.. ويتوقف بعض الوقت ليحدد ضحيته.. وكان مايغريه في الاختيار هو أن تكون الضحية صغيرة في السن لأن عمرها في الرذيلة سيكون أطول.. وأن تكون وحيدة حتى لا ينكشف أمره بعد التخلص منها.. وقد كان يقترب منها مثل أي (زبون) محترف يرغب في المتعة.. ويتحدث معها عن الظروف الصعبة التي تدفع الإنسان الى الهاوية الاخلاقية ثم يعرض عليها أن تذهب معه الى بيته.. وقبل أن يقترب من البيت يطلب أن تخفي نفسها بحجة (الجيران) وهو في الحقيقة لا يريد أن تعرف عنوان بيته أو ملامح وعلامات تدل عليه اذا حدث مايعطل قتلها.. وبمجرد أن تدخل البيت يهاجمها بحبل غليظ لخنقها ثم يلف طرف (الشادور) ليجهز عليها.. وبعد أن تلفظ أنفاسها يلفها في قطعة (موكيت) ويحملها الى العراء ويسارع بالاتصال بالشرطة. وفي الفترة التي توقف فيها عن القتل ـ وهي نحو ستة شهور ـ لم يكن بيته يسمح بدخول غرباء فيه.. وعندما قبض عليه لم يتردد في القول: انه كان يقدم على قتل ضحاياه دون أي شعور بالرهبة أو الخوف.. وكأنه كان يقطف ثمرة (خربوزة) وهو نوع من (البطيخ) الايراني الأصفر على حد قول مراسل صحيفة (الحياة) اللندنية في (مشهد).. أو على حد قول مجلة (نيوزويك) الأمريكية: إن القاتل لم يشعر بالندم واستطرد ليس لهن أي قيمة عندي.. إن قتل النساء لم يكن أصعب من كسر بطيخة. وتعلق (نيوزويك) قائلة: إن مثل هذه التعليقات لو أطلقت في بلد آخر فإنه يمكن تجاهلها باعتبارها صادرة عن شخص مضطرب عقليا. ولكن هناك تبريرات لمثل هذا القتل الطائش في القوانين الشرعية الايرانية التي ترى أن بعض الناس لا يستحق الدم الذي يجرى في عروقه ولذلك يمكن انهاء حياته دون التعرض للعقاب. ويقول عالم في الشريعة رفض ذكر اسمه للمجلة الأمريكية إذا تمكن القاتل من اثبات ان الضحية مهدرة الدم بسبب سوء سلوكها فإنه لا يوجه اليه أي اتهام مثل هذه القوانين هي التي يحاول الاصلاحيون في (ايران) تجاوزها.. خاصة وانه ليس من سلطان أي شخص عادي ـ نجار أو طبال أو ميكانيكي سيارات ـ أن يضع نفسه مكان العالم ببواطن الدين والشريعة والقانون.. وحتى لو كان هذا الشخص عالما وفقيها فليس من حقه أن ينيب عن المجتمع في توجيه الاتهام واصدار الاحكام وتنفيذها. وقد كانت الصدفة وحدها وراء الكشف عن (سعيد حنائي).. كانت قوات البحث الجنائي قد توافدت على (مشهد) بالمئات لفك طلاسم مايجري.. وقد استدعى الأمر التحقيق مع نحو 500 فتاة من فتيات الليل من اللواتي لهن سوابق في الدعارة والمخدرات.. وكانت احداهن هي (مجعان) ـ ومعناها (أهداب) ـ في مقعد خلفي في سيارة مع شابين.. وقد كشفت عن انها ذهبت مع القاتل الى منزله بحجة أنه سيعطيها أكياس (أرز) و (سكر).. وفي هذه المرة كان القاتل يركب دراجة بخارية بعد أن عرف أن الشرطة وجدت آثار مواد البناء ـ التي كان يحملها في سيارته ـ في أحد مواقع الجريمة.. وعندما اقتربا من بيته طلب منها أن تخفي نفسها تماما الا أن الفضول جعلها لا تنصت الى نصيحته أو تحذيره.. وعرفت معالم المكان.. وفي داخل البيت حاول خنقها لكنها نجحت في النجاة منه.. وفرت هاربة.. على أنها خشيت أن تبلغ الشرطة خوفا من أن لا تصدقها.. خاصة وانها من أصحاب السوابق في تجارة وتعاطي المخدرات.. وفيما بعد قال سعيد حنائي انها كانت لديها أظافر طويلة فخدشت يدي ولكمتني في معدتي وتمكنت من الهرب.. وخارج البيت حاولت ارضاءها ومنحها نقودا حتى لا تبلغ الشرطة.. لكنها رددت في هستيريا واضحة أنت القاتل أنت القاتل. لم يكن من الصعب الوصول اليه بعد ذلك.. وفور القبض عليه سارع بالاعتراف. بل لم يتردد في القول: انه لو كان قد ترك طليقا لواصل القتل.. فقد كان في نيته التخلص من 150 امرأة من هذه العينة.. لكن المثير للدهشة أن القبض عليه قوبل باستنكار شديد من التيار المحافظ الذي وصفه بأنه (مناضل ثوري) وتبرع له بأموال تجاوزت ماتحتاجه هيئة الدفاع التي سرعان ماأعلنت تطوعها في القضية بلا مقابل.. وحسب مانشرته مجلة (نيوزويك) نقلا عن صحيفة جمهوري اسلامي فإن (سعيد حنائي) لا يستحق المحاكمة.. وأضافت: (إن الذي يستحق المحاكمة هم أولئك الذين يسعون للقضاء على القيم والاخلاق وينشرون الفساد مثلهم مثل ضحايا القاتل). واعتبرت مثل هذه التعليقات ـ الى جانب المظاهرات ـ دليلا على أن بعض أطراف الدولة الايرانية لها يد في هذه الجرائم وضالعة فيها.. وتستخدمها في احراج التيار الاصلاحي الذي يتزعمه (محمد خاتمي) رئيس الجمهورية الذي يعد معارضا للتيار المتشدد.. وكان (خاتمي) ـ منذ انتخابه أول مرة في عام 1997 ـ قد وضع حدا للممارسات غير القانونية التي كانت تمارسها اللجان الثورية التي كانت تفتش على الاخلاق وطبيعة العلاقات الشخصية بين الجنسين في الشوارع والسيارات والبيوت أحيانا بخلاف التفتيش في الأفكار والآراء والعقول على طريقة القرون الوسطى.. وكانت هذه اللجان قادرة على الحكم على ضحاياه وتنفيذ العقوبة التي كانت تراها مناسبة دون استئناف أو نقص أو اعتراض. لقد أوقف (خاتمي) كل هذه التجاوزات والتصرفات وحذر منها خلال أدائه لليمين أمام البرلمان. قائلا: إن اسوأ تهديد ضد الاسلام هو اعمال العنف التي ترتكب باسم الدين.. لكن مثل هذا التحذير لم يلق الانتباه الكافي.. فكانت التنظيمات السرية تحت الأرض لاغتيال السياسيين والصحفيين والاصلاحيين.. وعندما غضب المجتمع الايراني منها ولم يتعاطف معها تغيرت عمليات الاغتيالات من السياسة الى الدعارة لعل هذا التجديد ناحية الاخلاق يأتي بالتعاطف المطلوب.. على أن هذا التعاطف لم يحدث بالقدر الذي كان متوقعا.. فقد نهض التيار الاصلاحي ليتهم المرشد العام (على خامينئي) بأنه وراء قتل العاهرات.. ودللوا على ذلك بأن القاتل بمفرده لم يكن ليعرف شخصية الضحايا من العاهرات لولا مساعدة أطراف تملك السجلات والمعلومات.. كما أن بقاء القاتل طوال هذه المدة حرا يفعل مايشاء دليل آخر على رأي الاصلاحيين في تورط السلطة الدينية. ووجدت الصحافة الايرانية المستقلة فيما جرى فرصة لأن تفتح ملفات الفقر المدقع الذي اعتبرته السبب المباشر وراء انحراف الضحايا.. وكشفت هذه الصحف أن معظم الضحايا بلا أسر تسأل عنها لو اختفت.. وان الواحدة منهن تعيش على دخل لا يزيد على 10 دولارات في الشهر في أغلب الأحوال.. وهو مبلغ لا يكفيها خبزا حافيا.. ولا تملك أكثر من ثوب واحد.. ولا تعرف الرعاية الصحية.. وليس في بيتها مياه نقية أو شبكة للصرف الصحي. وعندما فشلت حملة التعاطف مع القاتل بدأ التيار الاصلاحي يلجأ الى الحيلة التقليدية للتخفيف على القاتل وهو أنه مصاب بمرض نفسي وعصبي يجعله غير مسئول عن تصرفاته وأفعاله.. وهي الحالة التي يكون عليها عادة هذا النوع من القتلة في كافة انحاء العالم ممن يختارون ضحاياهم من العاهرات.. وأغلب الظن أننا لا نذكر ذلك القاتل الذي ضاعت تفاصيل جرائمه في (مصر) اثناء حرب (الخليج) والذي كان يقتل فتيات الليل ويقطعهن قطعا صغيرة تصلح طعما للقطط والأسماك. قيل ان زوجة القاتل الايراني تعرضت للضرب بقسوة من عاهرات حاولت ارجاعهن للطريق المستقيم.. وقيل انه هو الذي تعرض للضرب ولكن من سائقي الشاحنات الذين يلتقطون العاهرات ويقضين معهن الليل في الشاحنات.. كانوا قد رفضوا نصائحه بالتوبة والاستقامة.. وقيل ان زوجته هجرته بعض الوقت وعندما عادت اليه نقلت اليه عدوى مرض (الايدز) الذي أصيب به من جراء خيانتها.. ولكن المؤكد انه كان يحتفظ بكراسة فيها أرقام الشاحنات التي كانت تتوقف لالتقاط النساء سيئات السمعة. لقد عادت (ايران) ـ بسبب هذه الجرائم البشعة وحماس التيار المتشدد لها ودفاعه عنها ـ الى بؤرة (الميديا) في العالم كله.. وراحت منظمات حقوق الإنسان تصدر البيانات الغاضبة ضد السلطة الدينية.. وراحت دور النشر تطبع كتبا يصعب حصرها بسهولة ترصد تجارب نساء ايرانيات هربن من هذا الجحيم.. وتصدرت هذه الكتب قائمة (أفضل المبيعات).. وسارعت محطات (التلفزيون) الأمريكية والأوروبية في شراء حق تحويل بعضها الى مسلسلات درامية لا جدال أنها ستفتح النار على المسلمين وتواصل الاتهامات التي يرتكبها البعض ويدفع ثمنها الكل.. ولا حول ولا قوة الا بالله. ـ كاتب مصري