حقوق الانسان في السياسة الخارجية الأمريكية ـ بقلم: لواء ركن. حسام سويلم

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المعروف أن الولايات المتحدة تصدر سنويا ثلاثة تقارير تتضمن أحكاما على الدول الأخرى فيما يتعلق بالمفهوم الأمريكي لحقوق الإنسان: التقرير الأول عن انتهاكات حقوق الإنسان، والثاني عن انتهاكات الحريات الدينية، أما التقرير الثالث فيتعلق بالممارسات الارهابية. وفي هذه التقارير الثلاثة تنصب الولايات المتحدة نفسها مدعيا وقاضيا تدين من تريده من الدول وتفرض عليها ماتشاء من عقوبات، وتبرئ وتعفو عمن تشاء ممن ترضى عنهم وتكافئهم. لذلك جاء اسقاط عضوية الولايات في لجنة حقوق الإنسان بمثابة ادانة دولية لهذه التقارير الثلاثة من حيث المبدأ، وتسفيها لمضمونها الانتقائي سواء في الادانة أو التبرئة، واستنكارا وشجبا للمواقف غير الإنسانية وغير الاخلاقية التي اتخذتها الولايات المتحدة متحدية بذلك ارادة المجتمع الدولي حين رفضت التوقيع على معاهدة دولية للتخلص من الألغام الأرضية، وعارضت انشاء محكمة جنائية أقرتها المجموعة الدولية في روما، كما عرقلت مشروعا انسانيا لتوفير أدوية الأمراض المستعصية والخطيرة مثل الأيدز بأسعار مخفضة لمعالجة ضحايا هذه الأمراض في دول العالم الثالث الفقيرة. كذلك أعلنت انسحابها من (معاهدة كيوتو) لحماية البيئة. كما لم تستطع الولايات المتحدة أن تفسر سياستها وممارساتها اللاإنسانية واللاأخلاقية، عندما كانت ولاتزال تحمي أنظمة سياسية معادية للحريات ولحقوق الإنسان، وممارساتها الوحشية في حرب فيتنام، ودعم حكومة اسرائيل التي تمارس أقصى صور العنصرية والبربرية ضد الشعب الفلسطيني، والتغطية على جرائمها، والتدخل الأمريكي المسلح في دول أمريكا اللاتينية، والعمليات الانقلابية التي تدبرها أجهزة المخابرات الأمريكية في العديد من دول العالم، وفرض المقاطعة والحظر والحصار على سبعين دولة في العالم، وخفض مساعدتها للدول الفقيرة الى أدنى حد، ورفض الكونجرس التصديق على ستين معاهدة دولية من بينها معاهدة فرض حظر نهائي وشامل على التجارب النووية.. الى غير ذلك من السياسات والممارسات الأمريكية التي تتناقض تماما مع المفهوم الحقيقي لحقوق الإنسان، وهو مايستدعي القاء الضوء على الكيفية التي تستثمر بها السياسة الخارجية الأمريكية قضية حقوق الإنسان. مفهوم الإدارات الأمريكية تعتبر قضية حقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية بمثابة مبدأ اخلاقي يبرر التوسع والاتجاه للعالمية، وقد سيطر هذا الاتجاه مما جعل الولايات المتحدة تتورط وتتدخل خارجيا بدعوى حماية حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد تمثل ذلك في أشكال عديدة من التدخل تراوحت بين الحصار الاقتصادي وحتى التدخل العسكريوإذا نظرنا الى سجل الادارات الأمريكية المتعاقبة حول هذه القضية منذ مابعد الحرب العالمية الثانية، فسوف نجد إدارتي ترومان وايزنهاور قد استخدمتا قضية حقوق الإنسان لمحاربة الشيوعية واحتواء الاتحاد السوفييتي، وبرز التناقض آنذاك في السياسة الأمريكية من اعتبارها العالم الحر الذي تقوده يحوى ليس فقط الديمقراطيات الصناعية، لكن شمل ايضا أنظمة ديكتاتورية في العالم الثالث تضطهد شعوبها بدعوى محاربة الشيوعية. أما إدارة جونسون فقد أرسلت في ابريل 1965 القوات الأمريكية لاستعادة النظام في الدومينكان.وتعد حرب فيتنام بمثابة ثورة أو انقلاب على هذا التناقض في السياسة الخارجية الأمريكية بسبب الشعور المتزايد بعدم الرضا عنها. برز ذلك في ادارة نيكسون وكيسنجر، اذ لم يعد حصار الشيوعية مقبولا كأساس اخلاقي للسياسة الأمريكية، مما أتاح لحقوق الإنسان المعترف بها دوليا أن تكون في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية، الا أن فترة حكم نيكسون اتسمت بالاقتراب السلبي من هذه القضية، اذ لم تدعمه سياسات نشطة تتماشى مع الاتجاهات الحماسية التي سادت الكونجرس آنذاك. أما كارتر وريجان، فقد نشطت في عهدهما قضية حقوق الإنسان، اتسمت بالتخطيط في عهد كارتر وبالعشوائية في عهد ريجان، وكان أبرز دليل على ذلك التدخل العسكري الأمريكي في لبنان عام 1985 تطبيقا لمبدأ ريجان (دعم المقاتلين الأحرار)، مما أثار تساؤلات عديدة حول علاقة هذه القضية بالأمن والمصالح الأمريكية. ففي عهد كارتر كانت الاعتبارات الأمنية ذات تأثير كبير في معالجة قضية حقوق الإنسان وكانت متناسقة معها. برز ذلك في معالجة الثورة الايرانية حتى مستوى التدخل العسكري الفاشل ضد ايران، كما كانت المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وراء الدور البارز الذي لعبه كارتر وادارته في التوصل الى معاهدة سلام بين مصر واسرائيل. أما ادارة ريجان فانها تجاهلت حقوق الإنسان في الدول الصديقة لواشنطن، خاصة في أمريكا اللاتينية، مما أدى الى بروز تناقض شديد في الموقف الأمريكي حين كانت واشنطن تساند أنظمة تنتهك حقوق الإنسان لصداقتها لها، بينما تعادي أنظمة اخرى تحترم حقوق الانسان في تعاملها مع شعوبها، وذلك لمجرد عدم ولائها لواشنطن. أما الأمر الأكثر تعقيداً فقد تمثل في وجود صراع بين حكومتين احداهما صديقة والأخرى معادية وكلتاهما لا تحترم حقوق الإنسان وكان على الولايات المتحدة أن تساند احداهما، وهو مابرز اثناء الحرب العراقية الايرانية بشكل واضح حين دعمت الولايات المتحدة العراق في مواجهة ايران وهنا ظهر مبدأ (كيركيبا تريك) الذي أطلق عليه «الارتباط البناء» ويدعو للتحسن التدريجي في الربط بين احتياجات الأمن القومي وحقوق الإنسان، لكونهما متلازمين في المدى البعيد من أجل المصالح الامريكية، الا أن ادارة ريجان لم تلتزم بهذا المبدأ، حيث قدمت الدعم والمساندة لدول عديدة ثبت انتهاكها لحقوق الإنسان لمجرد كونها صديقة لواشنطن ورفعت شعار معادة الشيوعية. وقد ربطت ادارتا كارتر وريجان المساعدات الاقتصادية الأمريكية بسجل الدولة في حقوق الإنسان، ورغم اعلانهما عن التزامهما بتقديم المساعدات للشعوب التي لا يجب أن تعاقب على اخطاء حكوماتها، الا انه كان من الصعب على واشنطن ولا يزال حتى اليوم التفريق في التعامل بين الشعوب والأنظمة التي تحكمها، كما هو الحال في العراق اليوم. وفي عام 1986 استبعدت وزارة الخارجية الأمريكية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من اهتمامها ومن نشرتها عن حقوق الإنسان في الدول المختلفة، وحذفت هذه الفقرة من تقارير السفارات، حيث اعتبرت هذه الحقوق طموحات أكثر منها التزامات، ولهذا لا يجب أن تدخل في مفهوم الحقوق المعترف بها دوليا، وقد اعتبر هذا الموقف الأمريكي فرديا لا تدعمه الدول الأخرى. أما في عهد ادارة بوش، ومع التغيرات الهائلة التي حدثت في النظام الدولي بعد انهيار الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق، وحرب الخليج الثانية، فقد برزت عناصر اخرى في مفهوم حقوق الانسان طبقا للمنظور الأمريكي تمثلت في مدى تطبيق الديمقراطية والتعددية الحزبية واطلاق الحريات السياسية، واقتصاديات السوق وآليات للأمن الاقليمي والجماعي على حساب المفاهيم الوطنية والقومية بدعوى المحافظة على السلام، وما استتبع ذلك من تكريس احتلال دول صديقة لأمريكا لدول أخرى، وزيادة الرقابة على انتشار أسلحة الدمار الشامل في الدول العربية والاسلامية في حين غض الطرف عن الاحتكار النووي الاسرائيلي، ومدى مساهمة الدولة في محاربة الارهاب وتلوث البيئة. وارتبطت المساعدات الخارجية الأمريكية (52% من الميزانية) بمدى التزام الدول بهذه المفاهيم خاصة المتعلقة بالديمقراطية. ومع وصول كلينتون الى الحكم في منتصف التسعينات برزت قضايا جديدة مثل التجارة الدولية، وضم دول أوروبا الشرقية الى حلف الناتو، وتقليص الانفاق العسكري، وتحميل الحلفاء مسئولية أكبر في الأمن العالمي، وما استتبع ذلك من دعم المؤسسات الدولية التي تسعى بشكل غير مباشر لحماية المصالح الأمريكية وتأكيد دورها الريادي عالميا.. مثل مجلس الأمن والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الجات، ومؤتمر السكان العالمي الذي يكرس مفاهيم العولمة اجتماعيا وأيديولوجيا بما يتفق والمفاهيم الأمريكية. واعتبرت ادارة كلينتون أن دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان يمكن أن يوسع من نفوذ ومصداقية الولايات المتحدة عالميا، على أساس أن مصالح الولايات المتحدة ستكون أكثر أمنا في عالم يحترم الحقوق السياسية واقتصاديات السوق. لذلك لجأت ادارة كلينتون الى تشجيع الاصلاحات السياسية في جنوب أفريقيا والمكسيك وبلدان اوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، كما شجعت الانتخابات في يوغسلافيا، وعقد محكمة جرائم الحرب لمرتكبيها في البوسنة وكوسوفو، في ذات الوقت الذي مارست فيه استراتيجية الاحتواء المزدوج لكل من ايران والعراق باعتبارهما في الرواية الأمريكية يحكمان من قبل أنظمة غير ديمقراطية. المنظمات الأمريكية لعب الكونجرس دورا في دعم حقوق الانسان وتشجيع الديمقراطية من خلال عدد من المنظمات والجماعات التي بلغ عددها أكثر من 50 منظمة وجماعة، هي في حقيقتها جماعات مصالح تشكل ضغوطا على الادارة الأمريكية لصالح القوى الداخلية والخارجية التي تقف وراءها، أبرزها اللوبي الصهيوني واسرائيل. ومن هذه الجماعات: أ ـ أعضاء الكونجرس من اجل السلام عن طريق القانون. ب ـ اللجنة الخاصة بحقوق الإنسان ومعاهدات منع ابادة الجنس البشري. ج ـ الاتحاد الأمريكي لتقدم العلوم. د ـ الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية. هـ ـ الرابطة الدولية لحقوق الإنسان. و- مجموعة باراجواي ووتش، وتتكون من مجموعات عالمية للكنائس. ومن انجازات مجموعات الضغط هذه تعديل قانون المساعدات الخارجية عام 1975 لحرمان الدول التي تنتهك حقوق الإنسان من هذه المساعدات، ووقف قروض التصدير والاستيراد عن النظام العنصري الذي كان يحكم جنوب افريقيا في 1977 و1978، ومنع المساعدات عن حكومة (بينوشيه) في شيلي. ويعد انتهاك حقوق الإنسان من الاتهامات الرئيسية التي توجهها الولايات المتحدة لاعدائها، في حين تختار السكوت عنها في الدول الحليفة والصديقة لها. وأبرز دليل على ذلك أن شعب الاكراد يواجه اضطهادات وانتهاكات لحقوق الإنسان من جانب دولتين هما تركيا والعراق. فالحملات العسكرية التي تشنها تركيا من حين لآخر على مواقع الأكراد في شمال العراق، تلقى دعماً ومساندة من الولايات المتحدة لكونها حليفا لها. بينما الوضع مختلف تماماً إزاء العراق. كما تستخدم الولايات المتحدة حقوق الإنسان كورقة ضغط ضد بعض الدول للحصول على تنازلات عندما تريد ذلك، كما يمكنها أن تتجاهل هذه الحقوق في التعامل مع نفس الدولة اذا ما اقتضت المصالح الأمريكية ذلك. وأبرز مثال على ذلك الصين، عندما استخدمت واشنطن مذبحة ميدان السلام السماوي التي قتل فيها مئات الطلبة الصينيين بواسطة الدبابات الصينية للضغط على حكومة بكين لوقف دعمها النووي لكوريا الشمالية، وعندما تحقق ذلك منحت الصين وضع الدولة الأولى بالرعاية، وعندما وقعت أزمة طائرة التجسس الامريكية في شهر ابريل الماضي، هددت واشنطن بإثارة قضية مذبحة ميدان السلام السماوي والاعتراض على استضافة الصين للدورة الأولمبية في عام 2008 بدعوى انتهاك حقوق الإنسان!! حقوق الإنسان والعالمية ليس هناك شك في أن العالمية ملازمة لحقوق الإنسان، وهو ما تعبر عنه المادة (55) من ميثاق الأمم المتحدة والتي تنص على ان «الأمم المتحدة ستشجع على أن تسود في العالم حقوق الانسان والحريات الاساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفرق بين الرجال والنساء». كما أن وصف الاعلان الصادر في 10 ديسمبر عام 1948 بـ (العالمي) بدلا من (الدولي) انما كان مقصودا لكي يوسع نطاق هذا الاتجاهومن ثم فإنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن عالمية حقوق الانسان لا تقرر بمرسوم ولا تفرض بقرار من جانب دولة بمفردها أو بضع دول حتى وإن كانت دولاً عظمى، كما لا تقنن باعلان، فهي ليست تعبيرا عن سيطرة ايديولوجية معينة تمارسها مجموعة من الدول على باقي دول العالم، وانما هي فهم مشترك لمختلف المجموعات الدولية يستند الى قيم ومبادئ ومثل أخلاقية في الأساس لا يختلف عليها أحد. لذلك تعتبر الجمعية العامة للامم المتحدة، بحكم طبيعتها وتكوينها وصلاحياتها هى المخولة والتي يمكن أن تعبر بأفضل شكل عن فكرة العالمية هذه، لا سيما وانها قامت بجهود طيبة في بلورة المفهوم العالمي لحقوق الإنسان حيث تعددت مجالات حمايتها من قمع جريمة ابادة الأجناس، والغاء الرق، ومناهضة التعذيب، الى القضاء على كافة اشكال التمييز العنصري. ومن جهة اخرى فقد تبلورت الآن الفئات التي ينبغي أن يعمل المجتمع الدولي على حمايتها والحفاظ عليها.. فهناك حقوق الشعوب، وحماية اللاجئين والمشردين والنساء والأطفال والمعوقين وكبار السن والأشخاص المصابين بامراض عقلية، وحماية حقوق العمال المهاجرين واسرهم، وضحايا التعذيب والاختفاء القسري، وحماية السكان الأصليين والاقليات. ولا تستطيع جهة دولية أن تنهض بمثل هذه المسئوليات الجسام سوى الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبارها المنبر الذي يعكس جميع الثقافات، ويمثل فيه كافة أعضاء المجتمع الدولي على قدم المساواة، فهي الوحيدة القادرة على تحقيق القاسم المشترك الذي يرضي جميع الدول ويعكس خصائص مختلف الثقافات، فالعالمية التي تترسخ في اطار الجمعية العامة هي بحق عالمية المجتمع الدولي بأسره. ـ خبير استراتيجي مصري

Email