"بعد إنزال ستار النهاية لعرض ليلة الخميس الماضي من مسرحية «الناس اللي في الثالث» التي تُعرض على المسرح القومي الشهير بميدان العتبة "الذي يزاحمه شهرة، وهي من تأليف أسامة أنور عكاشة وبطولة الفنانة سميحة أيوب وفاروق الفيشاوي وعبدالعزيز مخيون، إلى جانب نخبة من الفنانين المصريين، بعد انتهاء العرض ظهر الفنان فاروق الفيشاوي مرة أخرى على خشبة المسرح، ليُعلن للجمهور الكثيف الذي حضر العرض، أن الفنانة الكبيرة سميحة أيوب قد كُرّمت في الكويت، ثم أظهر وشاح التكريم بيديه، حتى يُشاهده الجمهور الذي ارتفعت حدة تصفيقه في تلك اللحظة. «الناس اللي في الثالث» مسرحية يعرضها المسرح القومي، الذي يمثل سفينة القيادة بالنسبة إلى المسرح المصري اليوم، ويشير النقاد إلى أنها أهم وأكبر عروض الموسم الحالي، فضلاً عن أنها المسرحية التي أقنعت الفنانة سميحة أيوب بأن تعود إلى المسرح بعد أربع سنوات من الانقطاع. ولكن أهمية المسرحية لا تنحصر في كاتبها الكبير، ولا حتى في ممثليها المتميزين ولا الجمهور الكبير الذي يتدفق إليها كل ليلة، ولكن أهمية المسرحية تكمن ـ إلى جانب ذلك ـ في موضوعها الذي يتكرر في العالم الثالث، الذي تُحكم أكثر دوله بالديكتاتوريات والحكم الشمولي الأحادي. فالنص الذي كتبه أسامة أنور عكاشة، هذا الكاتب الكبير الذي عرفه المتابع العربي من خلال شاشة التلفزيون في مجموعة من روائعه التي بدأت بـ «ليالي الحلمية»، يقدم هنا نصاً مختلفاً كل الاختلاف، يستخدم الرمز وسيلة للمعالجة الدرامية مع إسقاطات لا تخطئها العين المتابعة حول أوضاع العالم الثالث، الذي تتحكم فيه الأجهزة البوليسية والبعيدة عن الديمقراطية. تظهر بداية الأحداث في شقة لعائلة متوسطة الحال تقع في الدور الثالث، وترمز إلى عائلة عادية في هذا العالم الثالث المنكوب، ولأن هذه الشقة تطل على زاوية شارع سوف يمر فيه الزعيم وضيفه الكبير الذي يزور البلد، إذن فلابد لأجهزة الأمن أن تؤمّن مسار الزعيم، خاصة بعد أن تلقت بلاغاً بأن هناك عملاً إرهابياً سوف ينفذ ضد الموكب. ولأن الشقة في هذا الدور الثالث هي أفضل مكان يمكن أن يقع من خلاله الاعتداء، فإنه يتعيّن تأمين هذه الشقة، التي يقتحمها العسكر وهي تغوص في مشكلاتها الحياتية اليومية القاسية. العلاقات الخفية تُهاجم أجهزة الأمن الشقة كي تقوم بالتحقيق مع كل سكانها: الأرملة التي فقدت زوجها، وكان رجلاً وطنياً حارب الاستعمار في السابق، والرجل العجوز الذي يعيش مع الأسرة وكان صديقاً للمرحوم، والابن الأكبر الذي تصادف أن ليلة التفتيش هي نفسها ليلة زواجه، وكان مضطراً إلى أن يعيش مع الأسرة، لأنه لا يستطيع أن يستقل بمسكن آخر مع عروسه. وهناك أيضاً الأخ الأوسط الذي يعود في الليلة نفسها من أحد بلدان الخليج، والأخت العانس التي كاد قطار الزواج يفوتها، وأخيراً الابن الأصغر المُقعَد الذي يعيش حياته على كرسي. من خلال هذه التحقيقات يقوم ضباط الأمن بتعرية أفراد هذه الأسرة، والكشف عن مواطن الضعف في سلوكياتهم المهنية والأخلاقية الصغيرة فيما بينهم، ويتبيّن أن الأجهزة تعرف كل صغيرة وكبيرة عن هؤلاء الأفراد وتاريخهم وعلاقاتهم الخفية، كما تعلم أخطاءهم التي برغم أنها أخطاء إنسانية يمكن أن يقع فيها أي إنسان، فإن رجال الأمن يستغلونها بكل قسوة، ليبدأ أفراد الأسرة جميعاً الوقوع في التناقض، الذي يجعل كلاً منهم معادياً للآخر أو منافساً له، وهي التناقضات التي كان من الممكن ألا تُكشَف لولا تطفل هؤلاء الذين اقتحموا حياة الأسرة البسيطة، والتي تعاني منغصات العيش في ليلة كان من المفروض أن تكون ليلة فرح. ولم يكن أمام رجال الأمن الذين فشلوا في إيجاد أي دليل لإدانة أحد أفراد الأسرة، إلا محاولة تجنيد الابن الأوسط صاحب الشخصية القلقة، الذي يريد أن يجمع المال بأي طريقة، فيستغل رجال الأمن لديه هذا الضعف بإغرائه بالعمل ضد أسرته، ولكن ضميره يصحو فيرفض العرض. تسلط العسكر تدور أحداث المسرحية خلال ساعات محدودة، وتستمر لساعتين ونصف الساعة، في تصاعد درامي لا يتطرق إليه الملل، أما الإسقاطات التي يتفاعل معها الجمهور فهي كثيرة، تأخذ المشاهد إلى التفكير الجاد في هذه الانقلابات التي تحدث في دول العالم الثالث، ويتسلط فيها العسكر على مقدرات الشعب، ويقومون بانتهاك الحريات البسيطة لأفراده بحجة حماية النظام من الأعداء الداخليين والخارجيين! رجل الأمن الذي تمثلت فيه السطوة يكتشف في نهاية الأمر، وبعد كل هذا العناء، أن البلاغ حول العمل الإرهابي بلاغ كاذب، ولكنه ـ بالرغم من هذا ـ لابد أن يخرج بشيء وألا ينتهي من التحقيق إلا وتحت يديه متهم ما (!). وبعد الجهد الذي بُذل، وبعد مزيد من الترصد والسعي إلى تصعيد الأخطاء، يكتشف أن الرجل الكهل صديق الأسرة الذي يعيش معها كان له في سنوات شبابه نشاط سياسي، فيجدها الضابط فرصة سانحة ليلفق التهمة للرجل الكهل، كي يؤكد رجل الأمن لرؤسائه أنه يعمل بجد لخدمة عمله، وهو لا يخفي تطلعه للحصول على ترقية. الموضوع الذي تطرُقه المسرحية موضوع ليس جديداً، ولكن التناول والإسقاطات هي التي تجذب الجمهور المصري لمشاهدة هذه المسرحية، وقد وجدت أن ثلاثة أجيال على الأقل من رجال الحكم السابقين كانوا بين حضور المسرحية، التي لا توفر مرحلة من المراحل السابقة دون إشارات إسقاطية عليها تدين الأخطاء التي ارتُكبَتْ. فالأرملة تتحدث لضابط الشرطة عن زوجها المتوفَّى رب الأسرة الذي حصل على نيشان من الزعيم بسبب مقاومته للاستعمار في الخمسينيات، محاولة استدرار عطفه، ولا تكاد تنتهي من حديثها المتوسل حتى يرد رجل الشرطة السرية بصلف وبرود بأن ذلك الرجل هو الذي أنشأ الأجهزة التي تحقق الآن معها! في إشارة ضمنية إلى أن الوضع القديم لا يزال مستمراً. الطريق مسدود قال بعض النقاد إن هذا العمل رغم هناته الفنية القليلة هو أجمل ما عُرض على خشبة المسرح المصري منذ فترة طويلة، ولكنه أيضاً عمل طافح بالتشاؤم، فاللاعبون الذين قادوا العمل السياسي (غير محترفين) كما يقول النص، ومهما اختلفت الوجوه فإن الطريق مسدود لأنه يسير في الاتجاه نفسه: غلبة الأجهزة البوليسية على الرأي الحر، وسيادة الرأي الواحد على المشاركة وضحك السياسيين على الجمهور العريض. لم يُرد مؤلف النص ولا مخرجه الشاب محمد عمر أن يخرج الجمهور من المسرحية وقد وجد حلولاً للمشكلات التي تواجهه، بل أن يخرج وهو يتساءل: إلى أين يُفضي هذا الطريق المسدود في العالم الثالث، عالم الانقلابات والدكتاتوريات والعسكر والفساد وتسلط الأجهزة؟ لذا تصرخ البطلة سميحة أيوب صرخات مدوية في آخر المسرحية بقولها «سيظل الناس أقوى من الرصاص»، لقد تحقق ما قالته لي سميحة أيوب في الكويت بعد تكريمها الأسبوع الماضي في مهرجان المسرح الكويتي، قالت: لو لم تكن هذه المسرحية كما أريد وأتمنى لما قبلت القيام ببطولتها، وقد صدقت سميحة صاحبة «سكة السلامة» الرائعة، وعشرات من المسرحيات. إنها بحق سيدة للمسرح ومدافعة عن قيم ما زلنا في عالمنا الثالث نبحث عنها، ويبدو أن البحث سيطول! تلك هي رسالة المسرح الجاد الذي يمزج بين المتعة والرسالة، ويتناول قضايا الناس البسطاء في معالجة جادة وممتعة وهادفة في وقت واحد، مع توظيف جيد لوسائل المسرح المعروفة والمستحدثة. ومن هنا جاء الوعي بأهمية أن تنطلق حركة مسرحية جديدة تنبذ السخيف والمبتذل وتجافي المباشر والدعائي، كي تقدم فناً يخدم الناس والمجتمع، وتبقى جذوره في الأرض. حقاً إن «الناس اللي في الثالث» من العروض المسرحية التي لا تنتهي عندما تُسدل الستارة ويبهت تصفيق الجمهور، بل تظل حية في ذهن المشاهد يقلب حواراتها ومشاهدها، يستعيد النص ليتفق مع المؤلف هنا أو يختلف معه هناك، ولكن الحوار سيظل مستمراً في عقل المشاهد، متلازماً ومتوازياً مع المشاده التي قامت بها تلك النخبة الرائعة في حُلَّة من الأداء الجميل! ـ أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ـ الكويت