من ينسى النجوم ويحلم بالقمر, لابد أن يكون مثله, مثل البدر, لا يسكن إلا سماء بعيدة, فريد في منزلته, مميّز في نوره وطلعته. حلم القمر لم يكن عندها _ تلك الحالمة _ أن تراه متألقا, تقترب من الوصول إليه, تسير عليه, تسكنه أو تجاوره. إنها حلمت بما هو اكبر من ذلك: انها تأكل القمر! ذهب الحلم طوته سنوات طويلة من عمر الحياة, ظل في الذاكرة, كأنها تراه يتكرر, تردده الأيام لها, لا تريد أن تنساه أو انه لا يريد أن يفارقها, وبين الحلم والعمر وما بينهما من عطاء وإبداع وكلمات, تحققت الرؤى, وأصبحت من حلمت أنها تأكل القمر, هي القمر, إذا تكلمت رفعوا رؤوسهم إجلالا وإعجابا, يبحثون عن عذب المعاني التي لا تأتي إلا ممن هو في منزلة عالية في سماء الشعر, ورحلت القلوب مع صدى الوصف يعبر ويبعثر دواخل السامع. حالمة القمر هي (عوشة) أو (الفتاة ). لا أحد اليوم لم يسمع قصائد فتاة (الخليج) و (العرب), إنها فينا كلنا, في ذلك الجيل المخضرم الذي يعتني كثيرا بدقة وقوة الكلمات ورقة الصورة الشعرية وشموليتها, وانه في جيل الشباب الذين حفروا إيقاعها وطبعوا كلماتها فيهم فأصبحت منهم لا تتجزأ, لأنها حملت قلوبهم نحو من هامت به في أول نبضات العشق. ولحالة الحب الأول مكانة لا تزول من دفتر العمر, إنها تحمل رائحة الشباب وذكريات الصبا, ومع حركة سن الإنسان نحو الأعلى, يكون الحنين لها أشد, يظل طيف الماضي في خيال كلمات يرددها, تذكّره بتلك الليالي, بقايا مجد قديم. سيرة حياة الشاعرة, تاريخ مجهول لم يكتب بعد, فحظ هؤلاء المبدعين عندنا هذا التناسي والإهمال, والتباكي بعد دهر طويل على خسراننا لهم, وعلى ضياع هذه الثروة الأدبية وتفاصيل هذا التاريخ. ما أتذكره حوار صحفي مع الشاعرة نشر في إحدى المجلات قبل اكثر من عشر سنوات, ذكرت فيه حلم القمر الذي عاشته, وبحثت عن نص هذا الحوار في أراشيف صحفنا المختلفة, وللأسف لم أجده. المحفوظ للشاعرة, هو ديوان شعر جمعه وقدمه الشاعر حمد خليفة بوشهاب, صدر في العام 1991 ويحمل اسم (ديوان الشاعرة فتاة العرب ). ذكر الشاعر في مقدمته للديوان أن: شاعرتنا عائشة بنت خليفة بن الشيخ احمد بن خليفة السويدي نسبا وابوظبي مولدا ومسكنا ودبي إقامة. ويصف الشاعر حمد بوشهاب نتاج هذه الشاعرة (التي نقدم لديوانها ليست إلا من أولئك الذين مازال نتاجهم المتميز بجودته وإتقانه عناوين بارزة على جبين الزمان وقلائد باهرة على مفارق الأيام, فلقد أغنت شاعرتنا بمعانيها الفينانة, أفانين المعاني وأرقصت بجزالة ألفاظها خمائل الروابي وعطرت بشذى رياضها ربوع القوافى ). حياة التعب, تلك الرحلة الطويلة التي عاشها إنسان هذه الأرض قبل البترول, وقبل الاتحاد, شبح الفقر والجوع والمرض, هول البحر وممارسة الحياة والموت فيه وكذلك رمضاء الصحراء وترابها الحارق, وواقع التأقلم على العيش في هذه الجرداء اليابسة ومصاحبة هذه الرمال, لتصبح كائنا يشكل هواية وهويّة هذا الساكن في عمقها, الجانب الآخر لوجه الحياة الذي فرضته التضاريس والتاريخ, إنها قيم الإنسان المكتسبة في معاني التسامح والكرم والرجولة والاعتماد على الذات والتواصل, وأوسع من كل ذلك قيمة الحلم والصبر في ذلك الدهر. أيضا قرار هجرة الوطن, أمر الاغتراب عنه, ذلك المصير الذي تختاره مكرهاً من اجل لقمة العيش, أو يفرض عليك وموعد العودة الذي لا تراه قريبا ولا تعرف متى يحين. صوت ذلك الزمن بما فيه تجده صوراً شعرية متناثرة في بعض قصائد عوشة. هذه قصيدة قديمة, قالتها وهي بعيدة عن أرضها, تحملها آيات من الوله والحنين والعتاب: يادار عالين المواجيب باجيم بك لو مالي اسناع لعمان انا ماسرت طرّيب لو ماهلي واشراف اجماع من قبل لايمشي لكِ البيب فيكِ لكرام أوفيكِ لانفاع وكم مفلسٍ باداه لمشيب زاركِ أوحصّل فيكِ لاطماع لوانا مشتّي في عراجيب هويا الشيوخ أوكان في قاع أخير من ربح أومكاسيب معنا زبيديها والفقاع ريضانها خضرٍ معاشيب وبرورها فسحاتٍ اوساع قصيدة ثانية كأنها مكملة, تحمل ردا وتشرح ما خفي من الحب والاشتياق, توصف تفاصيل صورة البلاد في اجمل مواسمها وقت (المقيظ), واعلان الحذر من أولئك الذين يطلبون قرب هذه الأرض, بينما الذي يربطهم بها المصالح, متى ما خلصت المنفعة فإنهم لا يلتفتون نحوها, إنهم (يرمحون القاع): يادار لو يمشي لي البيب مالي ابقيظكِ شفّ واسناع لكن ربّي له تكاتيب والاّ الخلا وافيويه اوساع لو انا مقيّظ في عراجيب اخير من طوفات وجلاع بين امغلس عرش أومحابيب وغرايسٍ بلباسمٍ أيناع وانهار تجري في دواعيب يشفي هواها لي به أوياع ماشفت لك يادار طرّيب غير الذّي يرجون لانفاع والاّف لي يلقى المطاليب إيشوم عنك أو يرمح القاع قيظٍ مليل أوشين وتعيب يلفي عقب غيبه أومرباع نتشافقه عند اليلاليب ومن الرّطب خلق الله أشباع ميدان الغزل, انه السهل الممتنع, ما اكثر ما قيل فيه وما أقل الذي سكن وبقي منه. أشعار عوشة فيه من ذلك القليل الخالد. أبدعت, فسرت كلماتها وسكنت قلوب الذين عرفوا الحب أو الذين يبحثون عنه. هذه رائعة غزلية لها عن حال (غريم الشوق): غريم الشوق ماسمع العذولي ولوم الحبّ تدهاه الدّهايا على الشطّات والشدّه حمولي ويصبر في العنا صبر الظّمايا ولو مالحب ماخبّت ذلولي ولاجاسيت من همّي بلايا جدا من صوبهم سلكه اريولي اتدوس الشّوك واقدامي حفايا إلي منهم على الخاطر طرو لي ايقودني الهوى قود المطايا إذا ما النّوم في عيني يذولي يجيب الطيّف لي عنهم روايا ولي من ياني منهم رسولي اتخاليبه عيوني بالخلايا ولو شرع الهوى حكمه عدولي تشاكينا وفلّينا الشّكايا لكن الحب له قاضٍ جهولي فلا اتجيبه بذول ولا رشايا نكمل الاسبوع المقبل.