سر عمرو موسى! _ بقلم: عادل حمودة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت العاصمة الأردنية (عمان) تقف مشدودة على أطراف أصابعها.. يسيطر عليها توتر حاد.. لكنه غير معلن.. لم تستطع قوات الأمن معه أن تخفي وجودها.. بل ربما تعمدت أن تظهر نفسها حتى تثبت أنها قوية.. وقادرة.. وسريعة الانقضاض.. وشاعت دعابة راحت تنتشر بسرعة البرق.. وهي أن المكتبات التي تبيع الأدوات المدرسية كفت عن بيع أقلام (الرصاص) حتى لا يشعر الوفد الإسرائيلي المشارك في المؤتمر بالخطر على حياة أعضائه. أما المؤتمر الذي كانت تستضيفه (عمان) وسبب كل هذا الاحمرار على جلدها فكان المؤتمر الثاني للشرق أوسطية.. تلك الفكرة التي حاول بها (شيمون بيريز) أن يدخل التاريخ من بابه الاقتصادي فإذا به يخرج من السلطة في (إسرائيل) من بابها السياسي.. وقد كان (اسحق رابين) هو رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت.. وقد تعمد أن يأتي هو ومن معه إلى (عمان) في مظاهرة من السيارات ليثبت أن الشرايين بين إسرائيل والدول العربية المجاورة مفتوحة وسالكة وخالية من (الكوليسترول).. وتعمد أن يقول: لقد انتظرنا 50 سنة لنقطع هذا الطريق في 50 دقيقة.. (إنكم أقرب إلينا مما كنا نتصور ومما كنتم تتصورن).. ولم يصفق العرب.. وأعطوه ظهورهم.. ولم يصفق الإسرائيليون واغتالوه وهو يرقص ويغني للسلام في ميدان عام. في الجلسة الافتتاحية نفسها ألقى (عمرو موسى) كلمة الوفد المصري.. تحدث كما كان متوقعا عن ذبح السلام بسكين إسرائيلي بارد.. والعقد النفسية والتاريخية التي تطارد إسرائيل وتحرمها من راحة البال وتسبب الصداع للقريب والبعيد.. وتحدث عن جنون الأرض الذي يجتاح المستوطنين اليهود في الأراضي المحتلة وهم يرفعون السلاح في يد والتوراة في يد أخرى.. وحذر مبكرا من أن يتحول الصراع في الشرق الأوسط إلى صراع ديني.. لا يقدر على حسمه سوى الله. ثم كانت القنبلة التي دوت في القاعة.. هاجم عمرو موسى (المهرولين) العرب ناحية التطبيع دون مبرر مع العدو الإسرائيلي.. وكان تعبير (المهرولين) هو تعبير شعري وضعه نزار قباني على رأس آخر قصائده السياسية التي نشرها في ذلك الوقت. وتدخلت المنصة للرد على (عمرو موسى).. ولكن.. كان ذلك الرد من باب مجاملة الضيوف الإسرائيليين.. والضيوف المهرولين.. ففي مساء اليوم التالي تعمد الملك (حسين) أن يلقى (عمرو موسى) في خيمة بدوية. ويزيل كل آثار ما جرى.. وكان أن قال له (إنك يا عمرو.. فارس من فرسان العرب.. نحن فخورون بك. ونقدر لك هذا الحجم المتدفق من الوطنية الأصيلة). كان ما جرى في (عمان) الذي كنت شاهدا عليه ومراقبا ومتابعا له هو ما جعل شهرة (عمرو موسى) السياسية تنتقل من المستوى الوطني في مصر إلى المستوى القومي في العالم العربي.. إن إسرائيل جسم غريب زرع في الكيان العربي.. من المستحيل أن يندمج فيه. أو يصبح جزءاً منه.. كل التجارب والحوادث تؤكد ذلك.. ولم يكن ليكفي أن تتحدث إسرائيل عن السلام حتى يحدث السلام.. ولم يكن ليكفي أن تتوقف الحروب المخططة حتى تتخلص إسرائيل من أنيابها وأظافرها وتتحول من ديناصور شرس إلى حمل وديع.. إن تعليق لافتة تحمل اسم فندق خمس نجوم على وزارة الدفاع الإسرائيلية لن يحول المعسكرات إلى منتجعات ترفيهية. ولم يحول الجنرالات إلى خبراء في السهر والإثارة والملاهي الليلية. وقد فهم صانع السياسة الخارجية المصرية ذلك.. وعبر عنه (عمرو موسى) وقدمه للناس بطريقته الجذابة المؤثرة. إن وزير الخارجية في أي دولة لا ينفرد بطهي السياسة الخارجية.. وإنما عليه أن يقدمها على طبق من البراعة والاناقة.. فلو كان العالم مطعما كبيرا فإن وزراء الخارجية هم (مترودتيل) تدير الدولة وتشرع لها وتتابع أول بأول كل ما يجري فيها وفيما حولها. ومقولة إن السياسة الخارجية هي انعكاس صادق وأمين للسياسة الداخلية هي مقولة صادقة وأمينة.. فالدولة مثل الجسم البشري.. لايمكن أن ينفصل ما في باطنه عن ما يظهر منه. لذلك لم يكن غريبا أن يختار جمال عبد الناصر سفراء لمصر من ضباط الجيش.. فقد كانت القضية التي تشغله بعد نجاح ثورة يوليو هي قضية تأمين الثورة.. وحمايتها.. من الأخطار والمؤامرات التي كان تدبيرها غالبا يبدأ في الخارج.. وفي تلك الفترة كان طبيعيا أن يكون وزير الخارجية من جذور عسكرية أيضا.. وهنا لايمكن أن ننسى وزيرا للخارجية مثل محمود رياض.. وفيما بعد اختار أنور السادات وزير للخارجية من نفس المؤسسة العسكرية هو كمال حسن علي الذي كان قائدا للمدرعات في حرب أكتوبر ثم أصبح مديرا للمخابرات العامة فوزيرا للدفاع.. وأخيرا تولى وزارة الخارجية.. وكان السبب هو أنه كان عليه مواصلة مفاوضات الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وهي عملية تحتاج لخبرة عسكرية ولسلطة دبلوماسية في وقت واحد. ولم يكن اختيار ضابطا في الجيش ليصبح وزيرا للخارجية صناعة مصرية خالصة كما كرر ذلك خصوم ثورة يوليو كثيرا.. إن عددا من وزراء خارجية إسرائيل تخرج من جيش دفاعها.. وعددا من وزراء خارجية الولايات المتحدة بدأوا حياتهم العملية في البنتاجون. وأخيرهم (كولن باول) رئيس الأركان في إدارة (جورج بوش) الأب.. ووزير الخارجية في إدارة (جورج بوش الابن). لقد عاد أنور السادات للاختيار العسكري في وقت كان اختياره فيه ضروريا وملحا بحكم الظروف التي اجبرت مصر على التعامل مع العدو الإسرائيلي.. وفي تلك الظروف أيضا كان وزير الخارجية الإسرائيلي عسكريا أيضا هو موشي ديان.. وكانت الرسالة التي أراد أنور السادات توصيلها هي: إن الذين حاربوا إسرائيل في الميادين العسكرية هم أنفسهم الذين يحاربونها في الميادين الدبلوماسية. قبل ذلك كانت مصر تشهد تحولا بدا انقلابا حادا وواضحا وشطبا لطريق جمال عبد الناصر من الاشتراكية إلى الانفتاح.. ومن اليسار إلى التيار الديني.. ومن الاتحاد السوفييتي إلى الولايات المتحدة.. وفي ظل هذا الانقلاب كان طبيعيا أن تتغير معايير اختيار وزير الخارجية.. وهنا لمع إسماعيل فهمي وتلاميذه الذين واصلوا مشواره. ومنهم عمرو موسى نفسه الذي جاء إلى منصبه بحكم خبرته في المنظمات الدولية. وبحكم موقعه الذي جاء منه.. مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة.. في وقت كانت فيه المفاوضات لا الحروب هي الوسيلة المتاحة لحصول الدول على حقوقها الخارجية. لقد ولد عمرو موسى في القاهرة.. في 3 أكتوبر عام 1936.. في العام الذي وقعت مصر مع بريطانيا المعاهدة الشهيرة التي بمقتضاها انسحب الجيش البريطاني من القاهرة إلى قناة السويس. وقد كانت قيادة الجيش البريطاني في القاهرة تتمركز في ميدان التحرير الذي كان يسمى في ذلك الوقت (ميدان الإسماعيلية) وقد هدمت هذه المعسكرات وبني على أنقاضها مبنى (جامعة الدول العربية) ومبنى فندق (هيلتون).. وقد درس عمرو موسى الحقوق وحصل على الليسانس في القانون من جامعة القاهرة في عام 1957.. ولم يتردد في الالتحاق بوزارة الخارجية في العام التالي مباشرة.. في ذلك الوقت كانت الخارجية المصرية تغير جلدها بعد تجربة حرب السويس واكتشاف أساليب أخرى في التعامل مع العالم الخارجي كانت غائبة عن خبرة القيادة السياسية.. وعمل عمرو موسى في إدارة البحوث.. وفي مكتب وزير الخارجية.. ثم سافر في عام 1977 إلى بون ليتولى منصب مدير إدارة المنظمات الدولية هناك.. وفي عام 1981 سافر إلى نيويورك ليصبح المندوب (المناوب) لمصر في الأمم المتحدة.. ثم ترك نيويورك إلى نيودلهي ليصبح سفيرا لمصر في الهند عام 1978 وبعد 3 سنوات عاد من جديد إلى نيويورك ليصبح مرة أخرى مندوب مصر الدائم لدى المنظمة الدولية.. لكنه لم يبق هناك هذه المرة سوى عاما واحدا.. فقد استدعي إلى القاهرة ليصبح وزيراً للخارجية في عام 1991. إن معظم سنوات خدمة عمرو موسى كانت في المنظمات الدولية وهو ما جعل اختياره وزيرا للخارجية في تلك الفترة اختيارا مناسبا.. ففي تلك الفترة ارتفعت قيمة الأمم المتحدة. وزاد نفوذها.. ولم تعد صفرا على الشمال كما كانت طوال معظم سنوات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي الذي كان امبراطورية عظمى قبل أن ينفجر ويصبح شظايا دولة.. والولايات المتحدة التي بقيت وسيطرت وتوحشت.. وفي تلك الفترة تراجعت فكرة الدولة القومية وسادت فكرة الدولة الكونية.. الدولة التي تخضع لقوانين تتجاوز حدودها السياسية في البيئة والتجارة وحقوق الإنسان وحل المنازعات الإقليمية.. إن هذه الظروف هي التي جعلت عمرو موسى يستمر وزيرا للخارجية المصرية طوال العشر سنوات الماضية. ولابد أن خبرة عمرو موسى في المنظمات الدولية إلى جانب شهرته القومية هي التي رشحته ليصبح الأمين القادم للجامعة العربية.. ولو كان ترشيحه قد جاء بحكم انتهاء مدة الأمين الحالي الدكتور عصمت عبد المجيد فإن الظروف السياسية العربية الراغبة في إعطاء أهمية أكبر للجامعة العربية قد جعلت العرب يباركون هذا الترشيح بما فيهم الشخصيات اللامعة التي كانت على وشك الترشيح للمنصب.. مثل الدكتور محسن العيني رئيس الوزراء اليمني الأسبق.. والأخضر الابراهيمي وزير خارجية الجزائر الأسبق والصديق الشخصي للرئيس عبد العزيز بوتفليقة. والفريق عبد الرحمن سوار الذهب الرئيس السوداني الأسبق الذي تنازل بمحض إرادته عن السلطة في بلاده بعد الانتفاضة الشهيرة التي أطاحت بالرئيس جعفر نميري.. والدكتور سليم الحص رئيس وزراء لبنان السابق.. والأمير الحسن بن طلال ولي عهد الأردن السابق. ولعل تقدم هذه الشخصيات اللامعة لمنصب الأمين العام للجامعة العربية لايمكن أن يكون لمجرد دخول (ثلاجة) الجامعة العربية والبقاء فيها تحت درجة الصفر وإنما لأن الرغبة في تسخين دور الجامعة العربية قد أصبحت رغبة عربية عارمة في وقت تراجعت فيه أوهام السلام مع العدو الإسرائيلي.. وعادت فيه الانتفاضة الفلسطينية تفرض إرادتها على ساحة المفاوضات السلمية.. وانكمشت فيه الخلافات العربية وأصبحت جراح ما بعد غزو الكويت وحرب الخليج على وشك الالتئام.. كما أن الإيمان بالتعاون الاقتصادي العربي في ظل ضغوط (الجات) قد عاد للانتعاش مرة أخرى. إن الفترة الماضية من عمر الجامعة العربية كانت انعكاسا للأوضاع العربية المتردية.. وهناك أكثر من دليل على ذلك.. التسابق المحموم على التعامل مع إسرائيل.. أو (الهرولة) بلغة نزار قباني.. الفشل في عقد قمة عربية تحضرها العراق إلا بعد الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة في الصيف الماضي. العجز في متابعة قضية (لوكيربي) والاستسلام لحصار ليبيا.. ضياع الموارد العربية في تكدس الأسلحة المشتراة من الغرب دون أن تكون هناك فاعلية لاتفاقيات الدفاع العربية المشتركة.. غياب مناطق التجارة الحرة والاستثمار العربي عن خريطة الاقتصاديات العربية.. إن ذلك كله جعل الجامعة العربية جامعة للهنود الحمر على حد تعبير الساخر الكبير أحمد رجب.. أو جعلها مجرد فندق في وسط القاهرة يلتقي فيه أصحابه كالغرباء.. قد يحبون بعضهم البعض بهز الرأس أحيانا.. أو بالتهديد بقبضة اليد أحيانا أخرى.. وهو ما كتبته ذات يوم وأغضب الدكتور عصمت عبد المجيد. ولعل ذلك كله هو ما جعل العرب ينظرون إلى منظمتهم الإقليمية نظرة هامشية. ولا نقول نظرة دونية.. أو نظرة متواضعة.. رغم كل الأوصاف العاطفية التي أغدقوها عليها.. لعل أشهرها هو وصفها ببيت العرب.. وهو وصف لم يكن في الواقع ما يشير إليه.. إلا إذا كان المقصود ببيت العرب هو مجرد أثر تاريخي من الطوب والحجارة.. مجرد (مصطبة) تصلح للدردشة.. لكنها لا تصلح لتقرير المصائر في وقت تدافعت وتدفقت على العرب المصائب من كل جانب. وأكبر دليل على ذلك هو غرق كل الاتفاقيات العربية في مخازن مغطاة بالغبار لم تجد من ينفضه عنها.. بداية من اتفاقية الدفاع المشتركة ونهاية بالسوق العربية المشتركة.. وبينهما عشرات بل مئات الاتفاقيات تتعلق بكافة نواحي الحياة العربية.. ولم تجد هذه الاتفاقيات دولة عربية واحدة تتحمس لتنفيذها.. وكان أن أصبحت الجامعة العربية مثل (قهوة المعاشات) يجلس في مكاتبها ويمشي في طرقاتها موظفون بيروقراطيون وإداريون بلا فاعلية وبلا غطاء سياسي أو دبلوماسي براق إلا فيما ندر. إن عمرو موسى هو شخص مناسب جدا للجامعة العربية في هذه الظروف.. فهو قادر بحكم رفضه المزمن للفشل على أن ينفخ الحياة والحماس فيها.. خاصة وأن العرب في غالبيتهم يؤمنون الآن بضرورة عودة الروح إلى منظمتهم التي شاخت وهرمت باعتبارها الملاذ الوحيد المناسب بعد أن فشلت كل ما راهنوا عليه من خيارات.. لكن شخصية عمرو موسى وحدها لا تكفي لابد من تغيير القوانين للجامعة العربية.. ولعل قمة عمان القادمة فرصة لذلك.. فالقضية ليست قضية فرد وإنما قضية منظمة.. ولو حدث ذلك فإن من حقنا أن نطلق على الجامعة العربية (بيت العرب) وإذا لم يحدث ذلك فعلينا أن نطلق عليها (بيت الهنود الحمر)!

Email