هل نحن على أبواب الحرب الباردة (الثانية)؟! _ بقلم: الدكتور طلعت شاهين

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك سؤال يطرح نفسه بقوة على الساحة السياسية الدولية, خاصة بعد فوز جورج بوش الابن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية, وعودة مشروع (حرب الكواكب) إلى الواجهة السياسية والعسكرية الدولية في السياسة الامريكية: هل انتهى عهد ما بعد الحرب الباردة؟. أم أننا على أبواب حرب باردة جديدة أحد أطرافها محدد سلفا: الولايات المتحدة, فيما الأطراف الأخرى لا تزال تحت الترشيح؟. بمجرد انهيار جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي بدا منظرو الرأسمالية الغربية يجهدون أنفسهم في الدعاية للمرحلة الجديدة على أنها (النظام العالمي الجديد), الذي لا بعده ولا قبله نظام, وأن الرأسمالية انتصرت انتصارها النهائي, ولم يعد هناك حديث يمكن أن يتناول, لا الشيوعية ولا مشتقاتها من الاشتراكيات المختلفة, فقد دان كل شئ للغرب والولايات المتحدة, وزعيمته صارت القطب الأوحد. كانت وسائل الإعلام الغربية, ووسائل الإعلام التابعة لها في المشرق والمغرب تكرر مقولاتها, ولا تسمح لأي صوت معارض لهذه الأفكار بطرح فكرة مخالفة, حتى سيطر على العقول (الفكر الأوحد), وهو ما يتناقض تماما مع فكرة (الديمقراطية), التي يتشدق بها معسكر الرأسمالية الغربية, ويدعي أن تلك الديمقراطية بما تمنحه من حرية التعبير, كانت سلاح الغرب الناجع لإسقاط الشيوعية ومشتقاتها في الشرق والغرب. لكن التطورات التي حدثت خلال العقد الماضي تؤكد أن هذا الفكر الذي يروج له الكثيرون تحت اسم (العولمة) وغيرها, لم ينتبه كثيرا إلى أن سقوط جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفييتي, وانهيار الأنظمة التي كانت تدور في فلكه, لا يعني أن قبضة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية سوف تمسك بكل شئ دون معارضة من احد, لأن هذه التغييرات التي حدثت لم تقم العدل المنشود, ولا تشي بتحقيق أحلام أحد من الذين رأوا في الشيوعية ومشتقاتها طريقهم لتحقيق تلك الأحلام. من هنا يمكننا القول ان معارضة سيطرة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية لم ولن تتوقف لمجرد أن القطب الآخر في الصراع السياسي الدولي قد سقط, فالصراع الذي توقع له منظرو العولمة انتهت جولة منه, ولا تزال هناك جولات باقية, والتاريخ ممتد لن يتوقف, ولن تكون للصراع نهاية, على طريقة (فوكوياما) ولا غيره من المنظرين, لأنه ببساطة لم يحاول المنتصرون في الجولة السابقة استغلال الفرصة, وإقامة بعض العدل في توازن الميزان الاقتصادي. الشواهد التي يحاول بعض منظري النظام العالمي الجديد حجبها, لا يمكن أن يستمر حجبها طويلا, لأن الواقع على الأرض الصلبة التي نقف عليها يؤكدها كل يوم, وسياسة القطب الأعظم الوحيد المهيمن تؤكدها أيضا, ولكن البعض يحاول التغاضي عن تلك الرؤية. أول تلك الشواهد, أن الولايات المتحدة لا تزال تضع الميزانيات العسكرية الباهظة لمواجهة تلك الحركات المتمردة عليها, التي لم يكن سقوط الاتحاد السوفييتي كافيا لإصابتها بالاحباط, بل يؤكد أن المقاومة للهيمنة الأمريكية لم تكن في حاجة إلى الاتحاد السوفييتي لتستمر. فلا حرب العصابات القديمة في كولومبيا توقفت, ولا الصراع الذي تخوضه الأقليات العرقية الهندية في جواتيمالا والإكوادور والسلفادور توقفت, بل نجحت في إسقاط حكومة الرئيس الإكوادوري السابق, اللبناني الأصل (جميل معوض), وأجبرت الرئيس الحالي على الرضوخ لمطالبها, دون أن تكون في حاجة لدعم الاتحاد السوفييتي, أو كوبا, ولا غيرهما, فقط تكمن قوة حركتهم في قوة المطالب التي يطالبون بها. بل بعد أشهر قليلة من سقوط الاتحاد السوفييتي, وتأكيد الهيمنة الأمريكية شرقا وغربا بعد (عاصفة الصحراء), جاءت حركة (جيش التحرير الثاباتي) في المكسيك, لتعلن عن وجود مقاومة للهيمنة دون حاجة للسلاح السوفييتي ولا حاجة للدعم السوفييتي, لأن الدعم الكوبي لمثل تلك الحركة تكذبه تقارير الولايات المتحدة نفسها, التي تعلن ليل نهار عن إفلاس نظام فيدل كاسترو ماليا, وقرب انهياره نتيجة للازمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها كوبا. وقبل أن يفيق أحد من محللي النظام العالمي الجديد المسبحين بهيمنة الولايات المتحدة والمتمنين لها دوام البقاء, كان رجال المظلات في الجيش الفنزويلي يطوقون في عام 1992 القصر الرئاسي بقيادة الكولونيل (هوجو تشابث), في حركة احتجاجية تطالب بإصلاحات اجتماعية, هي بالطبع إصلاحات لا يقبلها دعاة النظام العالمي الجديد, باعتبارها تقتطع جزءاً من مكاسب الشركات العابرة للجنسيات والحدود, والتي تشكل القاعدة الأساسية لهذا النظام القائم على الهيمنة الأمريكية بلا منازع. حركة الجيش الفنزويلي لي لم تفشل باستسلامها, بل كانت مقدمة لجذب الأنظار إليها, لأنها عادت بعد ست سنوات فقط لتقوم من جديد, ولكن هذه المرة مستخدمة السلاح الذي شهرته في وجهها الأحزاب الحاكمة, وهو سلاح (الديمقراطية), عاد الكولونيل السابق (هوجو تشابث) ليحتل كرسي الرئاسة بأغلبية ساحقة, بعد أن أعلنت الجماهير عن رفضها لاستمرار الفساد المدعوم من الشركات العابرة والمتعددة الجنسية. الأمثلة كثيرة, وكلها تدل دلالة قاطعة على أن النظام العالمي الجديد, الذي روج له دعاة العولمة ليس نظاما, ولا يمكن تسميته بالنظام, لأنه غير موجود بالفعل على أرض الواقع, بل موجود في الإعلام فقط, وان الأمر لا يتعدى أن يكون مرحلة من مراحل التطور التاريخي, التي يمكن تسميتها باسمها الحقيقي (مرحلة ما بعد الحرب الباردة الأولى), لأن حربا (باردة ثانية) بدأت تطل برأسها علينا مع جلوس الرئيس الأمريكي الجديد (جورج بوش) الابن في المكتب البيضاوي. بدأت شواهد المرحلة الجديدة منذ أن بدأت مرحلة الدعاية الانتخابية الرئاسية الأمريكية, التي أكدت أن عودة الحزب الجمهوري إلى البيت الأبيض سوف تبدأ تلك الحرب الباردة, التي لم يتمكن من بدئها في أعقاب انتهاء الحرب الباردة الأولى كل من الرئيسين الجمهوريين السابقين: رونالد ريجان وجورج بوش الأب, فالأول كان منتشيا بطبول الدعاية التي كانت تصوره في صورة المنتصر على الاتحاد السوفييتي, والثاني فاجأته (عاصفة الصحراء) في الشرق الأوسط, وخروجه منها منتصرا, وعاش نشوته التي لم يفق منها إلا على انتصار كلينتون, الذي أجهض أحلامه في البقاء لفترة ثانية. دلالات بدء الحرب الباردة الثانية عديدة, أبرزها أن الرئيس جورج بوش الابن قرر عدم الإنصات لنصائح حلفائه الأوروبيين, والبدء فورا في تنفيذ مشروع ريجان القديم, الذي يطلقون عليه اسم حرب النجوم, أو حرب الكواكب, وهذا المشروع ستكون نتيجته المحتومة دخول أطراف جديدة في صراع جديد للهيمنة على العالم في شكل أسلحة وأسلحة مضادة, والأطراف المرشحة للدخول كطرف ثانٍ عديدة, منها الصين, التي لا يتحدث عنها أحد في ظل تعتيم إعلامي مقصود, تفرضه الشركات العابرة والمتعددة الجنسية المستفيدة من مرحلة التوسع الاقتصادي الحالي الذي تعيشه الصين, ولا تريد تعكير صفو مرحلة جني الأرباح. بل هناك من يرشح أيضا عودة روسيا إلى هذا الصراع على الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها منذ دخولها جنة الرأسمالية واقتصاد السوق المفتوحة, التي حولت حياة شعوبها المتعددة جحيما. بل هناك من يذهب إلى ابعد من هذا ويرشح الاتحاد الأوروبي للدخول في هذا السباق, في محاولة لوقف جموح القيادة الأمريكية, التي قد تشكل خطرا على خطط دول الاتحاد الأوروبي في بحثها عن أسواق جديدة تدفع عجلة اقتصادها ليخرج من إطار تبعية الاقتصاد الأمريكي, وليكون (اليورو) عملة قادرة على أن تحتوي اقتصاديات دول أخرى تعتمد على الدولار الأمريكي. من دلائل الحرب الباردة أيضا, تنشيط دور المخابرات الأمريكية في مناطق عديدة من العالم, بما يعني ذلك من التنبيه إلى المخاطر التي قد تتعرض لها المصالح الأمريكية وشركاتها, وما يعني هذا من تجنيد العملاء, والتخطيط لعمليات انقلابية ضد الأنظمة (المتمردة) على الهيمنة الأمريكية, ولردع (الدول اللامسئولة) التي ترفض الخضوع للمخططات الامريكية, والتي تشكل خطرا على هذه الخطط. أول أنشطة المخابرات الأمريكية في هذا الإطار بدأ من خلال التقارير التي قدمتها قبل أسابيع قليلة من خروج كلينتون من البيت الأبيض, وكمقدمة لدخول جورج بوش الابن إلى المكتب البيضاوي, ويشمل هذا التقرير العديد من القضايا أهمها على الإطلاق الموقف في الشرق الأوسط في ظل الانتفاضة الثانية. أما أبرز خططها لانقلابات عسكرية لتحييد بعض المتمردين على الهيمنة الأمريكية فهي من نصيب أمريكا اللاتينية, وبدأ بالفعل الحديث (الإعلامي) عن انقلاب عسكري في فنزويلا, يستهدف بالطبع الرئيس هوجو تشابث, الذي بدأت المخابرات المركزية تضعه تحت مجهرها منذ انقلابه العسكري عام ,1992 لأنه قام بزيارة لكوبا عام 1994 بعد الإفراج عنه من السجن مباشرة, ثم بعد نجاحه في الوصول إلى كرسي الرئاسة في بلاده استقبل الرئيس الكوبي فيدل كاسترو بحماس. بعد ذلك دوره في قمة (الاوبك) في كاراكاس, التي نتج عنها الاتفاق بين الدول الأعضاء على خفض الإنتاج البترولي, مما أدى إلى رفع أسعاره إلى معدلات كبيرة أنقذت ميزانيات العديد من الدول البترولية, التي بدأت تعاني من انخفاض الأسعار التي وصلت إلى أقل من سبعة دولارات للبرميل الواحد. أثناء جهوده هذه زار دولتين تعتبران من المحرمات في السياسة الامريكية, وهما ليبيا والعراق, وهو خطأ من وجهة النظر الأمريكية لا يمكن التغاضي عنه أبدا, بل هناك اتهامات بأنه أوعز لكوبا بشراء ما تستطيع من بترول قبل قمة كاراكاس, لأن أسعاره سوف ترتفع بشكل كبير. بل هناك تقارير سربتها المخابرات الأمريكية إلى العديد من أجهزة الإعلام الغربي, دون أن تقيم الدليل عليها, تؤكد على علاقة الرئيس الفنزويلي بمدير مخابرات البيرو السابق, والذي تطارده العدالة في بلاده بعد دوره في الإحداث الأخيرة التي انتهت بهروب الرئيس فوجيموري, وتحاول تلك التقارير أن تشير إلى وجوده تحت حماية هوجو تشابث, مع أن المخابرات الأمريكية اعترفت أن مدير مخابرات البيرو السابق كان أحد أبرز عملائها في المرحلة الماضية, أي هناك شكوك في أنه تحت حمايتها (؟!).. بعد كل هذه الأدلة, هل هناك شك في أننا بدأنا نقف على أبواب المرحلة الأولى من (الحرب الباردة الثانية)؟. كاتب مصري مقيم في إسبانيا

Email