دور الجيتو في صناعة الثقافة الصهيونية (2 ــ 2) _ بقلم: أمين إسكندر

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن كل الشواهد المعاشة على أرض الواقع في الكيان الإسرائيلي الصهيوني ( الجيتو الكبير) وبعد أن صعدت عقلية ونفسية الجيتو إلى مرتبة الأيديولوجيا الرسمية, فيكفي أن نذكر الرسالة التي وقعها مائتان من المثقفين اليهود في إسرائيل وقاموا بتوجيهها إلى الحكومة يستنكرون فيها اتجاه الحكومة لضم الأراضي العربية, التي احتلت في ,1967 ليس احتجاجاً على خطورة هذا الضم على الطبيعة الإنسانية لهم, لما ينطوي عليه هذا من اختلال وقهر واستعباد وتشريد وإنما لخطورة الضم على الطابع اليهودي للدولة. وفي عام 1931 كتب الدكتور آرثر روبين أحد القيادات المؤسسة لجماعة بريت شالوم (أن بريت شالوم ترغب في أن تنشأ هنا في أرض إسرائيل دولة يسكنها معاً الشعبان المقيمان في هذه البلاد في ظل المساواة التامة في الحقوق.. وتطمح جماعة بريت شالوم في أن توجد هنا في فلسطين مجتمعاً يهودياً متكاملاً يحوي في داخله أكبر عدد من اليهود دونما اعتبار لأغلبية في مواجهة السكان الآخرين لهذا البلد من عدمه). ومن المهم هنا رصد تعبير (أرض إسرائيل) وتعبير (مجتمعاً يهودياً) فهما تعبيران كاشفان لعقلية الاستيطان والجيتو حيث النقاء والسمة, مع السماح بإعطاء حقوق متساوية للفلسطينيين على أرض اسرائيل ورغم ذلك يتراجع آرثر روبين عام 1931 قائلاً: (إن ما نستطيع الحصول عليه من العرب في هذه اللحظة غير ذي فائدة بالنسبة إلينا وما نحتاج إليه لا نستطيع الحصول عليه منهم.. إن ما يمكن أن يتنازل عنه العرب لنا حتى اليوم يمكن أن يكون في أفضل الأحوال ضمان الحقوق لليهود في دولة عربية على نمط الحقوق الوطنية في أوروبا وأي حركة صهيونية لا يمكن أن تقبل بهذا الحل الوسط). والحقوق الوطنية التي يرفضها آرثر روبين, والحركة الصهيونية هي نفسها المعروضة من قبله على الفلسطينيين في الفقرة السابقة!! ويقرر (كاتر نيلسون) زعيم الحركة العمالية الصهيونية في حديث له عام 1941 (يتعذر خداع التاريخ والاحتيال عليه, أن أي تفاهم دائم بين اليهود والعرب لن يتم التوصل إليه إلا على أساس التحقيق التام والكامل للصهيونية.. لابد أن يعترف العرب بفلسطين كدولة يهودية.. لابد من تحقيق البرنامج الصهيوني بكامله). أما (أبا ايبان) فيعلن بوضوح هو الآخر في كتابه (صوت إسرائيل) (إن ما نطمح إليه هو أن تكون العلاقة بيننا وبين جيراننا ليست مثل علاقة سوريا بلبنان, بل مثل علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بأمريكا اللاتينية). وفي جزء آخر يقول (إن هدفنا لا يجب أن يكون الاندماج مع الدول المجاورة, بل على العكس يجب أن نتحاشى مثل هذا الاندماج, ذلك لأن وطن اليهود في رأي الصهيونية يجب أن يخلو نهائياً من العرب). أليست تلك هي عقلية الجيتو بعد أن صعدت إلى مرتبة الأيديولوجيا الصهيونية. بعد قيام دولة إسرائيل (1948) تزايد القلق من جراء استخدام العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل, وقد عبر عن ذلك وزير العمل يوسف الموجي بقوله (حان الوقت للحيلولة دون تزايد نسبة العرب العاملين في إسرائيل. إن هذه النسبة المرتفعة تعتبر لغماً موقوتاً يشكل خطراً على مجتمعنا). (معاريف) 22 سبتمبر 1972 وهو يرى (أن الضمان الوحيد لوجود الدولة اليهودية مرتبط بتنفيذ العمل في البلاد بأيد يهودية) عال همشمار 15 يناير 1972 وفي 19 أكتوبر 1972 وعبر (جيروسالم بوست) عبّر وزير العمل يوسف الموجي عن (قلقه من أن يؤدي ضم عدد أكبر من العمال العرب إلى الاقتصاد الإسرائيلي, ذات يوم, إلى تغيير الطابع اليهودي للدولة) وعن ذلك قال وزير الزراعة (حاييم جيفاتي) في (معاريف) 22 سبتمبر 1972 (هذه دودة تقضمنا, وقد نصل إلى وضع لا نستطيع إصلاحه). وفي 29 سبتمبر 1972 أعرب جيفاتي عن مخاوف مبدئية وأيديولوجية بقوله (إن خطر العمل العربي لا يؤثر في الاقتصاد فقط, وإنما يؤثر أيضاً في شبكة العلاقات الاجتماعية بالذات في إسرائيل). أما المؤرخ الإسرائيلي البروفيسور يعقوب تالمون, وعبر جريدة (هآرتس) 30 نوفمبر 1973 فقد صرح قائلاً (حرصاً على نقاء الدولة اليهودية ونفوراً من تزوير صورة الصهيونية, لا يجب تحويل شعب غريب إلى حطابين وسقاة ماء عند شعب من الأسياد). لذا فإن العدد الكبير للفلسطينيين (مليون ونصف بعد 1967) يشكل حسب رأي يشعياهو ليبوفيتش (تهديداً لنقاء يهودية الدولة الإسرائيلية وثقافتها, حيث أن ضم مليون ونصف عربي إلى الحكم اليهودي معناه تقويض الهوية الإنسانية واليهودية للدولة, وهدم البناء الاجتماعي الذي أقمناه فيها. وفصل الدولة عن الشعب اليهودي في العالم وعن استمرارية التاريخ والتقليد اليهوديين, ودمار الشعب اليهودي وإفساد الإنسان في إسرائيل). ولم تكن التصريحات والأقوال سوى تعبير عن شهوة الحفاظ على نقاء المجتمع اليهودي, أي الجيتو ــ الدولة من قبل قيادات وشرائح متعددة داخل التجمع الصهيوني تراوحت من اليمين إلى اليسار وفي القلب منه معسكر السلام فجماعة ايحود (الاتحاد) والتي تشكلت في عام 1942 من مائة مثقف, وتكونت أول لجنة تنفيذية لها من (مارتن بوبر) و(جوداه ماجنسي) و(موشى سميلانسكي) وآخرين لم تكن تلك الحركة مناهضة للصهيونية, وقد أوضح (جوداه ماجنسي) عن ذلك عندما قال (لقد قيل إن هذا التنظيم معارض للصهيونية, وهذا ليس صحيحاً). وقد أيدت ايحود الهجرة اليهودية بشكل واسع إلى فلسطين بشرط أن تراعي القدرة الاقتصادية الاستيعابية للبلاد, وعلى أن تتم في إطار تعاون تام مع العرب, وأصبحت (ايحود) تؤيد الهجرة غير الشرعية. أما هاشومير هاتسعير (الحارس) والتي يرجع تاريخها لعام ,1912 والتي تحولت إلى حزب سياسي تبنى نهج الثنائية القومية في ,1946 فهي كانت ترى حقاً مشروعاً لليهود في فلسطين, وناضلت من أجل هجرة مفتوحة إلى فلسطين, وتورطت في فظائع حرب 1948 ضد العرب الفلسطينيين, وقد كشف منشور دوري للماباي عن ذلك, حيث جاء فيه (في الواقع كانت كيبوتزات هاشومير هاتسعير تشارك في الاستيلاء على الممتلكات العربية وفي حصد الحقول العربية وفوق ذلك, فإن كيبوتز مشماد هايمك التابع لحركة هاشومير هاتسعير, كان أول كيبوتز يطالب بتدمير القرى العربية المحيطة به). أما حركة السلام الآن فيعبر عنها (ياكوف نالون) في خطاب مفتوح لبيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك قال فيه: (حقوق العرب مسألة لا تخصني.. لكن اهتمامي يتركز في إسرائيل وأمنها). وقد عبر عنها (عاموس عوز) قائلاً في حديث له الجريدة هيرالد تريبيون بتاريخ 3 فبراير 1995: (إن الحركة الوطنية الفلسطينية واحدة من أكثر الحركات التي شهدها هذا القرن شراً وتعصباً). وقد أدلت شولاميت آلوني (من قيادات حركة السلام الآن وزعيمة ميرتس السابقة) بدلوها في تلك القضية قائلة: (لست أشعر بخيبة الأمل تجاه قادة منظمة التحرير الفلسطينية. فأنا لم يسبق لي أن دخلت في قصة حب معهم.. إن ما يهمني هو دولة إسرائيل تفوقها أمنها طابعها ولأجلها يتوجب على التحدث مع أي عدو. وحتى نصبح شعباً حراً على أرضنا, علينا أن ننفض قيود الاحتلال, ولهذا يجب أن نجري مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية ليس لأنهم أناس ظرفاء, وهو ما ليس فيهم, وليس لأنني أؤمن بهم, وهو ما لا أشعر به). وفي يناير 1988 تشكلت جماعة (سيدات في حداد) وقاموا بتأسيس ثلاثين فرعاً حتى عام 1990 وأعربوا عن احتجاجهم على سياسة الحكومة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة, لكن هذه الحركة انتهت بعد حرب الخليج الثانية وإطلاق العراق صواريخها على إسرائيل, عندها آمنت تلك الجماعة بأن الشعب الفلسطيني (لا يستحق سوى الاحتلال بعدما شجع صدام على فعلته!!) عندما قدم (إسرائيل شاحاك) التعريف الإسرائيلي لمصطلح اليهودي في كتاب (الديانة اليهودية وتأثير اليهود وطأة 3000 عام) والصادر عام ,1996 قال: (يظهر الفارق الأساسي بين إسرائيل كدولة يهودية, وبين أكثرية الدول الأخرى. فإسرائيل بحسب هذا التعريف هي (ملك) لأشخاص تعرفهم السلطات الإسرائيلية كيهود بصرف النظر عن المكان الذي يعيشون فيه, وتعود إليهم وحدهم. أما من ناحية أخرى, فهي لا تعود لمواطنيها من غير اليهود الذين تعتبر مكانتهم لديها مكانة دونية, حتى على الصعيد الرسمي. وهذا يعني علمياً بأن أفراد قبيلة من قبائل البيرو, إذا اعتنقوا الديانة اليهودية واعتبروا بالتالي من اليهود, يحق لهم أن يصبحوا مواطنين إسرائيليين على الفور, وأن يستفيدوا من حوالي 70% من أراضي الضفة الغربية, ومن 92% من مساحة إسرائيل الأصلية المكرسة رسمياً لصالح اليهود فحسب. أما الأغيار كافة (وليس الفلسطينيون وحدهم) فإنهم يمنعون من الاستفادة من هذه الأراضي (وينطبق هذا المنع حتى على الإسرائيليين العرب الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي وبلغوا رتباً عالية فيه). وهكذا شكلت ثقافة الجيتو من التوراة إلى الدولة أنماطاً من التفكير الانغلاقي وتمجيد القسوة الإسبرطية كمثل أعلى وكراهية حتى الموت للأغيار, وصور نمطية للعرب عند الإسرائيليين ومفاهيم وظيفية براجماتية للسلام, والنظر للسلام من منظور فرض الأمر الواقع بالقوة, والنزوع للعنف المقدس حسبما جاء في التوراة وقد شملت تلك الثقافة كل أفراد التجمع الصهيوني, حيث تضافرت وتفاعلت عوامل عدة كان من بينها التوراة والصهيونية والعنصرية والجيتو وعناصر أخرى كثيرة, وقد كان الاستيطان الصهيوني نموذجاً مجسداً للجيتو وعقليته عندما شرعت الحركة الصهيونية في احتلال فلسطين. باحث مصري

Email