بعد مرور عشر سنوات على التحرير.. نظرة أخرى على العراق _ بقلم: د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مثل هذا اليوم منذ عشر سنوات, كانت رياح التحرير تهب على الكويت وتُعمل أثرها في سطح الأحداث السياسية, مُبشرة بعصر جديد يسبق دخول القرن الواحد والعشرين. فيما كان الكويتيون سواء الذين توزعوا في منافيهم المختلفة, والكثيرون الذين بقوا تحت نير الاحتلال على أرض بلادهم يتأهبون لاستقبال يوم التحرير القريب, وكانت نظرة التفاؤل تملأ عيونهم التي أرهقتها ظلمة الاحتلال. لذا فكلما اقتربت تلك الذكرى, في كل عام, عادت إلى الذهن من جديد تفاصيل المعاناة التي تحمّلها الكويتيون, متضافرة مع القصص الإنسانية المختلفة والكئيبة التي صاحبت أحداث تلك الأيام, كما تعود إلى الذهن الآمال التي أخفقت في التحقيق للوصول إلى سلام إقليمي بعيداً عن التهديد أو الحرب. وإذا كانت الأحداث الإنسانية تُنسى بعد فترة, فإن الذهن الإنساني يستبقي ــ بصورة أكثر حضوراً ــ ما مرّ به من أحداث, وخاصة أشدها وضوحاً وإيلاماً, في الوقت الذي تتلاشى فيه أحداث أخرى, إذا كانت تلك الأحداث قد خبا وهجها واختفت أسبابها. أما أن تكون الأسباب نفسها شاخصة لم تتغير كثيراً لا من حيث الخطاب السياسي, ولا من حيث الأشخاص, فإن ذلك يشير إلى دراما إنسانية مستمرة لمدة عشر سنوات. وأن شخوصها ما زالوا قائمين وأسبابها أيضاً مُعادة ونتائجها باهتة. وقد سيقت تفسيرات عديدة للدوافع الحقيقية التي جعلت العراق يعتدي على الكويت ثم يسعى إلى إلغاء وجودها بجرة قلم. وقد كُتب حتى الآن العشرات من الكتب وربما الآلاف من المقالات تجهد في شرح تلك الدوافع والأسباب, ولكن هناك سبباً مباشراً كثيراً ما ظهر وتردد في تلك الكتابات والتحليلات, هو أن ما حدث كان إحدى نتائج الحرب التي شنّها العراق على إيران. فتداعيات هذه الحرب هي التي قادت إلى اجتياح الكويت, مما نجم عنه اندلاع ما عُرف بحرب الخليج الثانية. لقد خرج العراق من تلك الحرب, وهو مصاب بما يشبه نزيف الدماء, مئات الآلاف من الرجال قُتلوا أو جُرحوا أو وقعوا في الأسر, كما دُمر القسم الجنوبي من العراق, خاصة المنطقة المحيطة بمدينة البصرة. ويُقدر الدمار الذي لحق بالعراق نتيجة هذه الحرب بعشرات المليارات من الدولارات, كما بلغت ديون تلك الحرب في أقل الأرقام تحفظاً ثمانين مليار دولار, عدا الثمن الإنساني الباهظ الذي دفعه كل من شعبي العراق وإيران. لكل تلك الأسباب اهتزت هيبة النظام, مما دفعه إلى ما يُعرف اليوم بضربة البوكر الجديدة وهي احتلال الكويت. لقد كانت الأسباب المباشرة التي سيقت وقتها في ماكينة الدعاية العراقية باهتة ومتداعية. فالجميع يتذكرون ادعاء العراق بأن الكويت تعمل على تخفيض سعر النفط في السوق العالمية, ولما لم يصمد هذا الادعاء أمام الواقع والحقيقة, كرت سبحة الأسباب وتنوعت, إلى أن قادت إلى حرب الخليج الثانية. لقد بدأت الأزمة وتحولت إلى حرب, وبعد عشر سنوات ما زالت الأزمة قائمة, تتغير أسبابها, أما مظهرها فهو قائم يراوح مكانه, كما أن تداعياتها لم تنته بعد. لا يزال الاستقرار بعيداً عن العراق, وهو بالتالي بعيد ــ بالمسافة نفسها ــ عن المنطقة كلها. فقد عانى العراق منذ ثورة 1958 مجموعة من الانقلابات, والصدامات الدموية بين مختلف الفصائل السياسية, من البعثيين والناصريين والشيوعيين والقوميين, ناهيك عن أحزاب الأكراد المتحالفة يوماً والمتصارعة أياماً. وقد سعى العراق للتخلص من الدوران في الفلك الغربي ليدور من جديد في الفلك الشرقي حتى أصبح دورانه دون محور. وقد مرّ العراق في بداية السبعينيات من القرن المنصرم بطفرة اقتصادية, عندما تضاعف الدخل العراقي من البترول في فترة وجيزة في بداية ذلك العقد أكثر من خمس مرات, استطاع النظام بعدها ــ مع أنه كان لا يزال سريع العطب ــ أن يوطد أركانه. إذ ارتفع بين العامين 1972 و1978, عدد الموظفين الرسميين في الدولة العراقية ــ باستثناء الجيش ــ من أربعمئة ألف إلى ستمئة وخمسين ألف شخص, منهم مئة وخمسون ألف شخص لوزارة الداخلية فقط, في عملية مكشوفة لبناء دولة بوليسية (في رأي أكثر المحللين حياداً), مما جعل واحداً من أكثر المراقبين قرباً لهذه الفترة وهو سعد البزاز يقول في أحد كتبه, لو كان بقي للنظام العراقي دولار واحد لقسمه نصفين: نصف لقوى الأمن الداخلي والنصف الآخر للإعلام. لقد كانت الدولة العراقية, عشية الحرب مع إيران, معلقة في كل شئونها بالدخل النفطي الذي شكّل ما نسبته 99% من صادراتها, وكانت قد بنت قوة ضاربة لجيش تنامى ليصبح تعداده مليون جندي تحت السلاح. هذان الوجهان الاقتصادي والعسكري للوضع العراقي أغريا متخذ القرار في بغداد بتصدير الصدامات الداخلية إلى الخارج, فراراً من استحقاقات داخلية واجبة, فكانت الحرب مع إيران التي استمرت أكثر من ثماني سنوات, لتفضي بدورها إلى حرب الخليج الثانية. الوضع الاقتصادي العراقي اليوم صار أسوأ من أيام ما بعد حرب الخليج الأولى, والوضع الأمني الداخلي بات أشد قسوة من أي فترة مضت, وغدت الاستحقاقات العراقية الداخلية أبعد ما تكون عن الإنجاز, كل ذلك يشكل عناصر الأزمة القادمة. هناك أطراف كثيرة ومتباينة تقرأ الوضع العراقي بعد عشر سنوات من المأساة, ولكن كل طرف يصوغ قراءته من منظور مصالحه, بينما آخر ما تنظر إليه هذه الأطراف ــ غالباً ــ هو مصلحة الشعب العراقي. فأين المخرج؟ دول في المحيط القريب أو البعيد تنظر إلى مصالح تجارية واقتصادية لها مع بغداد, وتسعى جاهدة لتعظيم هذه المصالح التي يقوم النظام العراقي بتشجيعها بهدف استثمارها لتحقيق أهداف سياسية. هذه المعادلة التي تشبه معادلة مصطلحية غير قابلة للحل من الطراز الأول, لا العراق قادر على تحمل تبعاتها الاقتصادية لفترة طويلة, لأن الطلب أعلى من المعروض والممكن, ولا الدول الأخرى قادرة على تلبية كل ما يرغب فيه العراق سياسياً. وتظل محصلة المعادلة في نهاية المطاف هي استمرار عذاب الجماهير الغفيرة من الشعب العراقي, مع استنزاف الموارد العراقية المتوافرة في آن واحد. الولايات المتحدة في ظل إدارتها الجديدة جعلت الموضوع العراقي على رأس أجندتها السياسية, وما رشح حتى الآن من المعلومات يشير إلى أن الإدارة الجديدة أنجزت في الأسابيع القليلة الماضية ما لم تنجزه الإدارة السابقة في مجمل عامها الأخير باتجاه التفكير الجدي في المسألة العراقية, كما يشير إلى أن هذه الإدارة تنظر إلى أولوياتها التي تترجم مصالح الولايات المتحدة لا مصالح الشعب العراقي, مع الاعتراف بأنها وصلت إلى محصلة سياسية ترى أن (النظام العراقي يمثل تهديداً أساسياً لمصالح الولايات المتحدة والغرب). ولكن السيناريو لم يُرسم ــ بدقة ــ الطرق والوسائل التي يتعين اتخاذها لمواجهة هذا التهديد, ولا حتى التوجهات العامة له, عدا ما نُشر في التقرير الرئاسي (أمريكا والشرق الأوسط: الإبحار في مياه مضطربة), والتقرير ــ الذي هو بمنزلة تصورات مقترحة للإدارة الجديدة تجاه الشرق الأوسط ــ يصف العراق بأنه نقطة الخطر الكبيرة على المصالح الأمريكية في المنطقة. التقرير المذكور لم يلحظ توجهات السياسة الإسرائيلية التي تصاعدت لتقذف في مياهها حكومة متشددة تزيد من تعقيد الموقف في المنطقة بكاملها, بما فيها استقواء النظام العراقي, على الأقل من حيث الخطاب العلني, ومن حيث تعزيز التحالفات المصلحية. الخاسر الأكبر في مسيرة السنوات العشر الماضية هو الشعب العراقي, ويبدو مما هو قائم ومنظور أن هذه الخسارة سوف تستمر, كما أن هناك أيضاً أطرافاً أخرى خاسرة منها التنمية العربية بشكل عام, والاستقرار في منطقة حيوية وشديدة الحساسية مثل منطقة الخليج. من السابق لأوانه القول إن سياسات جديدة تُرسم, ولكن من المحتمل أن البعض يفكر في سياسات جديدة, وزيارة وزيرة خارجية الولايات المتحدة إلى المنطقة هي بداية جس النبض لمثل هذه السياسات, التي سوف تختلف في الشكل والمضمون إن كان يراد لها حظ من النجاح. عشر سنوات ليست بالفترة القصيرة في تاريخ الشعوب, وليس من المرجح الانتظار عشر سنوات أخرى حتى نرى شيئاً من التغيير, وإن كانت أحداث الشرق الأوسط قد علّمتنا مراراً أن الزمن هو أرخص السلع في التداول. * أمين عام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت

Email