الصبر والإيمان ... على الطريقة الأمريكية، بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في طريقه للشرق الأوسط, ومعه من الإدارة الأمريكية الجديدة للعرب صنفان من الدواء.. الصبر والإيمان! الصبر على السفاح شارون حتى يرتب أوضاعه ويشكل حكومته, ومنحه الفرصة الكافية بوقف العنف (أي الانتفاضة) وفرض جو من الهدوء في الأرض المحتلة, واستعادة التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والمخابرات الأمريكية, ووقف التصريحات الرسمية المعادية لسفاح صبرا وشاتيلا واعلان الرضا والقبول بمن اختاره الإسرائيليون قائدا لهم! أما الإيمان فيرتبط بتجديد الاعتقاد بأن الخطر الحقيقي على الأمن والاستقرار في المنطقة لا يأتي من إسرائيل (تحت حكم شارون أو سواه) وإنما من العراق الذي ينبغي تشديد الحصار عليه واستمرار حرب التجويع على شعبه, ووقف كل الجهود العربية للمصالحة, وإدانة أي خرق عربي للحصار الذي تفرضه أمريكا على شعب العراق منذ عشر سنوات, وفتح الباب لضربة أمريكية جديدة تدمر ما تبقى من البنية الأساسية في العراق, وربما منع الخبز والحليب عنه حتى لا يستخدمها في إنتاج أسلحة الدمار الشامل التي تهدد جيرانه! الصبر على شارون والإيمان بأن العراق هو الخطر الذي ينبغي أن يحاصر وتتم تصفيته.. هما العنوانان البارزان لمهمة وزير الخارجية الأمريكي في جولته المرتقبة في المنطقة. وأظن أن المهمة لن تكون سهلة, والاستجابة سيكون أمامها ألف عقبة, حتى ولو سبقت باول تقارير للمخابرات الأمريكية يتم تسريبها وتتحدث عن أوضاع قابلة للانفجار في العديد من الدول العربية, في إشارة لها معناها عندما تصدر في هذا الوقت ومن المخابرات الأمريكية مباشرة. فالمطالبة بالصبر على شارون تذكر العرب بما حدث عقب انتخاب نتانياهو, حيث استجاب العرب لنداءات أمريكا, وانتظروا شهورا ليفاجأوا بأن ما أعلنه نتانياهو في حملته الانتخابية من مواقف متشددة قيل إنها من لوازم الانتخابات فقط. قد أصبحت هي السياسة الرسمية للحكومة الإسرائيلية, وكانت النتيجة أن انتقلت جهود التسوية السلمية من مأزق إلى مأزق حتى سقط نتانياهو وجاء باراك ليتكرر الأمر وإن كان بصورة أقل تشددا, وانتظر العرب, وبقي باراك في الحكم ما يقرب من عشرين شهرا أعلن في نهايتها أنه الرجل الذي لم يتنازل!! للفلسطينيين عن شبر واحد من الأرض المحتلة! الآن والإسرائيليون يسلمون قيادتهم للسفاح شارون تعود المطالبة للعرب بأن ينتظروا ويمنحوه الفرصة.. وقد يكون ذلك مفهوما إذا كانت هناك ضمانات أمريكية أو دولية تشجع على الرهان على استمرار عملية التسوية, ولكن ما يحدث هو العكس..فأمريكا تعلن أن مقترحات كلينتون التي قدمها كأساس للتفاوض بين إسرائيل والفلسطينيين لم تعد موجودة وأنها ذهبت مع كلينتون ولم تعد ملزمة للإدارة الجديدة التي سوف تبحث القضية من جديد وتضع تصورها للدور الأمريكي بالمنطقة في المرحلة الجديدة. وشارون من ناحيته يقوم بتشكيل حكومة الحزب في إسرائيل, وحزب العمل يدخلها بشروط الليكود, وباراك يعلن أن ما تم التوصل إليه مع الفلسطينيين في مباحثات طابا قد ذهب مع الريح, وشارون يعلن أنه الرجل الذي سيضع السلام (على الطريقة الإسرائيلية بالطبع!) ويؤكد شروطه لهذا السلام الإسرائيلي.. فلا مفاوضات حول القدس ولا تفكيك للمستوطنات, ولا عودة للاجئين, والانسحاب من الجولان, ولا مباحثات من أي نوع إلا بعد أن تتوقف الإنتفاضة ويستتب الهدوء وتقوم السلطة الفلسطينية باعتقال قيادات المقاومة وحفظ الأمن.. الإسرائيلي! في ظل هذه الأوضاع يجيء باول ليطلب إعطاء شارون الفرصة.. ليس فقط لتشكيل حكومته, وإنما لمحاولة استيعاب الصدمة التي أصابت الرأي العام (خاصة في أوروبا) من وصول هذا السفاح إلى منصب رئيس الوزراء ودراسة كيفية التعامل معه, وأيضا لاعطاء المنظمات الصهيونية في أمريكا وأوروبا الفرصة ليتحمل الفلسطينيون مسئولية انتخاب شارون برفضهم لاتفاقيات الإذعان التي عرضها باراك, ثم لمحاولة تحسين الوجه القبيح للحكم في إسرائيل بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإعطاء الوزارات الأساسية لحزب العمل القابل للتسويق في دوائر الغرب أكثر من شارون. وسوف يكون على باول أن يجيب عن العديد من الأسئلة التي سيواجهها في المنطقة : وهو ماذا بعد إعطاء شارون الفرصة؟ هل ستتغير سياساته؟ هل سيواصل البحث عن تسوية تلبي الحد الأدنى المقبول من المطالب الفلسطينية المشروعة؟ هل سينصاع لقرارات الشرعية الدولية؟ هل سيتحول بين يوم وليلة من سفاح لا يعرف إلا لغة المذابح إلى باحث عن سلام حقيقي يحترم حقوق الآخرين حتى يحترموا حقوقه؟ ولن يكون عند باول أي إجابة عن هذه الأسئلة. لكن الأخطر هو ما سيقوله عن الموقف الأمريكي بعيدا عن العبارات الفضفاضة وحديث الطمأنة الكاذبة.. الأخطر هو ما سيكشفه من أن الإدارة الأمريكية الجديدة لا تملك تصورا واضحا للتعامل مع مسيرة التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل..وأنها بعد أن دفنت مقترحات كلينتون تتصور أن بإمكانها ترك ملف التسوية لفترة من الوقت تتفرغ خلالها لضرب العراق وتشديد الحصار عليه واستكمال المهمة التي بدأها الفريق الجمهوري تحت قيادة بوش الأب قبل عشر سنوات, والتي يتصور الابن أنه يستطيع استكمالها الآن بمساعدة نائبة تشيني ووزير خارجيته باول أبرز الوجوه في حرب الخليج وضرب العراق. وبالطبع لن يستطيع باول الحديث عن ضرب العراق دون التطرق لجهود التسوية, ولكن غاية ما سيطرحه هو أن لا مكان الآن لتسوية تتناول القضايا الهامة والحلول النهائية للصراع العربي الإسرائيلي.. وأن غاية ما يمكن عمله هو العودة للحلول المرحلية التي تستهدف استعادة الأمن وتهدئة الأوضاع وربما بعض المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين والإدارة الذاتية لمناطق السلطة الفلسطينية, مع استبعاد القضايا الأساسية كالقدس واللاجئين. وهو الحل الذي بشر به هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق, وأعلن شارون عن استعداده للسير فيه, ووضعته الإدارة الأمريكية الجديدة في بؤرة اهتمامها. هذا ما سيقوله باول وما سيطلبه.. فماذا سيسمع في العواصم العربية؟ سيسمع بالطبع الكثير من عبارات المجاملة الدبلوماسية والاعتزاز بصداقة الدولة الأعظم, والآمال التي تبنيها هذه العواصم على الإدارة الأمريكية الجديدة. ولكن المطلوب فوق ذلك وقبله وبعده أن يسمع موقفا حاسما من القضايا الاساسية المطروحة المطلوب أن يسمع موقفا يؤكد أن الخطر الأساسي على أمن المنطقة ومستقبل الأمة العربية هو إسرائيل. أنها قوة العدوان التي تحتل الأرض وتغتصب الحقوق العربية وتملك الترسانة النووية التي تهدد بها أمن المنطقة والعالم. وليس من المقبول أن يقال اليوم إن العراق هو الذي يهدد سلام المنطقة وهو يعاني الحصار منذ عشر سنوات وقد تم تجريده من كل الأسلحة غير التقليدية ودفع ثمن خطأ غزو الكويت من حاضره ومستقبله. والمطلوب أن يسمع وزير الخارجية الأمريكية كلاما قاطعا بأن العودة لضرب العراق أمر مرفوض, وأن استمرار الحصار المفروض عليه هو جريمة إنسانية ينبغي إيقافها, وأن محاولة تقسيم العراق أو اشعال الحرب الأهلية على أرضه أمر ستقف الأمة العربية كلها في وجهه, وأن ابتزاز دول الخليج بحجة التهديد العراقي قد أصبح لعبة مكشوفة. والمطلوب أن يسمع وزير الخارجية الأمريكي كلاما حاسما بأن أمن الدول العربية هو مسئولية عربية, وأن الاستقرار في المنطقة لن يتحقق إلا بفرض قرارات الشرعية الدولية على إسرائيل وانسحابها إلى حدود يونيو 67 وإقامة الدولة الفلسطينية وتحرير القدس والجولان وضمان تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من السلاح النووي. والمطلوب أن يسمع وزير الخارجية الأمريكي كلاما قاطعا حول حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وتحرير الأرض, وحول واجب الأمة العربية في دعم انتفاضة هذا الشعب المجاهد. وأن تهديدات المخابرات الأمريكية وحكومة إسرائيل حول خطورة الانتفاضة وانتشار تأثيرها إلى العالم العربي كله لا تخيف أحدا. فالذي يخيف حقا هو قبول شروط الاذعان الامريكية الإسرائيلية, والذي يخيف حقا هو فرض حلول تضيع فيها القدس وحقوق اللاجئين والذي يخيف حقا هو رد الفعل الطبيعي في الشارع العربي ضد المذابح الإسرائيلية للشعب الفلسطيني, والذي يخيف حقا هو تصور الإدارة الأمريكية الجديدة أنها تستطيع استكمال مهمة حصار العراق وتجويع شعبه أو أنها تستطيع انتزاع موافقة بعض الأطراف العربية على هذه الجريمة. والمطلوب أن يسمع وزير الخارجية الأمريكي مطالبة عربية شاملة بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني فمن غير المقبول أن تطالب الإدارة الأمريكية العرب بالصبر والانتظار, بينما إسرائيل تشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني, وبينما حكومة الحرب تتشكل, وبينما التهديدات بتصعيد الضربات الإسرائيلية للشعب الأعزل تتوالى, وبينما الحصار الاقتصادي يشتد. إننا أمام حكومة يرأسها سفاح وجيش احتلال يقيم المذابح, وقرارات دولية تداس بالأقدام.. بينما الولايات المتحدة تطالبنا بالصبر, وتطالب العالم بأن يغمض عيونه فلا يرى إلا ما تريد واشنطن وتل أبيب أن يراه. إن توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني أمر مشروع. وموقف أمريكا من هذا المطلب سوف يكشف عن نواياها تجاه العرب في المرحلة المقبلة. والمطلوب أن يسمع وزير الخارجية الأمريكي ما يؤكد له أن التفهم العربي لمصالح أمريكا في المنطقة, يرتبط بالتفهم الأمريكي لحقوق العرب المشروعة, وأن استمرار الانحياز السافر لإسرائيل والإصرار على معاداة المشاعر العربية, ووضع العراق في وجه المصالحة العربية, و ممارسة الضغوط لمنع اللقاء بين الأطراف العربية, والإصرار على حصار ليبيا وضرب العراق.. كل ذلك لن تكون له من نتيجة إلا تهديد المصالح الأمريكية نفسها. والمطلوب أن يدرك الوزير الأمريكي أن الولايات المتحدة هي المسئولة عن هذه الأوضاع الخطيرة التي تعيشها المنطقة. هي المسئولة عن فشل مشروعات التسوية السياسية بين العرب وإسرائيل بانحيازها الأعمى للكيان الصهيوني في دعمها اللامحدود واللامسئول لعدوانه على العرب. وهي التي تصر على حصار الأمة العربية واستنزاف ثرواتها وابتزازها سياسيا وعسكريا واقتصاديا. وهي التي تتصور أن مصالحها لا تتحقق إلا على حساب العرب, وأن هيمنتها على المنطقة ترتبط فقط بإسرائيل القوية القادرة على إخضاع العرب لحسابها أو لحساب واشنطن. والنتيجة الحتمية لكل ذلك أن تقف المنطقة على حافة الانفجار. هذا هو المطلوب أن يسمعه باول في العواصم العربية. والرجل من ناحيته قال إنه جاء ليستمع قبل أن تقرر الدبلوماسية الأمريكية خطواتها التالية. فهل يقال ما ينبغي أن يقال, وهل تسمع أمريكا ما ينبغي أن تسمع أم أن الأحوال ستتغير بعد أن يوزع باول العلاج الأمريكي الموصوف للموقف الراهن, أي الصبر والإيمان.. الصبر على شارون والإيمان بأن العراق وليس إسرائيل هو الخطر؟!

Email