في منطقتنا المضطربة ، إعلام جديد ... وسياسات جديدة، بقلم: د. محمد الرميحي

ت + ت - الحجم الطبيعي

على الرغم من كل ما يدور حولنا في منطقة الشرق الأوسط من أحداث تتلاحق منذ بداية العقد الأخير من زماننا المضطرب الى حد تقطيع الأنفاس, فإن ثورة جديدة تسري بعيداً عن الملاحظة المباشرة. هذه الثورة لا تهدف، الى تغيير الحكومات التي ظلت, في الشرق الأوسط, ثابتة في معظمها حتى اللحظة, ولكنها تصب جهدها على تغيير الأفكار, التي هي أكثر خطراً في تأثيرها. هذه الثورة ــ التي نقصدها ــ هي الثورة الإعلامية. فقد اعتدنا لفترة طويلة ان تتحكم الحكومات ــ في منطقتنا ــ فيما يسمعه المواطن العادي أو يقرأه أو يشاهده على امتداد حياته كلها, كماً وكيفاً, إلى درجة المنع الكامل أحياناً, أو على الأقل التحكم فيما يظهر على السطح. أما اليوم فقد انفكت هذه السيطرة, حتى غدا ما نراه ونسمعه بين وقت وآخر من إثارة لمسألة المنع أو الحجْر (الإعلامي). بمنزلة النفس الأخير الذي يقاوم جحافل الثورة المقبلة, أو الطلقات الأخيرة التي يطلقها المقاومون ــ تشبثاً بالماضي ــ وهم يتراجعون يائسين دون تنظيم. ربما تكون هذه الثورة نتيجة العولمة, وربما تكون أحد تأثيرات التقنية الحديثة, وربما كانت عوامل أخرى هي التي تؤجج هذه الثورة, لكن من المؤكد ان عدة عوامل قد ساهمت في التحضير لهذه الثورة (البيضاء) التي تتعدد بين السواتل الرقمية القادمة من الفضاء واتصالات الانترنت المنبثة من أركان العالم الأربعة, تدفعها السرعة في تطور التقنية الى آفاق جديدة كل يوم, كما تلاقيها ــ بلهفة وشغف ــ إرادة الأفراد والشعوب في توقها الى الانعتاق من الحالة التي حُرمت فيها طويلاً من حقها الإعلامي! ربما كانت القفزة التقنية الأولى في هذه الثورة هي إصدار الصحف العربية الدولية من الخارج في العواصم الغربية تحديداً, وطباعتها وتوزيعها في الداخل, أو في معظم الداخل على وجه الدقة. فلقد قامت صحافة الهجرة أولاً على استثمار الحرية النسبية في الغرب, ثم ما لبثت التقنية الجديدة أن قدمت وسائل ضاربة في السرعة كي تصبح هذه الصحافة متوافرة بشروطها للقارىء العربي داخل بلده. وقد كانت جريدة (الشرق الأوسط) هي السبّاقة في هذا المضمار, وهي تقدم اليوم خدمة صحافية غير مسبوقة في اتساعها وسقف حريتها وتنوعها. أما جريدة (الحياة) فقد أصبحت ملاذاً للمثقفين العرب, حيث تجد على صفحاتها, خاصة التي تحمل وجهات نظر في السياسة أو الثقافة أو الرأي, ما لا تجده في أي جريدة أخرى, من حيث التنوع وجدة الطرح والنقد, خاصة فيما يتعلق بـ (التابو) السياسي الذي تعوّد كثيرون على التعايش معه, حتى أصبحت هذه الصفحات التي تحمل ــ بين أعمدتها وسطورها ــ الآراء المختلفة بصدق وجرأة, مرآة حقيقية لما يفكر فيه الكثيرون من العرب, ما يجعل منها مرجعية لا غناء عنها لقياس درجات الرأي العام العربي غير المقيد. وأهم من ذلك كله أنها تتضمن في هذا التنوع غطاءً عربياً يتجاوز البلد الواحد أو الدولة ليخوض في العام والجوهري من قضايا العرب جميعاً, وعلاقاتهم ببيئتهم السياسية. ولعلنا لا ننسى صحفاً أقل انتشاراً, وإن كانت واضحة التأثير في قطاع عربي غير قليل, مثل جريدتي (الزمان) و(القدس) اللتين تصدران في لندن, وتوزعان في بعض المناطق, ونظراً لعرض الأخيرة بسعر أقل من الجريدتين الكبيرتين (الشرق الأوسط) و(الحياة), فإن كثيراً من القراء العرب ممن يعيشون في أوروبا ويريدون معرفة شيء مما يجري, سواء في بلادهم الأصلية وفي العالم, يلجأون لشرائها بسبب اغراء السعر المنخفض نسبياً, وهو ما يشكّل توسيعاً لمقروئية هذه الجريدة, ويسمح لها بتكوين رأي عام هو مهيأ أصلاً ــ وربما يطرب ــ لما تبثه من إعلام. أما السواتل العربية (المحطات الفضائية العربية) فقد تعدت اليوم السبعين, وتوزعت من حيث الملكية بين خاصة وشركات وأفراد وحكومات, وقد ولدت هذه المحطات متمثلة أيضاً بالنتيجة التي حققتها محطة الـ (سي.ان.ان) الأمريكية على الصعيد الدولي من انتشار وتأثير, وقد انطلقت هذه المحطة في الثمانينيات وازدهرت في التسعينيات, ويبحث القيّمون عليها ــ جدياً ــ بثها باللغة العربية اليوم, كما تبث بلغات دولية عديدة. وسواء أكانت السواتل العربية تعمل مدفوعة بأسباب الربح أم المنافسة أم قطع الطريق على الآخرين, أم بهذه الدوافع مجتمعة, فإن هذه السواتل تخوض حرباً في الثورة المشتعلة من أجل كسب الرأي العام العربي بكل قوة واستقطابه لمشاهدتها, والإفادة من خدماتها الإعلامية المتنوعة, وأهم من ذلك فإن هذه السواتل قد كسرت احتكار الدولة السابق للفضاء الإعلامي الذي تجاهد الحكومات العربية اليوم من أجل كسب جزء منه مجدداً, وإن كان جهدها جله ــ إن لم يكن كله ــ يذهب أدراج الرياح. وعلى الرغم من تعقد نظام البث في السواتل العربية ــ بدليل اضطرار المشاهد الى استخدام أكثر من تقنية وصحن لاقط, كي يتمكن من متابعة ما يريد ــ وكذلك تعقد نظام الاشتراك وكلفته المرتفعة نسبياً, على الرغم من ذلك فإن بقاء المحطات التجارية واستمرارها يعني أنها تقوم بعمل تجاري شبه ناجح أو بعمل سياسي ناجح تماماً معتمدة على تمويل كثيف, والدليل هو بقاؤها, واستمرار رغبة المشاهدين في ديمومتها. والملاحظ في الفترة الأخيرة كثافة الإعلان التجاري في المحطات الناجحة, والمعلنون ــ بطبيعة الحال ــ لا يضيعون أموالهم هباءً, ولولا معرفتهم الضمنية بأن هناك جمهوراً كبيراً من المشاهدين يتابع المحطة المعنية, لما بثّوا إعلاناتهم على شاشتها. وبجانب تقديم وجهات نظر مختلفة فإن السواتل العربية, في كثير منها, قد كسرت طوق الرقابة التقليدية, وشجعت على الحوار, الذي توزع بين حوار موزون وعقلاني وحوار بعيد عن العقلانية, وهذا الأخير يصنّف على أنه تنفيس باتجاه الآخر, أكثر منه نقداً للذات, فقد يقدم محلل نقداً جارحاً لما يحدث في بلاد بعيدة عن بلده, ولكنه يحجم عن فعل ذلك باتجاه معايشته المباشرة في بلده, في الغالب خوفاً, وفي بعض الأوقات رجاءً, إلا أن المؤكد أن (الناتو) الذي كان محرماً من قبل, بدأ يُناقش ويستقطب عدداً كبيراً من المشاهدين, إلى درجة ان بعض القادة العرب يلجأون الى سواتل الشركات الخاصة أو المفتوحة للحديث بعيداً عن سواتل دولهم, كسباً لأكبر عدد من المشاهدين, كما حدث فيما قبل القمة العربية الأخيرة أو بعدها بقليل. كل هذا يدفعنا الى التساؤل عما يمكن أن يقودنا اليه هذا التقدم التقني والسباق الإعلامي ــ سياسياً ــ في منطقة تزخر بالكثير من الفخاخ السياسية. لعل الواضح أن فكرة الرقابة القديمة أرخت قبضتها, إن لم تكن غادرت قسرياً قاموس التداول النشط, واتخذت طريقها نحو مستودع مخلفات الزمن الماضي. كما أن شبكات الانترنت في السنوات الأخيرة قد وجدت جمهوراً واسعاً من المشاركين, وهي تتجاوز في اتصالها الكثير من الموانع الاجتماعية والثقافية والأخلاقية وأىضاً السياسية, وإن كان من المبكر القول إلى أين ستأخذنا التقنية الجديدة والمتطورة التي سوف تربط السواتل مباشرة بالانترنت, وتجعل انتقال الأفكار والمعلومات باليسر نفسه الذي يتم به الحديث بين شخصين في حجرة واحدة. لهذه الأسباب السابقة فإن عنصراً مهماً سوف يدخل في هذا السباق هو عنصر رأس المال, سواء المحلي أو الإقليمي أو الدولي, والذي سيكون له تأثير في تكوين الرأي العام العربي, وهو يدعو لما تدعو إليه العولمة من شفافية ومساواة وتعددية وتقليص للعناصر السالبة في التداول الاقتصادي على مستوى العالم. كذلك من المتوقع أن تشكل هذه الوسائل الحديثة للإعلام هوية عربية متقاربة وجديدة, فالتقنية المتوافرة تتيح للعرب المحادثة والتخاطب في أي مكان كانوا, وأن يقرأوا ويشاهدوا ويسمعوا الأفكار المتداولة نفسها على الفور, بل إن البعض يذهبون الى أن اللهجات العربية تتقارب لتصبح لهجة توحدية هي لهجة السواتل, وستكون هي المقبولة والمفهومة للجميع, وعن طريقها ستُخلق هوية جديدة للعربي خارج حدوده الوطنية. إلا أن النتيجة النهائية للتأثير الأوسع تعتمد على طبيعة النسيج الاجتماعي العربي وقدرته على تشرب الأفكار الجديدة, كما تعتمد على قدرة وسائط الإعلام هذه على الاستقلال المالي وبالتالي السياسي. فإن استطاعت بعضها أن تكون مستقلة, بحيث يأتي دخلها من تعضيد المشاهد أو القارىء أو المستمع فإن تأثيرها سوف يزداد, أما إذا بقيت كما هي حال بعضها معتمدة على تمويل رسمي, أو متلقية لبعض التبرعات الجانبية فإن صدقيتها ستكون أقل ــ بالضرورة ــ وبالتالي سيضعف تأثيرها في المدى البعيد, خاصة أن المتلقي العربي لديه حساسية عالية في تفسير ما يعرض عليه بأن (وراءه) شيئاً ما خفياً. انطلاقاً من تبنيه نظرية المؤامرة المشهورة في الثقافة السياسية العربية التي استمرت لفترة طويلة. والمؤكد أن الوعي من خلال هذه الوسائط قد أخذ في الظهور, حتى أن سلطات مختلفة لم تجد أمامها إلا السعي لمسايرة هذا الأمر وتحسين شروطها السياسية في المشاركة والانفتاح والشفافية. ولدينا العديد من الشواهد المحيطة في المنطقة التي تؤكد أن مسيرة التوافق السياسية, مع ما تفرضه المتغيرات ــ خاصة متغيرات الثورة الإعلامية ــ قد بدأت تلوح بالفعل, وهو توافق لا يمكن إنكار مساهمة الثورة الإعلامية فيه. بيد أن الفرق بين الإعلام والمعرفة فرق واضح, فالإعلام في وقت ما ينقاد الى الرأي العام أكثر مما يقود, بينما المعرفة هي توظيف حقيقي لمعلومات غير مؤدلجة تقود الى الافضل. هذا الفرق ليس واضحاً أو محدداً حتى الآن في الكثير من الممارسات الإعلامية العربية, وهو ما يقلل الاستفادة الشعبية الواسعة من هذه المؤسسات الإعلامية التي تنتشر ــ كالفطر ــ في منطقتنا, ربما لأن الرسائل غير واضحة, أو لأن تدريب العاملين غير كامل, أو لأن الأهداف غير دقيقة, وربما لكل ذلك وغيره مجتمعاً. يقول لي صديق إن مؤشر الراديو في سيارته لا يفارق محطة الإذاعة البريطانية الناطقة بالعربية, التي أصبح بثها قريباً كالخبز الحار (على حد تعبيره), ذلك التصرف سؤال يحتاج تفسيره إلى كثير من التفكير, إنه الفارق بين وسائل تفرض تقليص الرقابة وبين رقابة مختفية, إلا أن الهوة نفسها تضيق.

Email