ثلاثون عامًا على السد العالي, تهديدات إسرائيلية.. وزيارة روسية.. واحتفال غائب! _ بقلم: جلال عارف

ت + ت - الحجم الطبيعي

إلى مصر جاءت رائدة الفضاء الروسية فالنتينا لتشارك شعبها الاحتفال بمرور ثلاثين عاما على بناء السد العالي. ولا شك أن الاختيار كان موفقا من جانب موسكو فهي تقدم وجها يمثل لحظة إبهار الاتحاد السوفييتي السابق للعالم بتفوقه العلمي وإنجازه التاريخي في مجال اقتحام الفضاء, ويغلف ذلك بالمسحة الرقيقة التي تتمثل في امرأة اقتحمت الفضاء ثم استكملت بعد ذلك مشوارها العلمي والسياسي فحصلت على الدكتوراه في علوم الطيران وأصبحت قيادة نسائية مهمة في بلادها. كان وجود فالنتينا في القاهرة يستعيد واحدة من أعظم لحظات الاتحاد السوفييتي السابق حين أكد نفسه كواحد من أعظم قوتين في العالم. وكان وجودها في هذه المناسبة بالذات تجسيدا لعلاقة نموذجية قامت بين القاهرة وموسكو وحققت للطرفين مكاسب كبيرة, وأقامت صداقة ندفع اليوم ثمن غيابها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي, وتغير الأوضاع في العالم العربي, وانفراد أمريكا بالهيمنة على المنطقة حتى إشعار آخر. وكان وجود فالنتينا في القاهرة يمثل أيضا صورة من سعي موسكو رغم مشاكلها الداخلية الهائلة لأن يكون لها دور في العالم تستفيد فيه من كل ما تملكه من قدرات عسكرية وإمكانيات للنهوض وذكريات تعاون سابق تأمل في استئنافه لكن ما حدث كان الانعكاس الحقيقي للواقع في العاصمتين (القاهرة وموسكو) فقد جاءت (فالنتينا) وتم استقبالها بحفاوة, واحتفت بها بعض الهيئات الشعبية, وزارت السد العالي, ولكنها لم تجد الاحتفالات التي جاءت لتشارك فيها (!!) فقد مرت الذكرى بهدوء وكأننا نبني السد العالي كل يوم, وكأن معركة بنائه لم تكن ملحمة رائعة خاضها شعب مصر وانتصر فيها. مرت الذكرى بهدوء, وتم اغفال الاحتفال بالمشروع الذي تم اختياره كأفضل مشروع هندسي تم إنجازه في القرن العشرين. وتحالفت عوامل السياسة مع قصر النظر مع غياب الوعي حتى لا يتم الاحتفال بالسد العالي الذي كان هدفا لحملات التشكيك منذ البداية, والذي قادت أمريكا الحملة لعدم بنائه ثم قادت الحملة عليه بعد إنجازه. قادت أمريكا الحملة لعدم بناء السد وسحبت عرضها للتمويل في محاولة لتركيع مصر, فكان تأميم القناة وحرب السويس وبناء السد بمعونة سوفييتية, وكان اعتراف الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون بعد ذلك بسنوات بأن سحب العرض الأمريكي لتمويل السد العالي كان أكبر خطأ ارتكبته السياسة الأمريكية تجاه مصر. واستمرت الحملة على السد العالي, وخاصة بعد رحيل عبد الناصر, وظهور خفافيش الظلام التي قادت في ظل التشجيع الرسمي حملة وقحة تحاول إظهار السد وكأنه مؤامرة لتخريب مصر وتدمير زراعتها. ثم فرضت الحقيقة نفسها حين حمى السد العالي مصر من أكثر من فيضان مدمر, ثم أنقذها من الجفاف الذي ضرب افريقيا سنوات متواصلة ونشر المجاعة وحصد أرواح الملايين. وفي ظل موجة الهجوم العاتية على السد العالي, غيروا اسم بحيرة ناصر المحيطة بالسد, ووضعوا صورة السادات فوق صورة عبدالناصر المحفورة على جسم السد, وكان التبرير أن شاه إيران سيزور المنطقة وسيؤذيه حتما أن يرى صورة الزعيم الراحل. ثم عادت الأمور إلى ما كانت عليه بعد رحيل السادات, واسترد السد العالي اعتباره رسميا وشعبيا. ومع ذلك غاب الاحتفال به كما يجب طوال السنوات الماضية وحتى اليوم, والأسباب كثيرة. فهناك البعض في السلطة وخارج السلطة, الذين يدركون الارتباط بين السد العالي وعبد الناصر ولأن هذا الجناح لا يخفي عداءه للمرحلة الناصرية, والخشية من تجددها, فإنه لا يريد احتفالا بالسد سيكون بلا شك احتفالا بعبد الناصر. وهو الأمر نفسه الذي يتكرر مع مناسبات أخرى أهمها حرب السويس وانتصار بورسعيد الذي تم الغاء الاحتفال به بعد أن كان عيدا وطنيا تتذكر فيه مصر والعالم العربي يوما مجيدا من الأيام العربية الخالدة. وهناك أيضا العلاقات مع أمريكا التي لا يسرها بالقطع الحديث عن السد العالي ودورها القذر في محاولة عرقلة بناء المشروع العملاق وهي تعلم حاجة مصر إليه وما سيوفره لها من طاقة وأرض زراعية وأمن مائي. السد العالي هو شاهد على غباء السياسة الأمريكية في تعاملها مع العرب, ورفضها المساهمة في بناء قوتهم وتطوير مجتمعاتهم تطويرا حقيقيا لتكون منتجة للحضارة لا مستهلكة لها. والسد العالي يذكر الجميع بمرحلة تتكرر الآن حيث تسعى السياسة الأمريكية إلى فرض هيمنتها على المنطقة, ومنع أي تقارب عربي, وفرض التحالفات المشبوهة.. عسكريا واقتصاديا. الاحتفال بالسد العالي يستعيد صفحة شائكة في العلاقات المصرية الأمريكية, ويجسد الهزيمة الأمريكية في هذه المعركة أمام الإرادة المصرية المصممة على تحقيق الاستقلال والتنمية ورفض التبعية والاحلاف المشبوهة والقواعد العسكرية التي ستكون خنجرا في قلب الأمة العربية. وهذا كله غير مطلوب حتى وإن كانت السياسة المصرية تعاني الأمرين في العلاقات مع أمريكا, وتواجه الاتهامات حينا, والتآمر آخر, وتتكلم مرة وتتفادى الصدام مرات عديدة. وهناك أيضا أن المسئولين اختاروا أن يبدأوا مشروع توشكي في ذكرى السد العالي في محاولة لاستعادة لحظة الحماس الوطني التي صاحبت بناء السد رغم الصعوبات. ورغم الجهد الكبير الذي يبذل في مشروع توشكي, فإن الحديث بعد رحيل حكومة الجنزوري عن أخطاء في التقديرات في مشروعات أخرى, قد ترك أثره, وفرض اعادة النظر في عدد كبير من المشروعات الكبرى التي بدأ العمل فيها في وقت واحد دون دراسة كافية, ورأى البعض أنها أحد أسباب الركود الاقتصادي والنقص الكبير في العملات الأجنبية. وهكذا.. بدلا من أن يكون الاحتفال بمرور ثلاثين عاما دفعة جديدة للعمل في توشكي.. مر الاحتفال هادئا هذا العام وسط التأكيدات على استمرار العمل في توشكي ومراجعة باقي المشروعات الكبرى.. ولاشك أن الاحتفال بالسد كان سيقدم نموذجا على العمل الذي لم يتم إلا بعد دراسة كافية استغرقت سنوات, فكان ذلك عونا على الانجاز الكبير. غاب الاحتفال بالسد العالي في ذكراه الثلاثين, ولكن الغياب لم يكن كاملا, فقد جاءت الأحداث لتضع السد مرة أخرى مركزا للاهتمام في الداخل والخارج. من ناحية.. تم الكشف عن ضياع جزء كبير من الوثائق الخاصة بالسد العالي, وهو الأمر الذي نبه الأذهان إلى ضرورة الحفاظ على الوثائق التاريخية, خاصة ونحن نواجه موجة من محاولات تزوير التاريخ, وموجة أخرى تحاول ضرب ذاكرة الوطن بإسدال الستار على كل الصفحات المجيدة في تاريخه, وتسليط الأضواء على الهزائم وحدها, وضرب الروابط التاريخية بين الشعب العربي في مختلف أقطاره لكي لا تظل في الأذهان إلا صورة الواقع المرير.. صورة وطن عربي يعاني الانقسام ويبدد قدراته ويهدر إمكانياته ويفتقر الإيمان بعروبته وبقدرته على صنع التاريخ كما فعل ذات يوم قريب. وعلى الجانب الآخر.. تبدت الوقاحة والهوس الإسرائيليين في تصريحات واحد من كبار أنصار شارون وأقطاب حكومته القادمة, حيث وجه افجيدور ليبرمان تهديدات مجنونة بضرب الفلسطينيين وحرق لبنان ومعاقبة مصر إذا تحركت قواتها في سيناء, حتى وصل بتهديداته إلى السد العالي وقدرة إسرائيل على تدميره!! الهوس الإسرائيلي قابلته مصر بحسم, وأكد الرئيس مبارك أن مصر لا تخيفها هذه التهديدات, وأن قواتها قادرة على ردع أي عدوان, وأن ما حدث في 67 لن يتكرر أبدا. ولكن التهديدات الإسرائيلية تكشف عن المناخ الذي سيسود المنطقة مع حكومة شارون والذي ينبغي أن نستعد لمواجهته والتعامل معه. من جهة أخرى تفتح التهديدات الإسرائيلية الوقحة ملف الاتفاقيات الإسرائيلية المصرية, وتثير التساؤلات عن حجم التنازلات التي قدمها السادات وحجم القيود التي فرضتها الاتفاقيات التي وقعها ومتى يعاد النظر فيها؟ وهذه التساؤلات المشروعة يجري طرحها في ظل فهم واضح للظروف التي تحكم حركة كل الأطراف في المنطقة, وفي ظل الرفض القاطع لأي ابتزاز إسرائيلي من ناحية, والإدراك بأن ما حدث في 67 لن يتكرر.. سواء باستدراج مصر للمعركة في التوقيت الملائم للعدو, أو بالسماح له بالإنتصار فيها. وفي موسكو كان هناك تحرك آخر ليس بعيدا عما نتحدث عنه, فقد زار رئيس إسرائيل موشي كتساف روسيا والتقى بالرئيس الروسي بوتين, وفي مظاهرة سياسية تعبر عن مدى التطور الذي حدث في العلاقات بين البلدين, قال الرئيس الروسي لافض فوه إن بلاده تشعر بالاشمئزاز من عمليات: الأرهاب: ضد إسرائيل! وأن تعامل إسرائيل مع: الارهابيين!! هو مثال جيد لما ينبغي أن تكون عليه السياسة في هذا المجال. بالطبع كان بوتين يقول ذلك وفي ذهنه ما يجري في الشيشان حيث يتم تصوير الأمر على أنه عدوان من (الارهابيين) المسلمين في الشيشان ضد الجيش الروسي!! وهو الأمر الذي يجمع بين موسكو وتل أبيب الآن في مواجهة نضال الشعبين الفلسطيني والشيشاني. لكن ما يستحق التأمل في الأمر هو: كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ وكيف انتقلت موسكو من موقف الدعم للعرب في وجه التحالف الإسرائيلي الأمريكي إلى موقف التعاون الوثيق مع إسرائيل؟ وما هي مسئولية العرب عن ذلك إن كانت هناك مسئولية؟ لقد انهار الاتحاد السوفييتي لأسباب عديدة, ووقفنا نتفرج ونصفق دون أن ندرك أننا سندفع جزءا من ثمن هذا الانهيار الذي أصاب الدولة التي كانت سندا سياسيا وموردا للسلاح وشريكا في تجربة تعاون اقتصادية مثمرة. انهار الاتحاد السوفييتي وانفتحت أبواب الهجرة أمام اليهود ليصل مليون منهم إلى إسرائيل, وليتحكم الباقون في السياسة والاقتصاد الروسيين, ولتتحول روسيا إلى صديق لإسرائيل خاصة بعد أن بدأت مسيرة أوسلو التي فتحت لتل أبيب والتي كانت مغلقة في وجهها في ظل إشاعة مناخ كاذب بالوصول للسلام العادل في المنطقة. ولم تكن موسكو هي العاصمة الوحيدة التي فتحت أبوابها لإسرائيل, فمعها كانت دول افريقيا, والهند والصين اللتان أسست معهما إسرائيل علاقات وصلت لمستوى عال عسكريا وسيا سيا واقتصاديا وعلى حساب العرب وقضاياهم. ولماذا لا تنفتح عواصم العالم أمام الإسرائيليين إذا كانت العواصم العربية نفسها تنفتح أمامهم, وسباق الهرولة يجري بعد أوسلو- على أوسع نطاق, والغيبوبة تصيب الجميع فيتركون الملعب خاليا للنفوذ الصهيوني ويكتفون بالفرجة على ما يجري. والنتيجة.. أن إسرائيل تعربد في المنطقة, وتخوض حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني وترفض الإنصياع لقرارات الشرعية الدولية, ودول العالم تطالب الفلسطينيين بوقف العنف, وها هو حاكم الكرملين يعلن إدانته لـ(إرهاب) الفلسطينيين ضد إسرائيل. هل نلومه فقط.. أم نلوم أنفسنا؟ وهل نرضى بما يحدث وكأنه قضاء وقدر أم نسعى لتصحيح الخطأ؟ وهل نترك العالم كله ساحة خالية لإسرائيل والصهيونية, أم نتذكر أننا حين امتلكنا القدرة على الحركة حاصرنا إسرائيل من كل الجبهات, وطاردناها في كل مكان, وحصلنا على تأييد العالم لحقوقنا؟ إن العالم يتغير, والمصالح تحكم سياسات الدول, ومصالح هذه الدول هي في التعاون مع العالم العربي إذا أحسن التحرك وأدار معاركه بعيدا عن الفهلوة السياسية, وأدرك أن وضع كل الأوراق العربية في يد واشنطن كان كارثة بكل المقاييس. نائب رئيس تحرير جريدة (أخبار اليوم) المصرية

Email