أشجار بلا جذور _ بقلم: بقلم: صلاح عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أكثر من عشرين عاما, وأنا أحلم باصدار مجلة شهرية, اخترت لها اسما, ووضعت لها تصورا متكاملا, بل وكتبته على الورق, وقدمته إلى أكثر من ناشر تحمس له, ثم هبط حماسه لسبب أو لآخر, لكن المشروع لا يزال يقيم في مكان ما من قلبي, أعود إليه بين الحين والآخر, فأحذف منه أبوابا, وأستبدل بها أخرى, أو أضيف إليه موضوعا, أو أضم إلى كوكبة الذين أنوي أن أستكتبهم فيها كاتبا. والمجلة التي أحلم بها اسمها (تواريخ 3) وهي مجلة هدفها الوحيد, هو احياء الذاكرة الوطنية العربية والمصرية التي دهمها النسيان, والتي تتهددها رياح العولمة بالاقتلاع والفقدان, والشواهد على ذلك أكثر من ان تحصى, إذ لم يعد أحد ينكر ان الأجيال العربية الطالعة, لا تعرف شيئا عن تاريخ أمتها, حتى الذي عاصرته, ولا تزال تعاصره, من أحداث. ولم يعد أحد يماري في ان ظواهر مثل عدم الانتماء والسلبية والأنانية, والتشوش الفكري تعود في جانب منها إلى ان الأجيال الطالعة هي أشجار بلا جذور ... مهددة بالفناء. ذلك خطر لا يكفي لمواجهته أن نعترف بأن حركة النشر في مصر والوطن العربي, تصدر في كل عام, مئات الكتب التاريخية, بل وهناك عدد من سلاسل الكتب الشهرية التي تتخصص في التاريخ, فضلا عما يعاد نشره وتحقيقه من المخطوطات العربية, بل ان هناك بالفعل مجلات متخصصة في التاريخ, لعل من أشهرها وأقدمها (المجلة التاريخية المصرية التي تصدر عن الجمعية المصرية للدراسات التاريخية منذ حوالي نصف قرن, و(المؤرخ العربي) التي تصدر عن اتحاد المؤرخين العرب, منذ حوالي عقدين, فضلا عن دوريات تتخصص في المخطوطات والتراث مثل (الذرة) السعودية و(المورد) العراقية, لكن هذه الكتب والمجلات جميعها يكتب موضوعاتها أكاديميون, وتصدر ــ أساسا ـ للمتخصصين, والذين يقرأونها, هم أصحاب الذاكرة القوية التي تحفظ التاريخ وتسعى للاستزادة من معرفته, لا أصحاب الذاكرة الممسوحة التي يتوجه إليها الهجوم, ليقطع ما تبقى لها من صلة بجذورها. والمجلة التي أحلم بها, تتوجه بالذات إلى هذه الأشجار التي لا جذور لها, فهي مجلة تتوجه إلى القارئ العام والقارئ الشاب, تخاطبه باسلوب الصحافة اليومية والاسبوعية, الخالي من التقعر والتحذلق والبعيد ــ كذلك ـ عن الاسفاف والاثارة المفتعلة, ومعاتبة الغرائز الفطرية, وتستخدم كل أدوات الفن الصحفي من الاسلوب الرشيق إلى الاخراج الجذاب, ومن الصورة الفوتوغرافية إلى رسم, ومن الطباعة الملونة إلى الورق الفخم, وتطوف بعالم التاريخ العربي الرحيب من العصر الحجري إلى عصر الانترنت, ومن تواريخ السياسة والاقتصاد إلى تواريخ الحرب والضرب والنكبات والنكسات, ومن تواريخ المتصوفة والفساد والرهبان والزهاد, إلى تواريخ المعابد والكنائس والمساجد وصراع المذاهب والطوائف ومن تواريخ طوابع البريد وخطوط السكة الحديد إلى تواريخ الملابس والأزياء والآثار, ومن تطور الأفكار السياسية إلى تطور التقاليد الاجتماعية, ومن تواريخ الموسيقى والغناء والمسرح والسينما والرقص ده يا اخواتي عربي أم سنباطي إلى تواريخ الجمباز والأولمبياد وأبو حباجة ومحمود الخطيب. وهي لا تسعى فقط إلى احياء الماضي, بل تسعى كذلك إلى تقييمه ونقده, واكتشاف قوانين تطوره, والأهم من ذلك كله, إلى الربط بينه وبين الحاضر الذي نعيشه والمستقبل الذي نسعى إليه, فمشكلتنا اننا ندمن النظر في اتجاه واحد, فبعض الذين يهتمون بالماضي يغرقون فيه, على نحو يقطع صلتهم بالحاضر, بل ويدعو إلى تنفير الأجيال الجديدة من هذا الماضي, فهم يعيشون في يوتوبيا رجعية تدفعهم للمطالبة بتدمير الحاضر الذي لا يجدون فيه إلا ما هو كفر وإلحاد وانحلال, وللتعلق بوهم أن يعود ثمن رطل اللحم إلى نصف قرش, ويرجع ثمن العشرين بيضة إلى قرش ونصف, وأن ينتصر العرب على إسرائيل بجيش يمتطي الخيول والجمال ويحارب بالسيوف والرماح. وبعض الذين يعيشون في الحاضر, يتصورون ان الماضي كله, كان بلا معنى, وانت ليس سوى مجموعة من الأكاذيب, وان التعلق به هو الذي أدى إلى تأخر العرب وهزيمتهم, وان علينا أن ننساه تماما, وان نبدأ من جديد, إذا أردنا أن نبقى على خريطة الألفية الثالثة. وكلا النظرتين خاطئة وظالمة, ككل النظرات أحادية الجانب, فلم يكن الماضي كله مجدا وعزة وفخارا وعدلا وحرية وشرفا والتزاما بالأخلاق الحميدة, ولم يكن في أجوادنا من الالتزام بقواعد الدين أكثر مما فينا, ولم يكن كله ظلما وتخلفا, وكما ان الحاضر ليس كله كفرا وتحللا وتدهورا في الأخلاق, فانه ليس كذلك ـ خاليا من العيوب والمثالب, فلكل زمان محاسنه وعيوبه, وأكاليل غاره وأكاليل عاره, وهناك ـ دائما ـ في كل زمان فجار أشرار, كما ان هناك اتقياء أبرار, والمهم ان تكون عبرة الماضي زادا للحاضر, وأن تكون عبرة الحاضر زادا للمستقبل! تلك رؤية قد يسهل قولها في مقال أو اثنين لكاتب أو عشرة, لكنها لا تؤثر بالقدر الكافي في الجيل الجديد, إلا عبر أوركسترا تشترك فيها كل أجهزة التنشئة الاجتماعية, من البيت إلى المدرسة ومن التلفزيون إلى الصحف, حلمت دائما بأن تكون (تواريخ) أحد آلاته التي تضبط الايقاع. لكن اصدار مجلة من هذا النوع لا تبدو عملية سهلة, فهي تتطلب أولا وجود عدد من الكتاب الذين يجمعون بين التخصص في التاريخ, بفروعه المختلفة, وبين القدرة على الكتابة الصحفية الرشيقة القادرة على الوصول إلى القارئ العام, وهؤلاء عملة نادرة, فكثيرون من المتخصصين يعجزون ــ أو يعزفون ــ عن مخاطبة قراء الصحف, على قدر عقولهم, وبالمستوى الذي يتلاءم مع كونهم غير متخصصين, وكثيرون من الصحفيين, يعجزون عن فهم ما لم يتخصصوا فيه, ومع ذلك فهم يزحمون الصحف بكتابات تاريخية مليئة بالاثارة المفتعلة وبالجهل العصامي, لو قرأها سعادة التاريخ, لحكم عليها بالاعدام على سبيل الأمن. ومرة ثانية تتطلب نفقات باهظة لاصدارها بمستوى الطباعة والاخراج والورق الذي يغري قارئها بالاقبال عليها, وبما يمكنها من الصمود في سوق المنافسة, مع صحف كثيرة, أقل جدية, وأقل جدوى, إلى أن تتمكن من جمع قرائها, والنفاذ إليهم, وتتحول إلى حاجة ثقافية لهم. وربما لهذا السبب فإن اصدار مطبوعة من هذا النوع, مغامرة لا يمكن أن يقوم بها ناشر من القطاع الخاص, ولا مفر من ان تتكفل بها مؤسسة ما, صحفية أو ثقافية أو اعلامية, من المؤسسات العامة في احدى الدول العربية, أو بتعاون مشترك بينها في اطار الجامعة العربية, إذ لابد أن من بين هذه المؤسسات الضخمة, من يستشعر خطر أن يكون الجيل العربي القادم.. أشجارا بلا جذور. أما المناسبة التي دعتني إلى تذكر ذلك, فهو انني عثرت بالمصادفة, على مجلة شهرية جديدة صدرت في اكتوبر الماضي في القاهرة باسم (مصر المحروسة) تصف نفسها بأنها (اطلالة على ذاكرة الوطن), ويبدو ان العقبات الموضوعة أمام حق اصدار الصحف, هي التي دفعتها للصدور على شكل أجزاء من كتاب, خاصة وانها لا تضم كتابا أو محررين غير صاحبها الدكتور (ماجد فرج) فهو ــ كما جاء في بياناتها ــ الذي يكتب مادتها ويصمم صفحاتها وينشرها على نفقته باعتباره صاحب مؤسسة متعددة الأنشطة تحت اسم (ماكس جروب). ومنذ سنوات أثار الدكتور ماجد فرج زوبعة كبرى عندما أصدر ألبوما مصورا, يضم صور زفاف الأميرة فوزية, شقيقة الملك فاروق إلى زوجها الأول شاه ايران الراحل محمد رضا بهلوي, نقلا عن نيجاتيف الصور الأصلية التي التقطت للحفل, الذي كان واحدا من أفخم أفراح القرن العشرين, وطبع منه عددا محدودا من النسخ, كان يبيع الواحدة منها بعدة مئات من الجنيهات, ومع ذلك فقد نفدت أو كادت, ثم شرع في انشاء ناد للارستقراطية المصرية, باسم (نادي محمد علي) احياء لاسم النادي الذي تأسس باسم (الكلوب الخديوي) ليكون ناديا خاصا لأفراد الأسرة المالكة المصرية ولاصهارها وللشرائح الارستقراطية في المجتمع, ثم تغير فيما بعد إلى اسم (نادي محمد علي) إلى أن أدركته ثورة يوليو فغيرت اسمه إلى النادي الدبلوماسي, ولا يزال قائما حتى الآن على ناصية شارعي البستان وطلعت حرب بوسط العاصمة المصرية. ومع ان الدكتور فرج تعرض أيامها لهجوم عنيف لانه يسعى فيما قيل لاعادة النظام الملكي إلى مصر ولاحياء الارستقراطية, فإنني لم أتعاطف مع الهجوم الذي تعرض له, وبدا لي أمرا مضحكا لان أحدا لم يعد يستطيع اعادة النظام الملكي إلى مصر, ولان الارستقراطية المصرية ليست في حاجة إلى من يعيد احياءها, لانها والحمد لله, في كامل الصحة والعافية, بل لعلها لم تختف في أي وقت من الأوقات,, حتى في عز سنوات الثورة, والمسائل دائما نسبية, ولم أتعاطف ـ كذلك ــ مع الثمن المرتفع الذي حدده الدكتور ماجد لكتابه, لانه حال بين أمثالي ممن يشغفون بالوثائق التاريخية, وهي جزء من ذاكرة الوطن البصرية, وبين الحصول عليه, بينما أتاحه بالطبع لارستقراطيي هذا الزمان الذين يشغفون بجمع كل ما هو مرتفع الثمن بصرف النظر عن قيمته, أو عن ادراكهم لقيمته! المهم ان (مصر المحروسة) بالفعل مطبوع مميز وجديد, طبع على ورق فاخر وفي طباعة متقنة وانيقة الى حد البذخ, وكل عدد يحتوي على ثلاثة او اربعة موضوعات باللغتين العربية والانجليزية, نجد في احداها عرضا لتطور اوراق النقد المصرية منذ صدور اول عملة ورقية مصرية عام 1898 عن البنك الاهلي المصري, وحتى نقل عملية اصدار النقد الى البنك المركزي المصري عام 1960, واخرى عن الاوسمة والانواط التي كان معمولا بها في مصر الملكية, وثالثة عن عمارة الجامع الازهر, ثم احداث عام 1924 المصرية مصورة, ورابعة تقدم صفحات نشرة الدعاية لفيلم الغريب الذي انتجه وقام ببطولته يحيى شاهين, مع ماجدة عام 1956, وهو مقتبس عن رواية (اميلي برونتي) الشهيرة (مرتفعات وذرنح), فضلا عن صور لاعلانات عن السلع بعضها لايزال يتداول, والاخر اختفى ومن بينها انواع السجائر المصرية في الاربعينيات والخمسينيات. من ناحية الشكل, تبدو مصر المحروسة, اقرب الى حلم تواريخ ,3 اما من ناحية الموضوع فهي اقرب ما تكون الى ألبوم يتوجه بالدرجة الاولى إلى هؤلاء الذين ينظرون الى التاريخ من زاوية الندرة, ويهتمون بجمع مفردات تنتمي اليه على سبيل التميز عن غيرهم بأنهم يملكون هذا النادر, وحتى في هذا الاطار فلا شك انها تسد حاجة لفريق معين من القراء, ثم انها ـ وهذا هو المهم ـ تستند الى مجموعة من المقتنيات الخاصة, لا اعرف كيف توصل اليها الدكتور فرج, ولكن باعادة نشرها, يحفظها من الضياع, ويشرك الاخرين بالتمتع بما لديه من مقتنيات ملوكية. صحيح انه لايزال حريصا على المزاج الارستقراطي الذي يميز مشاريعه, ولكن نظرة واحدة تقارن بين ارستقراطية زمان, وارستقراطية هذا الزمان, من حيث الاهتمام بالفن والثقافة, والقضايا العامة والنشاط الاجتماعي والانساني وحتى من حيث السلوك العام, ربما تغفر له ما اعتبره البعض ـ قبل سنوات ـ جناية كبرى! ولا اعرف ما اذا كانت (مصر المحروسة) سوف تصمد في سوق القراءة, بحكم انها تتوجه لقارئ خاص يملك القدرة على شرائها بالثمن المرتفع نسبيا الذي تباع به, ام انها سوف تلقى ما لقيته محاولات سابقة لاصدار مجلة تاريخية تستخدم اساليب العرض الصحفي, اما المؤكد فهو ان حاجتنا الى مجلة من هذا النوع, تتجاوز مجرد كونها (ألبوم) لتصبح اداء لاحياء الذاكرة الوطنية, حتى يكون الحاضر فصلا من الماضي وتجاوزا له, ويكون المستقبل فصلا من الحاضر وتخطيا له! وبهذه المناسبة, فقد لاحظت ان المؤرخين العرب, بدأوا يتجهون خلال السنوات الاخيرة الى محاولة انصاف بعض حقب التاريخ العربي التي تعرضت لهجوم كاسح, خلال العهد الثوري العربي, الذي يمكن تحديده بين بداية الخمسينيات ونهاية السبعينيات, عددا من الاحكام التاريخية القاطعة بادانة شخصيات بعينها وحقب بكاملها, التي صدرت خلال هذا العهد بدأت تتعرض لمراجعة, صريحة احيانا, وحيية في احيان اخرى. والحقيقة ان ما اطلقته الحقب الثورية من احكام تاريخية بالادانة المطلقة, بحق الحقب السابقة عليها, كان بالغ القسوة, وانطوى على كثير من الظلم, ولم يتورع الا نادرا عن الطعن في وطنية زعماء الحركات القومية العربية في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الاولى واتهام بعضهم بالتواطؤ مع الاستعمار واحيانا بالتجسس له. غير انه مما يخفف من اثار مثل هذه الاحكام, ان نعلم انها لم تكن قاصرة على عهد دون اخر, فقد اصبح شائعا في التاريخ العربي, ان يشكك الخلف الصالح في وطنية السلف الطالح, الى ان يتحول هو نفسه الى سلف, فينقلب ـ بين عشية وضحاها ـ من صالح الى طالح, وان يستخدم العهد الجديد كل اسلحة التشهير الوطني والاخلاقي والمالي مع العهد المباد, الى ان يباد هو الاخر فيذوق من الكأس نفسها. تلك احكام سياسية تتولد عن الصراع السياسي بين سلطة جديدة, تسعى للحيلولة بين الجماهير وبين التعاطف مع السلطة القومية التي تعودت على اخطائها, فتستحل لنفسها استخدام كل الاسلحة المشروعة وغير المشروعة لهذا الغرض, حتى تزوير التاريخ. في عام 1972, وبعد 30 سنة, اباحت الحكومة البريطانية الاطلاع على الوثائق السرية لوزارة الخارجية البريطانية, التي تتعلق بالعام 1942, وكان من بينها الوثائق الخاصة حادث 4 فبراير 1942 الشهير في مصر, حيث حاصرت دبابات الجيش البريطاني قصر عابدين وقدمت للملك فاروق انذارا بالتنازل عن العرش, او استدعاء مصطفى النحاس باشا, رئيس حزب الوفد لتشكيل الوزارة قبل الساعة السادسة من مساء اليوم نفسه, فهو الذي وقع معاهدة 1936 مع بريطانيا, وهو الذي يستطيع تنفيذها بنزاهة, ثم انه زعيم حزب الاغلبية الشعبية, ووجوده في الحكم يضمن الا ينقض الشعب المصري على بريطانيا فيطعنها في ظهرها, في الوقت الذي كانت فيه القوات الالمانية قد اقتحمت حدود مصر بالفعل, واصبح على الجيش البريطاني ان يشتبك معها في صراع حياة او موت! وبعد مشاورات ومناورات, قبل الملك الانذار, وكلف مصطفى النحاس بتشكيل الحكومة! وكان هذا الحادث, هو السبب في قيام ثورة 23 يوليو او على الاقل اهم اسباب قيامها, فقد اعتبر الضباط الشبان, ومنهم جمال عبدالناصر ورفاقه, مصطفى النحاس خائنا, لأنه قبل الحكم على أسنة الحراب البريطانية, وانفضوا من حول الوفد, وفقدوا الثقة في التطور الديمقراطي كوسيلة لتحرير مصر, وانحازوا بعواطفهم للملك فاروق لبعض الوقت, ومع انهم انفضوا من حوله بعد ذلك, الا انهم ظلوا يعتقدون ان النحاس قد خان الوطن, وان الاحزاب لا هم لها الا الوصول الى الحكم, وان الحكم الصالح هو الذي يقوم على نظام لا حزبي, اذ هو وحده الذي يمكن ان يحقق استقلال الوطن وتقدمه! وعندما نشرت الوثائق البريطانية عام 1942, تبين ان (مصطفى النحاس) لم يكن يعلم شيئا عما يدبره البريطانيون, وان احدا منهم لم يتصل به او يتفق معه, او يخطره بما سوف يقومون به, انهم بنوا خطتهم كلها على تأكيدات تلقوها من امين عثمان باشا, الذي كان صديقا لهم, وصديقا لحزب الوفد, بأنه سوف يقبل تشكيل الوزارة, وتبين ان صاحب فكرة توجيه الانذار للملك هو حسين سري باشا زوج خالة الملكة فريدة, بل ان وزارة الخارجية البريطانية لاحظت بعد ساعات من توجيه الانذار, ان احدا لم يتصل بالنحاس او يتفق معه, او يشترط عليه, وابدت قلقها من المصاعب التي سوف تتعرض لها بريطانيا, نتيجة لذلك ومن بينها ان النحاس, قد يرفض رئاسة الوزارة, وهو ما فعله اثناء المشاورات التي اجراها الملك مع رؤساء الاحزاب بشأن الانذار, قائلا انه لا يقبل ان يرأس الوزارة في ظل هذا الانذار, لولا ان الملك امره بتشكيلها صونا لاستقلال البلاد! وحين عرف كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952, بما كشفت عنه الوثائق البريطانية, قال بأسى للاستاذ احمد حمروش الذي كان يعد آنذاك كتابه الشهير عن تاريخ ثورة يوليو: ان معرفة هذه الحقيقة بعد 30 سنة تحولها الى مجرد سطر في كتاب, ولكن معرفتها في حينها كانت كفيلة بأن تغير كثيرا من الاشياء! ومع ذلك فإن معرفة التاريخ, ولو متأخرا, افضل بكثير من الجهل المتفشي به, لأن خطر هذا الجهل, يتجاوز ظلم فرد, الى ظلم امه, يتهددها خطر ان يحكمها غدا, جيل يبدو كأشجار.. بلا جذور!

Email