تأملات من واقع البناء الهرمي للسياسة العربية ، بقلم: عادل المنصور

ت + ت - الحجم الطبيعي

ربما تكون الانتفاضة قد استطاعت ان تسلط الكثير من الاضواء نحو الاشكالية الحادثة في واقع الهرم السياسي العربي من الداخل بما يعنيه من طبيعة ترتيب العلاقة المتبادلة بين الطبقات السياسية في اطار القطر العربي الواحد او على صعيد العلاقات السياسية بين اكثر من هرم سياسي عربي. ومع الدعوات والتطلعات نحو عقد قمة عربية تعيد ضبط الميزانية المفقودة بين توجهات الشعوب العربية وآمالها وبين القواعد المحيطة بالقرار السياسي العربي او المؤثرة عليه من ناحية اخرى, فإن انقلابا اعلاميا اعلانيا حدث مؤخرا ليشن عن الخط الرسمي, مؤشراته هي المسيرات الشعبية الساخطة داخل الاقليم العربي وخارجه والمعبرة عن رفض سياسة العنف الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني البريء والمنادية بضرورة التعاطي الرسمي مع الاحداث بصورة واقعية وأكثر جدية وصدقا, رافضة خطط التغريب والامركة التي يحاول الكثير من الاجهزة الاعلامية العربية غرسها وصولا الى سلوك سياسي يتعاطى مع واقع التجاور الجغرافي مع العدو على انه امر طبيعي وواقعي ويتماشى مع واقع الارث التاريخي العربي ونتائج حروب اقليمية اعقبت ولادة جار ثقيل تميل كفة الميزان العسكري نحوه كما ونوعا, وكل هذه المحاولات الاعلامية لترويج العملية السلمية غير الرائجة على مستوى القبول الشعبي القت بظلالها في اللحظة التاريخية العاصفة التي اثبت خلالها الشارع انه يستطيع الوقوف في اللحظة المناسبة. أزمة ثقة الحقيقة ان اكثر من قمة سياسية لقطر عربي تحدث مؤخرا عبر القنوات الاعلامية المبعوثة على الاثير ليشير بأن قرار الحرب هو قرار مفروغ من حقيقة فشله في ظل انتهاج استراتيجية السلام العربية مع العدو الصهيوني, ون انتهاج اسلوب المباحثات السلمية وتنسيق المواقف وازالة الفجوات هو الامر الاكثر حكمة وعقلانية من خوض حروب نظامية مباشرة يطالب بها الشارع العربي الذي يسير وفق منهج (العنترة) فحرب مثل هذه قد تعيد تغيير الخارطة العربية بالكامل نتيجة عدم محدودية مثل هذه الحرب سعة ونتائجا, الامر الذي دفع الى تنامي الاصوات الشعبية المنادية بضرورة عقد قمة عربية تلتقي فيها القمم العربية لاتخاذ عقوبات رادعة تمتلك اسلحة فاعلة طرحها الشارع العربي مثل وقف عملية التطبيع وطرد السفراء الصهاينة وأن امتد الامر الى الامريكان, وفتح الحدود وارسال الجيوش المتطوعة والمقاطعة الاقتصادية وتحويل الاستثمارات العربية واستخدام الجيوش وغيرها من حلول عسكرية ونفطية رأى فيها الكثير من القادة مبالغة, وذلك باستحالة العودة بعقارب الساعة الى ما قبل كامب ديفيد والتحرر من قيود اوسلو ومدريد وشرم الشيخ التي وضعها العرب في ايديهم وبإرادتهم الحرة. ولذا اندفع الشارع الى التطلع الى مؤسسة بديلة تعي دور الشارع العربي وتتفاعل معه في خندق واحد فكانت الصرخات تتوالى وتتطلع الاعين نحو المؤسسة الدينية الاكثر التصاقا بحياة الشارع العربي, في دفع هذا التصادم بين الألم والامل لدى البعض الى الحقد النفسي على واقع عربي مرير يشعر الفرد بأن الانتساب اليه امر مخز للغاية, ولذا فإن الثورة والجهاد هما البديل الافعل لمواجهة مرحلة تاريخية ميئوس منها في عمر الزمن العربي كهذه. ان تفاقم الاعتداءات الاسرائيلية واستخدام العنف غير المبرر وغياب الارادة الشعبية في قراري السلم والحرب العربيين وغيرها, هي عوامل ادت الى ازمة ثقة بين الشعوب العربية وقياداتها نتيجة عجز الاخيرة عن تحقيق الحد الادنى من آمال الجماهير المليونية الغاضبة التي نزلت للشارع لتعرب عن انفجار تلقائي وعفوي لمخزون من الكبت فشلت كافة مختبرات الرصد الرسمي والغربي من التنبؤ به نتيجة تبني الاعلام العربي الرسمي لسياسة التغريب والتغييب المصدرة لوهم السلام, وهو ما ادى بالنتيجة الى قيام بعض الدول العربية بقطع جزئي للعلاقات التجارية مع العدو الصهيوني او بتسهيل مرور المسيرات وفتح الاجهزة الاعلامية بحرية تنفيسا للشارع لكي يعبر عن رأيه, إذ ان الوقوف امام ارادة الشارع ومقاومة هذه المشاعر قد تعود بإفرازات سياسية داخلية كبرى ما زال الكثير من الانظمة العربية في غنى عنها في مثل هذا المحيط الهادر من المتغيرات في السياسة الدولية. لقد أوضحت الانتفاضة الحالية فشل هندسة السياسة العربية القائمة على علاقات رسمية تحتكرها القمم السياسية العربية في اتجاهي الحب والبغض الشخصيين وتأثير ذلك على الشعوب العربية خصوصا في ظل غياب المشاركة الشعبية في بنية القرار الرسمي, علما بأن الامة التي نزلت الى الشوارع لتطوف فيها اثبتت بما لا يدع مجالا للشك فشل سياسة القمم (الالتقاء العربي على مستوى القمم) وطرحت مشروعا استراتيجيا آخر او بديلا تلعب فيه القمم الوسطى او قمم القواعد الشعبية دورا كبيرا في الالتحام العربي وتحقيق حالة الألفة والتجانس بل والانصهار في موقف عربي واحد قوامه المرونة والسرعة في الحركة والقوة في التأثير والفاعلية في النتائج, بدلا من لقاءات قمم (نظرية القمة) مفرغة من المحتوى والنتائج ومع ضعفها فهي تحتاج الى جهود دبلوماسية قد تطول لأشهر لتنظيمها وعقدها في وقت تسحق فيه الآلة العسكرية ارواح عشرات الابرياء كل يوم في فلسطين الطاهرة. سد الفجوة ان البناء الهندسي العربي القائم على علاقات قمم يمثلها رؤساء الدول فقط هو بناء هش وضعيف يحمل في طياته امكانية الانكسار واحتمالات التنافر على مستوى القيادات, كما يحمل في طياته امكانيات الاختراق الصهيوني لوجود هوة كبيرة تفصل كل قمة وأخرى بالاضافة الى سلبية هذا الشكل في استيعاب طاقة الشارع العربي وتوظيفها لتحقيق مكاسب واسعة في العملية التفاوضية مع الغرب. ورغم ارادة الشارع العربي استطاعت بين عشية وضحاها ان تسد جميع الثغرات التي تخلقها (نظرية القمة) من خلال تحركها المدروس والعقلاني (بعيدا عن تشكيكات البعض ممن يصفها بالعنترية). ورغم اثباتها لقدرتها على الحركة بالسرعة والمرونة اللازمة لسد نقاط الاختراق الواسعة ومحاصرة المد الصهيوني والاعلامي الغربي, الا ان الحواجز السياسية المصطنعة وظلال نظرية القممية ما زالت مانعة لأي التقاء على مستوى القاعدة, حيث يظهر البناء الهرمي للسياسة العربية بعض الملاحظات التي يمكن تلخيصها على النحو التالي: 1ــ يلاحظ ان منطقة الاختراق الصهيوني تزيد على مستوى القمم عند الاخذ بالبناء القممي بينما تضيق فرص الاختراق كلما انحدرنا اسفل القاعدة الى ان تختفي كليا على مستوى اسفل قاعدة الهرم. 2ــ يلاحظ صعوبة التقاء القمم لسعة منطقة الفراغ مما يسهل من عملية المناورة الصهيونية بالأعلى, بالاضافة الى حواجز الجغرافيا والاتصال وغيرها من عوامل مهمة تصعب من عملية اللقاء عند الازمات. 3ــ الوضع الذي افرزته الانتفاضة الحالية انها اثبتت قدرتها على ملء الفراغ السياسي وتقريب الفجوات والمساهمة في تكامل البناء السياسي العربي. 4ــ ان استمرار البناء الهندسي للسياسة العربية في مرحلة ما بعد الانتفاضة بالشكل الهرمي يوحي بامكانية تغلغل العدو الصهيوني والضغط باتجاه الاسفل وعلى الجانبين حتى تبتعد الاقطار العربية عن بعضها. 5ــ ويلاحظ ان الصهيونية تجهد لكي تملأ الفراغ على المستوى الاعلى حيث المنطقة الواسعة وذلك بعقد اتفاقيات سياسية وعلى مستوى الوسيط الخاص بالتنظيمات والاحزاب فمن خلال اختراق طبقة المثقفين والفنانين, أما على مستوى القاعدة فتكمن خطورة الاختراق في ترويج السلع والتبادل التجاري وتسويق المنتجات الصهيونية. 6ــ الحل الاستراتيجي العربي هو في امكانية بناء منظومة عربية تنهض بمهمة سد الفراغ الذي ولدته نظرية القمة الى ان يتم البحث عن صيغة هندسية بديلة للبناء السياسي القائم, وأهم السياسات الممكنة حاليا هي مد جسور التواصل على مستوى القمم بخلق جامعة عربية بدماء جديدة تجمع القمم في نسيج سياسي وأمني واحد واعلامي وهو الاهم, أما على المستوى الوسيط فيمكن عن طريق تشجيع لقاءات المنظمات والهيئات والبرلمانية والنقابات والمؤسسات الشعبية العربية وتفعيل دور المؤسسة الواحدة التي تجمع التنظيمات العربية المتشابهة, وعلى صعيد القاعدة فلا نحتاج الى جهود كبيرة لأن القاعدة اثبتت انها قمة في كل شيء وأن الدين والتاريخ والجغرافيا واللغة كلها ادوات ساعدت على انصهار الامة في بوتقة واحدة سوف يدعمها التبادل التجاري ويزيدها تماسكا يوما بعد يوم. ان السؤال الذي يطرح دائما هو لماذا يعجز ثلاث مئة مليون عربي عن ازاحة خمسة ملايين يهودي عن ارض فلسطين؟ الاجابة عن هذا السؤال بالاضافة الى ما سبق هو ان العلاقات بين شرائح الهرم السياسي العربي تقوم على مبدأ عدم التكامل الذي يتحول في الكثير من الاحيان الى شبه حالة صراع او حالة من الحرب الباردة بين النخبة والقمة دائما وبين القاعدة والقمة في الكثير من الاحيان, في حين ان العلاقات نفسها على الصعيد الغربي تقوم على قواعد مؤسسية تشكل فيها القمة السياسية (الحاكم) جزءا يسيرا من بقية القرار الرسمي. فرأس الدولة الغربية واجهة سياسية شرفية او موظف يعمل وسط محيط واسع من مؤسسات دستورية وشعبية تعبر عن الرأي العام وشئون المجتمع وتساهم بشكل مباشر في رصد آلام الشارع وآماله وتوظيفه في توجيه سياسة الدولة وتقنين اتصال القاعدة بالقمة. ولقد أثبتت الانتفاضة كما قلنا ان هندسة السياسة العربية الظاهرية انقلبت فجأة في وجه الاعلام والقرار الغربيين رأسا على عقب حينما كانت الشعوب العربية عند مستوى الحدث والمسئولية وفوق الاطماع الصهيونية التي تظن بأن الشارع العربي قد سقط صريعا من جراء الجرعات التخديرية المنظمة التي افرزها الاعلام العربي المرتبط بالألة الغربية المروجة لمشروع السلام غير العادل او التي يروجها الاعلام العربي ذاته عن قبول مصطنع لدى الشارع العربي لفكرة التسوية السلمية, وهو ما يؤكد ارتفاع قيمة الشارع العربي وتنامي درجة وعيه السياسي في تعامله مع الازمات السياسية الطارئة, حيث تلاقت الشعوب العربية التي تعاملت مع الانتفاضة فكانت قمة في تحركاتها ومسئولياتها القومية (نظرية القمة مقلوبة حيث ان القاعدة اصبحت قمة). وفي اطار هذا التحول يمكن ملاحظة ما يلي: 1ــ تحول الحدود السياسية كثيرا والسياسات امام الاحلام العربية في تحقيق اوبريت الحلم العربي الوحدوي. 2ــ هناك فجوة متعمدة تحول دون لقاء النخب المثقفة على مستويات حزبية وبرلمانية عربية مما يؤدي بالنتيجة الى قطيعة تمثل فجوة واسعة على مستوى القمم في بناء المؤسسة العربية. 3ــ كذلك هناك نسبة مساهمة من جانب كل شريحة في الهرم السياسي في التعبير وحجم التفاعل مع الانتفاضة الفلسطينية. جسور التواصل ان الخطأ التكتيكي في هندسة بنية المؤسسة العربية الرسمية هو فشل او تقصير القمم في دراسة واقعها السياسي واستثماره بالشكل الملائم, فالكثير من القمم لا تؤمن بدرجة نضج شارعها السياسي ويقودها ذلك الى التعامل معه بعلاقة فوقية معادية حيث تظن انها تمتلك الوصاية عليه وان اي محاولة لتقنين الشارع وتنظيمه للمساهمة في دعم بنية مؤسسة القرار تقوم بها اية جهة من الشعب هي محاولة موجهة ضد النظام الهرمي. من ناحية اخرى ما زالت القمم العربية الاخرى غير مؤمنة بقدرة الشارع على المساهمة بحيوية في هيكلة السلطة وتشك ان كان من شأن القاعدة الشعبية المؤسسة ان تكون سندا شعبيا في اوقات الازمات وبديلا حقيقيا عن اية تحالفات مع قوات اقليمية او دولية وهو ما عبر عنه علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية اليمنية في لقائه مع قناة الجزيرة مؤخرا عندما عبر عن نقطة خطيرة في الفكر السياسي العربي عندما صرح بأن الكثير من الانظمة العربية تبني جيوشها لممارسة نشاطين فقط هما الاستعراض العسكري في المناسبات وممارسة القمع السياسي في حق شعوبها وهنا بيت القصيد واضيف على ذلك والرأي للكاتب مهمة اخرى في خلق ازمات جانبية في غياب صارخ لاستراتيجية امنية عربية ناظرة الى التأسيس على منهج التكامل الداخلي بين القاعدة والقمة ومن ثم الاندماج في منظومة تكامل عربي وان اتخذت شكلا هرميا فهو شكل صوري فقط للتفريق بين شرائح ثلاث في منتصفها الفئة الاعمق وهي المعنية بتوصيل ارادة الشارع السياسي الى الاعلى وتنظيم ايصال القرار الرسمي باتجاه معاكس. نقطة استراتيجية يجدر الانتباه لها في هندسة بناء السياسة العربية هي ان فكر الاندماج والتكامل (التوأمة) بين النخبة المثقفة والسلطة من ناحية وبين القاعدة والقمة من ناحية اخرى هو امتحان فشل معظم العرب فيه مما ادى الى مأساة اليوم والى تراجع سياسي عربي محتمل بشكل اكبر مستقبلا, فبناء المؤسسة الشعبية الفاعلة الهادفة الى عقلنة صوت الشارع وابراز دوره في جوهر القرار الرسمي او احتضان المؤسسات الدستورية والشعبية القائمة هو فارق رئيسي بين نظرية (القمة العربية) وبين دولة المؤسسات الغربية, وربما يكون لوصول قمم سياسية الى منطقة النفوذ في البناء القممي دون سند شعبي او دستوري وعدم اهتمامها بإقامة جسور مؤسسية مع القاعدة بحكم النظرة العوراء لمفهوم مصلحة الامة قد دفع الى بناء منظومات اعلامية وأمنية هادفة الى تخويف القمة من القاعدة و,تكثيف الحواجز المانعة من تواصل فئات الهرم السياسي وشرائحه مما ادى الى قطيعة متواصلة او طلاق سياسي بحيث اصبحت هذه الاجهزة تتصرف بإرادتها الذاتية في خلق اجواء من عدم الثقة لمواجهة جهود تقريبية تبنيها احيانا القاعدة وأحيانا القمة وأحيانا الطرفان معا للالتقاء ولكن دون جدوى. ان هندسة البناء السياسي العربي وان اتخذت شكلا هندسيا فإنها يجب ألا تغفل اقامة جسور من التواصل الشعبي وبناء مؤسسات الرأي العام وأن تؤمن بضرورة التكامل الشعبي والبرلماني ومن ثم السياسي العربي, لأن هذه الفجوات هي البؤر التي تنفذ منها الصهيونية الى الواقع العربي (أشار احدهم وقد سئل عن مقدار قوة الكيان الصهيوني بأنه يساوي تماما كمية ونوعية الفجوات فيما بين الدول العربية على الصعيد القطري والقومي), وبذا فإن اقامة علاقة بينية وسطية بين المؤسسات الشعبية العربية وعلى المستوى القاعدي من شأنها ان تسد الثغرات وتساعد على اتخاذ مواقف جماعية وتوحد ادوات التواصل والتكامل والتحرك بفاعلية ومرونة في أسوأ الظروف, بحيث لا تستطيع مختلف العواصف السياسية الا ان تزيد الوحدة العربية قوة ورسوخا الى الابد, وفي بناء هندسي عربي تتكامل فيه الادوار بين القاعدة والقمة وصولا الى دولة عربية واحدة تمثل قمة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى, وإلا فإن البديل سيكون بناء هشا معرضا للاختراق.. حتى لا نقول الانهيار. كاتب من الامارات

Email