أصوات أمريكية عاقلة ، بقلم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

(عقلية الحصار تتفاقم وعقدة الماسادا تتسع في اسرائيل كلما اتسع نطاق الانتفاضة الشعبية الفلسطينية) عقدة الماسادا, او عقلية الماسادا ترمز في حوليات التاريخ اليهودي الى عقلية الحصار او الى الانتحار، الجماعي نسبة الى المعركة التي دارت ــ على ما يحكون في ذلك التاريخ ــ سنة 70 للميلاد بين جنود الرومان وبين المدافعين اليهود عن حصن او قلعة الماسادا جنوب شرقي فلسطين وقد عانت القلعة المذكورة الحصار على امتداد عامين وبعدها اتخذ ساكنوها قرارهم بالانتحار الجماعي. عقلية الحصار هذه يقف عندها اليوم المحللون السياسيون الذين يرصدون مجريات الامور الراهنة على الجانب الاسرائيلي ــ الصهيوني من المواجهة الدموية اليومية التي يخوضها الشعب العربي الفلسطيني ضد قوى وقوات الاحتلال الصهيوني. والمحللون السياسيون استدعوا الى الذاكرة عقدة الماسادا هذه عندما رفعت بعض اركان الحكم داخل اسرائيل شعار (الفصل) بين الجماعتين الاسرائيليين والفلسطينيين داخل الارض المحتلة ثم بين اسرائيل ــ 1948 والمناطق التي جرى احتلالها بعد عام 1967 في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة. حصار الفلسطينيين وعندنا انه اذا كان الاسرائيليون يعيشون عقلية الحصار في الوقت الراهن تحت وطأة هاجس الامن وهي عقلية, تهدد بأن تفضي الى سلوك مدمر حافل بأنماط الرعونة والاستفزاز التي لا تراعي قيمة معنوية ولا اعرافا دولية ولا قوانين او ممارسات استقر عليها المجتمع البشري, فان الاحتلال الاسرائيلي نفسه ظل يتصرف بهذا المنطق الحصاري ان جاز التوصيف, ولكن بالنسبة للجانب الآخر بمعنى ان المطلوب محاصرتهم كانوا الفلسطينيين وهو امر خططت له المنظومة الاستعمارية الصهيونية وخاصة في السنوات الاخيرة وربما من باب التحسب ــ الشرير اصلا ــ لاي تسوية قد تفضي في رأيهم الى اقامة دولة فلسطينية يريدها عرب فلسطين كيانا دوليا مستقلا مكتمل السيادة ويريدها الاسرائيليون مسخا شائها ووليدا مبتسرا منقوص السيادة وموصول العرى علي اساس الذيلية والتابعية مع الحياة الاقتصادية في اسرائيل. ولقد تجلى هذا المخطط الصهيوني فيما تم شقه وتعبيده تحت اسم (الطرق الالتفافية) التي كانت في ظاهرها المعلن سيلا للوصول الى المستوطنات اليهودية, التي عمدوا الى تركها من باب التكتكة والتعللة في رقعة الضفة والقطاع ولكنها كانت في جوهرها بمثابة آذرع تنين خبيث شرير تلتف وتلتف من حول الكيان الفلسطيني المرتقب كي تقيد حركته بل وقد تشلها عند اللزوم فيما تيسر حركة القوات الاسرائيلية المدججة بالدروع الراكبة التي يصار الى حشدها وتحريكها عند اللزوم ايضا. اغلاق المناطق والمطار نفس عقلية الحصار التي مورست ضد الجانب الفلسطيني هي التي املت المصطلح المتكرر باستمرار وخاصة في مجال الرد الصهيوني الانتقامي على انتفاضة الشعب الفلسطيني ــ مصطلح (اغلاق المناطق) بمعنى الحيلولة دون عبور الايدي العاملة الفلسطينية الى حيث فرص العمل الوحيدة والمقيتة ايضا في مواقع النشاط الاقتصادي في اسرائيل.. وقد انسحب مصطلح (الاغلاق) بدوره ليصدق مؤخرا بين ساعة واخرى على مطار غزة الذي لم يجف طلاؤه بعد والذي يتم فتحه لحركة الطيران واغلاقه في وجه حركة الطيران طبقا للاهواء السياسية والعسكرية لقادة العدو الصهيوني, دع عنك ان سلوكيات الحصار كانت تفرض اصلا تفتيشات ويشترك فيها العسكر الصهاينة للطائرات الوافدة الى المطار الفلسطيني وهو ما رفضه طيار عربي مصري تحركت في عروقه دماء كرامة عربية.. فاصبح بطلا في اعين جماهير غفيرة في مصر والوطن العربي ــ في امة ما اشد شوقها الى مكارم البطولات ومروءات التصدي وصون الكرامة.. وان كان الطيار مازال محالا من جانب شركته الى مجلس تأديب للاسف الممض الشديد! عقلية الحصار وملاحم الانتفاضة ونحسب ان عقلية الحصار تتفاقم, وان عقدة الماسادا تتسع وتزداد في اسرائيل كلما اتسع نطاق الانتفاضة الشعبية الفلسطينية وهو يتسع فعلا, وكلما تنوعت اساليبها وهي تتنوع فعلا ــ لدرجة ان تصل ــ كما لاحظت مجلة الايكونومست البريطانية مؤخرا, الى حيث اصبحت تمردا شعبيا ضد الاحتلال). وكم راهن الاسرائيلون والامريكيون حتى لا نضيف اليهم دوائر عربية ودولية اخرى ــ على ان تضع الانتفاضة الفلسطينية اوزارها وهي بالمناسبة بريئة من الاوزار التي تصاحب عادة اي حرب يندلع لهيبها ويسقط ضحاياها ـ فالانتفاضة مثل اي حركة تحرير وطنية ضد الغاصب المحتل تصدر عن الرغبة في الحرية وهدف تحقيق الاستقلال السياسي واقرار السيادة الكاملة على رقعة التراب الوطني لا لمجرد الاستمتاع بالحرية او السيادة او الاستقلال.. ولكن بوصف هذا كله هو الطريق الصحيح للتنمية وتحقيق آمال الناس وقد طالبت معاناتهم في حياة افضل.. ومن هناك فليس للانتفاضة ضحايا يسقطون بل هم شهداء يجودون بأنبل وأثمن ما يجود به البشر. كم راهن الفرقاء على عمر الانتفاضة ورفعوا ومازالوا يرفعون (انهاء العنف) وهو شعار مضلل فالاحتلال بحد ذاته حالة من العنف الصارخ, فما بالك اذا ما وجد هذا الاحتلال المغتصب آلة حربية متقدمة كي تحميه وتكرسه وتحاول تجذيره في وطن الآخرين, وكم رفع الفرقاء ايضا شعار (حقن الدماء) وتلك بدورها كلمة حق يراد بها باطل.. وهي كلمات يرددها للاسف, عن غير وعي فيما نرجو ــ بعض منظومات الميديا العربية منساقة من خلف الميديا الدولية ــ الامريكية بالذات وهي لا تعلم انها تساوي في ذلك بين الجاني والضحية وبين ديانة المستعمر المحتل, والحجر البسيط او حتى الطلقة البدائية, او شبه البدائية من يد مناضل فاض به الكيل بعد 33 سنة من عسف الاحتلال. ومن عجب ان مازالت اطراف عربية, حتى في هذه اللحظات الاخيرة من ولاية بيل كلينتون الرئاسية في امريكا, تضع آمالها او بعض آمالها على الرئيس الامريكي الذي لم يعد يشغله في حقيقة الامر سوى حزم حقائبه والتوقيع على السير الشخصية (سي.في) للرهط من معاونيه وهيئة موظفيه الذين لم يعد يشغلهم بدورهم سوى التفتيش على وظائف جديدة في الجامعات او مراكز البحوث او شركات القطاع الخاص.. ناهيك عن اهتمام الرئيس كلينتون شأن كل رئيس انتهت ولايته بترتيب شئون معاشه التقاعدي وهيئة السكرتارية, ومفرزة الامن التي ستصاحبه في حياته الجديدة التي يسودها تعبير (سابقا) ثم شئون المكتبة التذكارية التي ستحمل اسمه دع عنك ما اصبح يعرف في ادبيات السياسة الامريكية باسم (الميراث الرئاسي) او (التركة الرئاسية). المستشار.. والسمسار وبمناسبة التركة المذكورة فقد عمد ساندي بيرجر مستشار كلينتون لشئون الامن القومي ــ وهو بالمناسبة يهودي شأن جمهرة من مستشاري ومساعدي كلينتون ــ عمد الى تلخيص هذه التركة التي تخلفت عن عهد رئيسه فأشاد طبعا بافضال ومآثر ساكن البيت الابيض الذي اوصل امريكا في رأيه الى وضع لخصه المستشار الامني القومي في عبارة قال فيها: لقد اصبح العالم يعول علينا لكي نكون العامل المساعد (كاتاليست) في بناء التحالفات والائتلافات ولكي نكون سمسار السلام والعنصر الضامن للاستقرار المالي العالمي (مجلة فورين أفيرز) عدد نوفمبر / ديسمبر 2000)؟ بطبيعة الحال, لم يتساءل بيرجر نفسه وماذا سيكون الحال لو جنح السمسار الى جانب دون جانب وكيف يكون السمسار الامريكي نزيها وموضوعيا ومحايدا بينما طائراته المروحية المتقدمة هي وليس غيرها التي تقصف المدن والقرى الفلسطينية وهي وليست غيرها التي تقتل المدنيين غير المحاربين, فاذا ما طلب الجانب الفلسطيني حماية دولية, مجرد قوات دولية لحماية المدنيين في ارض فلسطين من بطش الالة الحربية الاسرائيلية, وذلك امر تكفله اساسا, وكما اوضحنا في احاديث سبقت اتفاقيات جنيف الشهيرة لعام 1949 يفاجأ العالم ــ وربما لا يفاجأ العالم, بأن السمسار, الوسيط الامريكي هو وليس غيره, اول من يقف رافعا حق الفيتو لرفض هذا الاقتراح في مجلس الامن الدولي, ولايتورع الوسيط السمسار المذكور اعلاه عن رفع الشعار الذي اصبحنا نشعر ازاءه بقدر لا بأس به من الاستفزاز خاصة حين تردده اطراف عربية ــ شعار (عملية السلام) الذي يكاد يرادف شعار (مقاولة السلام) جندوا الكتبة والدعاة ودهاقنة الميديا وسماسرة التطبيع.. ناهيك عن (ثقافة السلام) التي استغلوا منظمة اليونسكو التربوية المحترمة لترديدها وترويجها وتصويرها وكأنها طوق الانقاذ للفلسطينيين في الارض المحتلة بالدرجة الاولى. رأي اكاديمي منصف والحاصل انه يمكن القول بأن سنوات عملية ــ مقاولة السلام هذه كانت من اسوأ السنوات التي مرت على الشعب الفلسطيني في الارض المحتلة وليس هذا رأيا عربيا متحمسا ولكنه رأي مفكر امريكي نشر مؤخرا مقالا في هذا المعنى بالذات ــ جريدة هيرالد تربيون, عدد 2000/11/9 ــ ان صاحب المقال البروفيسور كلود برودرلين الاستاذ بجامعة هارفارد, يتطلع الى الادارة الامريكية الجديدة (وهي لم تحسم بعد حتى كتابة هذه السطور) ويحثها ــ ايا كان انتماؤها الحزبي على ان تهيىء نفسها لكي تتفهم جوهر الموقف المتفجر الملتهب في الشرق الاوسط.. وفي هذا يقول المفكر الامريكي: للمساعدة على تحقيق السلام في الشرق الاوسط, ستكون الادارة الامريكية الجديدة بحاجة الى مزيد من التأمل والتفكير بشكل اكثر جدية بشأن الاسباب التي تدفع شباب الفلسطينيين الى التضحية بحياتهم ومواجهة خطر الموت وهم يرجمون بأحجارهم القوات الاسرائيلية المدججة بالسلاح). ان الاستاذ كلود برودرلين من القناعة بأن ادارة كلينتون قد تنكبت الطريق السليم للتوصل الى حل للقضية عندما جعلت الامن في مقدمة الاولويات ومن ثم دفعت باستثمارات كثيفة ــ كما يقول ــ في مجال الشرطة وخدمات الاستخبارات الفلسطينية بدلا من ان توظف هذه الاستثمارات القاتلة ولو جانبا منها فيما يعنيه الاستاذ الامريكي بأنه التحول الديمقراطي داخل المجتمع الفلسطيني ذاته واصلاح الخدمات الاساسية اللازمة لذلك المجتمع العربي. ماذا كانت النتيجة؟ يجيب العالم الامريكي قائلا : ــ في ظل هذه الاستراتيجية الامنية في جوهرها لم يجد ابناء الشعب الفلسطيني قط من يعاملهم على انهم شركاء في عملية السلام بل كانوا يصورنهم في الاساس على انهم خطر امني يجب العمل على احتوائه وها هي اعداد الذين يفقدون حياتهم كل يوم من الجانب الفلسطيني تقف شاهدا على مدى ما يجتاج نفوس الفلسطينيين من غضب ويأس على نحو ما يتبدى في المظاهرات التي توضح بدورها ــ والحديث لايزال للاكاديمي الامريكي الكبير ــ ان جمهرة الفلسطينيين يعتقدون انهم لم يجنوا سوى النذر القليل اليسير من ثماني سنوات استغرقتها عملية السلام لدرجة وصلوا معها الى انه لم يعد لديهم ما يخسرونه اذا ما عملوا جاهدين على اسقاطها من اساسها. بعد ذلك يستعرض الرجل ــ في نظرة فاحصة ومكثفة ذلك الذي جناه الفلسطينيون من وراء ما يسمى بـ (عملية السلام) كم رسموا واستخدموا الميديا والبروباغندا والتصريحات الوردية من الجانبين ناهيك عن بيانات مروجي التطبيع مع العدو الصهيوني استخدموا هذا كله لكي (يبيعوا) للشعب الفلسطيني اتفاقات شتى قالوا انها مبرمة لصالحه ما بين مدريد الى اوسلو وما بين واي ريفر الى شرم الشيخ ومن قبلها كامب ديفيد 2 (باعتبار ان كامب ديفيد الاولى هي الجد الاعلى او الجذر الرئيسي لمقاولة السلام من اساسها). كشف الحساب المدين كيف عاد هذا كله على شعب الارض المحتلة في فلسطين؟ على بلاطة وبغير مواربة يؤكد الاكاديمي الامريكي ان الظروف المعيشية للشعب الفلسطيني منذ اعلان اوسلو اياها ظلت في حال من التدهور المطرد سواء في مجالات الصحة او التعليم او البيئة وحسب معايير البنك الدولي, تفيد تقارير الامم المتحدة ان مستويات المعيشة في الضفة والقطاع بنسبة تزيد على 30 في المئة منذ عام 1992 وبرغم الارتفاع البالغ في حجم المعونات الخارجية المقدمة لتلك المناطق (العربية) (بحجم يفوق 3 مليارات منذ عام 1998) الا ان ثلث سكان قطاع غزة مثلا مازالوا يعيشون تحت خط الفقر ولو استمرت عمليات (اغلاق المناطق) التي تعمد اليها اسرائيل كاجراء مضاد للانتفاضة لارتفع معدل الفقر حسب المتوقع ليصل الى 40 في المئة بل و50 في المئة خلال اشهر قليلة مقبلة, ويزيد من هذه الضغوط المعيشية عامل التوتر الديمغرافي الذي يفيد بأن سكان القطاع سيزيدون ــ حسب الاسقاطات المعمول بها ــ بمقدار مليون نسمة فيما يزيد سكان الضفة بواقع 1.6 مليون نسمة خلال الاثنتي عشرة سنة المقبلة وتلك قنبلة خدماتية موقوتة (ولقد نضيف من جانب آخر انها قنبلة سكانية موقوتة يمكن ان تنفجر شظاياها يوما بوجه اسرائيل ذاتها اذا مد قدر استمرار الاوضاع الراهنة). قراءة اشمل لحقوق الانسان ونحسب ان مثل هذه الطروحات من جانب مثل هذا الاكاديمي.. ينبغي ان تحفز الاطراف العربية, وخاصة في مجالات الدبلوماسية والسياسة والاعلام الى ربط قضايا السياسة بقضايا التنمية والاقتصاد والى قراءة حقوق الانسان الثابتة والعائدة للفلسطينيين على نحو اشمل من حق السيادة وهو حق اساسي وحق تقرير المصير وهو حق جوهري بما يجعل معادلة النضال الفلسطيني ــ العربي تشمل ايضا الحق في الحياة والحق في التنمية والحق في الشراكة الديمقراطية وفي شفافية الحكم ونزاهته على مستوى السلطة الراهنة او الدولة الفلسطينية المنشودة. كاتب سياسي من مصر

Email